كان إدوارد سعيد (1935-2003) إنسانا مركبا وحيويا، وأحد أكثر مفكري عصره إثارة للاهتمام، وُلد في القدس ودرس في الولايات المتحدة في مؤسسات رابطة اللبلاب (رابطة رياضية تجمع 8 من أعرق الجامعات الأميركية)، وكان مثقفا، وصُنّف ضمن آخر المفكرين الكبار الحقيقيين، وكان كتاب “الاستشراق” (1978) -الذي اشتهر بفضله- أحد الأعمال الأساسية لحقل دراسات ما بعد الاستعمار.
في 2021 أصدر عنه تلميذه الأكاديمي الأميركي تيموثي برينان أستاذ الأدب المقارن والدراسات الثقافية واللغة الإنجليزية في جامعة مينيسوتا، كتاب “أمكنة العقل: حياة إدوارد سعيد”، وهو كتاب يكتسي أهمية استثنائية سواء لمؤلِّفه أو للمؤلَّف عنه.
في الكتاب قدم برينان “سيرة فكرية” عميقة لإدوارد سعيد؛ سلط فيها الضوء على الجانب الإنساني والفكري لسعيد بنحو متواز حاول فيه سبر أغوار الجانب الإنساني للمفكر الفلسطيني، وفي الوقت نفسه قام بالحفر المعرفي خلف المسارات المواكبة لأهم أفكاره، سواء تلك المرتبطة بجانبه الفكري، مثل أطروحاته عن الإمبريالية والاستشراق ونظرته للاحتلال والغرب، وكذلك نظرته للقضية الفلسطينية والصهيونية.
وفي الوقت نفسه استخرج الكتاب جوانب أخرى من حياة سعيد لا يُلتفت إليها عادة، ومنها جانبه المرهف المرتبط بالأدب والفن والموسيقى. حاول برينان أن يقدم لنا عملا متكاملا يليق بمفكر بحجم إدوارد سعيد، وفي هذا السياق حاولته الجزيرة نت للحديث عن مضامين كتابه العميق.
-
ما الذي تسعى له من خلال كتابك؟ وما السبب وراء اختيارك هذا العنوان المثير للكتاب “أمكنة العقل”؟
أردت من خلال الكتاب حكاية قصة أحد أعظم مفكري القرن الـ20، المقاتل الجذاب، الذي قدم نفسه للناس في لحظة انتقالية حاسمة في السياسة الإمبريالية غيّرت الشرق الأوسط بوجه خاص. فعلى الرغم من الشعبية الهائلة التي يتمتع بها سعيد، وكتبه التي حظيت بمبيعات هائلة، وشهرته الدولية بصفته ناقدا وناشطا، لم يقم أحد حقا بجمع شتى مواده ليسرد لنا القصة الكاملة لحياته؛ هذه المواد تجدها مبثوثة في نصوص الطلاب، وشهادات أصدقاء الطفولة، وملاحظات من الكلية، ورسائله الحميمة التي جمعته بالروائيين الحاصلين على جوائز نوبل، ومخطوطات روايته، وكذلك قصائده وقصصه القصيرة، وبالتأكيد مقالاته وكتبه الأدبية؛ بصيغة أخرى أردت أن أحكي قصة كاملة تنزع الطابع الأسطوري عن حياته، وتملأ الفراغات التي تركها عند سرد أجزاء من حياته، أردت أن تعكس هذه السيرة الذاتية العديد من أعمال إدوارد سعيد، لذا عمدت إلى استحضار منظور مئات الأشخاص الذين قابلتهم من أجل الكتاب، حتى لا نجعل سعيد حبيس وجهة نظر واحدة فقط.
أما عنواني “أمكنة العقل”، فقد اخترته لسببين: الأول أنه يجسّد أحد الجوانب الحاسمة للتجربة الفلسطينية من دون حاجة إلى الإسهاب في الحديث عن فلسطين، على غرار قصيدة محمود درويش “رسالة من المنفى”؛ أمور مثل حرمان المرء من حقه في العودة تجعل من المحنة الفلسطينية نموذجا يتجسد ذهنيا عند سعيد، ليجعل ذلك من فلسطين مكانًا للذهن بدل أن يكون مكانًا للسكنى.
والسبب الثاني لاختياري هذا العنوان هو إبراز اهتمام سعيد العميق بالجغرافيا طوال حياته المهنية؛ لقد جعلته تجربة السلب هذه مدركًا -كما يتضح في كتابه الثقافة والإمبريالية- أن المشروع الإمبراطوري يدور قبل كل شيء حول احتلال الأراضي، إن الحرب بين الشعوب هي في الأساس معركة على المساحة، فرجل يؤكد قوة الأفكار مثل سعيد يدرك أن الأرض شيء مادي غير قابل للتفاوض أو التحويل، في حين حث حلفاءه الماركسيين على عدم التركيز على الزمن كثيرا في تحليلاتهم، وبدلا من ذلك، نصحهم أن يبنوا قراءتهم للتاريخ، كما يفعل الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، على الحقائق المادية للمكان (موقع يمكن للمرء الدفاع عنه، مشهد معين للخيال القومي)؛ هذا التركيز هو ما كنت أشير إليه أيضا عبر العنوان الذي اخترته للكتاب.
-
لم تقدم سيرة ذاتية بسيطة عن إدوارد سعيد، ولكنك قدمت لنا سيرة تبرز تطور فكره خلال حياته، هل يمكن أن توضح ذلك؟
اتصل بي وكيل أدبي معروف في نيويورك ليقول إن هناك اهتمامًا كبيرًا بين دور النشر بنيويورك لنشر سيرة ذاتية فكرية لإدوارد سعيد، فقدمت مقترحا من نحو 45 صفحة لسيرة ذاتية فكرية؛ هذا لا يعني أنني تجاهلت تضمين طفولة سعيد، أو زواجه المأساوي الأول، وكذلك اقتباسات من رسائله الشخصية وما إلى ذلك، لكن كان عليّ أن أفعل ذلك بجانب تتبعي لتطور أفكاره خطوة بخطوة من أجل تحديد الأفكار الكبرى، ومعرفة جذورها، وسبب تحولها إلى أفكار مهمة.
لذلك، تم الاتفاق منذ البداية على جعل الكتاب سيرة ذاتية فكرية، حرصت فيه أن يكون العمل متوازنا بين الجانب الفكري والذاتي، فرغم أن المحرر دفعني أكثر فأكثر نحو الحكايات والمقالات القصيرة ذات الطابع الدرامي (وهو أمر لم يغفل عنه الكتاب) لكني تمسكت كذلك بالسرد القائم على مسار أفكاره، لإظهار كيف يسهم كونه ناقدًا أدبيًّا فيلسوفًا قاريًّا في تفاصيل حياته المبكرة المشكّلة لمساره السياسي، والمحددة لأفكاره المحورية الكبرى.
لم يكن هناك شيء يهمّ سعيد أكثر من كونه مثقفا، ومن ثمّ فإن ما يعنيه من أنه قد أصبح مثقفا ومن كيفية تفاعله مع العالم من جلباب المفكر هو أهم شيء يمكن أن تجده في أي سيرة ذاتية لسعيد، وهو ما حرصت على إظهاره في الكتاب، وإن لم تفعل ذلك، فأنت لست صادقا معه.
-
في الكتاب أشرت إلى أن علاقة إدوارد سعيد مع الغرب بدأت قبل التحاقه بالمدارس والجامعات هناك، في الكتاب نلمس أنك تشير إلى أن سعيد ليس غربيا أو شرقيا بالمعنى البسيط للكلمة، كيف ذلك؟
يجب التذكير هنا بأن سعيد كان دخيلا حتى أثناء نشأته في القاهرة؛ فقد كان مواطنا أميركيا منذ ولادته بسبب جنسية والده، وعضوا في الهجرة “الكبرى” التي شهدتها “سوريا الكبرى”، ولم يكن مسيحيا فحسب، بل كان ينتمي إلى أقلية صغيرة من المسيحيين تدعى “الأنجليكية” وهو مذهب المحتل البريطاني، لذلك جسّد سعيد مزيجا غريبا.
حتى قبل مجيئه إلى الولايات المتحدة في سن الـ15 لإكمال تعليمه قبل الجامعي في مدرسة داخلية دينية بريف ماساتشوستس في ذروة الحرب الباردة، فإنه تلقى تعليمه داخل مؤسسات أنجلوسكسونية، كان معظمها بريطانيا، ووفق هذا المعنى فإنه كان غربيا تماما.
لكن سعيد منذ وجوده في القاهرة شعر بعمق كونه عربيا متصلا بقوة بالعروبة، وبسبب أعمال الإغاثة التي قدمتها عمّته نبيهة للاجئين الفلسطينيين بعد عام 1948 (عندما كان سعيد يبلغ من العمر 13 عاما)، فقد ارتبط عاطفيا بعمق بفلسطين.
ومن الأمور التي تمكنت من توضيحها من خلال إعداد البحث للكتاب أن سعيد لم يتم تسييسه فجأة من قبل نكسة عام 1967، وأصبح للمرة الأولى فلسطينيا واعيا لذاته، هذه هي القصة النموذجية التي تُروى عنه، لكنها ليست صحيحة حقا؛ فأصدقاؤه في المدرسة الداخلية (عندما كان عمره 15 عاما) يشهدون على تصويره لنفسه على أنه فلسطيني، كما كتب مقالا سياسيا عن عبد الناصر وأزمة السويس لصحيفة برينستون الطلابية، يؤدي فيه بوضوح دور مفكر عربي يشرح تعقيدات الشرق الأوسط للغرب، أعرب عبره عن استيائه مما تفعله الصهيونية بشعبه لأصدقائه في الكلية في برينستون، وكذلك لكل طلابه اليهود في جامعة كولومبيا عندما كان مدرسًا شابًّا قبل عام 1967، وذلك عندما أشركوه في نقاش عن إسرائيل حينما أوضح أنه كان يتحدث كفلسطيني.
فهل كان غربيًّا بالدرجة الأولى؟ حسنا إلى حد ما، بالنظر إلى كيفية عمل الإمبريالية، فإن الجميع كذلك، إن التاريخ الكامل لمفكري النهضة هو حكاية غربية غير كاملة، كان محركها الأساسي يتجسد في كيفية التعلم من الغرب مع ابتداع مساحة أصلية للتفكير.
لم يكن سعيد غربيا فحسب، فقد انغمس في الفلسفة القارية، والأدب الإنجليزي والفرنسي، والتراث الأوروبي للموسيقى الكلاسيكية، وأتقن كل ذلك، لكن هذا لم يجعله أقل عربية.
كما أنه كان مطّلعا واعيا لأعمال مثقفي النهضة، مثل كلوفيس مقصود، وألبير حوراني، وعبد الله العروي وغيرهم.
وأشرت في السيرة الذاتية إلى أن ملهمه كان رجل الدولة اللبناني البارز شارل مالك (صديق العائلة وزوج ابنة عم والدته إيفا) الذي كان أحد الأوصياء عليه في الولايات المتحدة، وكذلك المفكر قسطنطين زريق الذي قام على تربية زوجته مريم كأنها واحدة من بناته؛ هذان الاثنان كان لهما تأثير عظيم فيه، وأعدّاه فكريا لخوض مغامرته لاحقا. سعيد كان أميركيا وعربيا، ونظرا لشخصيته المتناقضة والنقدية، فإنه لم يكن ينتمي إلى أي مكان.
-
أشهر كتب إدوارد سعيد هو كتابه “الاستشراق”، الذي انتقد فيه الاستشراق بصفته منطقا، ولكن في كتابك نجد أنك تقدم زاوية أخرى للتعامل مع هذا الكتاب، كيف ذلك؟
غالبا ما تساء قراءة “الاستشراق” باعتباره كتابا يدين فيه التصور الغربي للعرب أو المسلمين، فهناك كتب عديدة قامت بذلك قبل سعيد؛ ومن ثم فإن ذلك لم يكن أبرز ما جاء به، ولا يمكن افتراض أنه يدين “المستشرقين” ببساطة لأن أطروحته أكثر تعقيدا من ذلك، لسبب واحد؛ فعلى الرغم من أن لديه انتقادات قوية للغاية تجاه المستشرقين: إرنست رينان، وهاملتون ألكسندر جيب، وإدوارد لين، فإنه كان مغرما أكثر بأشخاص مثل ريموند شواب، ولويس ماسينيون.
وهنا ينبغي التذكير بأن سعيد كان مبهورًا ببعض المستشرقين المعاصرين مثل جاك بيرك، وماكسيم رودنسون (غالبًا ما تراسل مع الرجلين)، وشعر بنفسه أنه ينتمي لهم إلى حد ما، لذا فإن أحد التيارات الخفية المهملة للاستشراق هو تدريبه المهني تحت إشراف فقهاء اللغة الكبار الذين عرضهم الكتاب على أنهم “المستشرقون” الذين يفترض أنه ينتقدهم، ولكنه يحاول أيضا التعلم منهم.
إنه يشعر بالرهبة من سعة اطلاعهم، ومعرفتهم اللغوية، ودراساتهم المستمرة والدقيقة للنصوص التراثية، ومع ذلك، في الوقت نفسه، قدرتهم على تحويل هذه المعرفة المتخصصة إلى دراما عظيمة للروح البشرية.
كما يشرح كيف أحدثوا، باعتبارهم أصحاب نزعة إنسانية، نوعا من السلطة التي عززت الأحكام القبلية المتداولة بالفعل، يريد أن يتعلم هذه التقنيات من أجل الجانب الآخر، إذا جاز التعبير.
-
في كتابك يمكن أن نلمس بجلاء أنك تريد إخبارنا أن إدوارد سعيد أكبر من أن يختزل في كتابه “الاستشراق”، فأبعاد شخصيته ومعرفته متنوعة، إن كان هذا صحيحا هل يمكن أن توضح لنا ذلك أكثر؟
صحيح تماما، سعيد أكبر من أن يختزل في كتابه “الاستشراق”، بل إن هذا الكتاب ربما ليس أهم أعماله، وهنا تجب الإشارة إلى أنه لم يقدم أحد حتى الآن كتابات أفضل مما قدم سعيد عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وعن أصول الصهيونية ومعناها، فكتابه “قضية فلسطين” هو إبداع أكاديمي، خاصة فصله المعنون بـ”الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها”؛ وكذلك كتابه مع كريستوفر هيتشنز “إلقاء اللوم على الضحايا”، فإنه يقدم كتابات تمهيدية بصوت بشري قوي لا يشبه أي شيء متاح في أي مكان آخر.
سعيد كان موسوعة متنقلة، مملوءة بالخرائط الطبوغرافية، والتفاصيل الدقيقة المجمعة من الصحافة العبرية، وكذلك اندياح معرفته بالأدب الإنجليزي الذي لطالما استخدمه لتوضيح نصوصه وإضفاء الطابع الإنساني عليها.
وسعيد هو من نحت أول مرة في كتابه “تغطية الإسلام” مفهوم “الإسلاموفوبيا” في خضم نقاشه لأزمة الرهائن بإيران، كما أن كتاب “تغطية الإسلام” يعدّ عملا مهما في النقد الإعلامي، انتقد فيه الوظيفة الدعائية لوسائل الإعلام الأميركية وهو جانب مهمل من فكره.
فضلا عن كل هذا، هناك مئات من المقالات الأدبية التي كتبها، وكانت مؤثرة بشكل مثير للدهشة في مجالها، فهي قادرة (في عصر “نظريات” ما بعد البنيوية) على الحفاظ على مزيد من الانفتاح.
ثم هناك كتاباته عن سيرته الذاتية، كما أنه كتب روايتين في مراحل مختلفة من حياته، وكتب قصة قصيرة رائعة بعنوان “سفينة للمصغي” عن شتات ما بعد عام 1948، لكنه تخلى عن الروايات لحساب المذكرات، ليكون كتابه “خارج المكان”، في نظري، أفضل كتبه.
ولم تقتصر هذه المذكرات على التقاط وإحياء العالم المنسي لطفولته (بكل ما تحمله من ذكريات متجسدة عن التجربة الفلسطينية)، بل أثارت إعجاب روائيين كبار مثل باتريشيا هايسميث، والحائزين جائزة نوبل مثل كنزابورو. أوي، ونادين جورديمر، وكلاهما راسلاه بمدى تأثير كتاباته فيهما.
كما أن هناك جانبا مهما آخر يكمن في كتابات سعيد المرتبطة بالموسيقى، فقد كانت إلهامات سعيد الأولى موسيقية، ولم تكن أدبية، وكان يخطط في مراحله الأولى أن يعمل عازفًا للبيانو. قال عازف البيانو الكبير دانيال بارنبويم إن سعيد يعرف “كل شيء” يمكن معرفته عن الموسيقى الكلاسيكية، لذلك من الممتع أن نرى سعيد ينغمس في نقده للموسيقى، ومما سمح له بإظهار تلك الجوانب الجمالية رهافة حسّه (وهو جانب يفتقد في كثير من الأحيان في نقده الأدبي).
-
ذكرت أيضا جانبه السياسي خاصة الجانب المرتبط بالقضية الفلسطينية، الذي لم يكلل بنجاحه المعرفي نفسه، هل يمكن أن توضح لنا رأيك أكثر؟
ربما يكون من العدل أن نقول إن سعيد كان أقل نجاحًا في تحقيق أهدافه لفلسطين مما كان عليه في مجالات عمله الأخرى، لكن هذا لا يعني على الإطلاق أنه لم يحقق شيئا؛ لقد غيّر بمفرده طريقة نظرة العالم إلى فلسطين، إذ جعل نقد الصهيونية شائعا بالفعل في بعض الدوائر الأكاديمية، ومقبولا من الناحية العلمية.
في سنواته الأولى عندما كان ناشطا، انجذب إلى أكثر الفصائل الراديكالية في منظمة التحرير الفلسطينية (على الرغم من أنه لم ينضم رسميًّا إلى أي منها)، ومع ذلك، سرعان ما أقنعه صديقه إقبال أحمد بأن الحل العسكري مستحيل، وأن السبيل الوحيد للنجاح هو حيازة مكانة أخلاقية عالية وكسب الرأي العام (خاصة الرأي العام الأميركي) بالطريقة نفسها التي كانت الحركة المناهضة للفصل العنصري قد دعمت بها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا.
لقد أسهم سعيد أكثر من غيره في جعل الناس يدركون أن منظمة التحرير الفلسطينية هي حركة تحرر مناهضة للاستعمار، ومن ثم ينبغي دعهما.