ينبغي أن تكون عملية إعادة الإعمار جزءا من عملية بناء السلام المناط بها المحافظة على مكونات النسيج الاجتماعي وتمكين المواطنين من العودة السريعة إلى مناطقهم لتعود معهم الحياة إلى المدينة، لا أن يهجروا ويقصوا وتطمس هوية مدينتهم، كما يقول ناشطون
أثارت عمليات الهدم من أجل إعادة الإعمار بعد ما سببته الحرب من دمار في الأحياء القديمة وسط مدينة بنغازي (شرقي ليبيا) موجة انتقادات واسعة بسبب ما قيل إنه “عمل غير واضح” طال المباني التاريخية وأبرز معالم المدينة التي تعرف بعاصمة الثقافة الليبية؛ بتنوعها الثقافي والمعماري على مدى تاريخها الطويل.
وفي المقابل، لم تكشف أي جهة رسمية أي تفاصيل عن عمليات الهدم، كما لم تعلن بلدية بنغازي أو لجنة إعادة الإعمار أي معلومات أو خرائط أو صور لعمليات الهدم، رغم أن معظم تلك المباني يشملها القانون رقم 3 لسنة 1995 الذي ينص على حماية المباني التاريخية، حسب مختصين.
“هدم” مع وقف التنفيذ
وإثر الحملات التي أطلقها ناشطون تحت وسم (#أوقفوا_هدم_بنغازي)، أجرى المجلس التسييري للبلدية وصندوق إعمار بنغازي جولة تفقدية لبعض مواقع منطقة وسط البلاد، وأوضح المجلس -على حسابه في فيسبوك- أنها تأتي “في إطار مُتابعة أعمال الحفاظ على الأسواق والمباني التاريخية التي تمس الهوية الوطنية والموروث الثقافي لمدينة بنغازي”.
ومن هذه المواقع ذكر المجلس: ميدان البلدية، وسوقي الربيع والحوت، وشارع عمر المختار، وميدان الخالصة، والبرلمان التشريعي البرقاوي، بالإضافة إلى بعض المنازل التاريخية مثل “حوش الكيخيا”.
وتؤكد هيئة آثار بنغازي أن عمليات الهدم ستتوقف بعد تواصلها مع الجهات المختصة حماية للموروث الثقافي للمدينة، وفق ما نشرته على حسابها بفيسبوك.
إهدار للهوية أم إعمار؟
ورغم أن معظم تلك المباني تعرض للهدم فعليا، كما توضح الصور ويؤكد شهود عيان وناشطون للجزيرة نت، فإن البلدية تؤكد أن المشروع يستهدف “إعادة بناء بعض المباني التاريخية بنفس ما كانت عليه في السابق؛ كسوقي الحوت والربيع، حفاظا على هوية المدينة”.
وتشير البلدية إلى أن الهدم لن يستهدف معالم تاريخية أكثر أهمية، مثل: المسجد العتيق، والعديد من الزوايا الصوفية، وكذلك القصر العثماني، والكنيسة الكاتدرائية، والكنيسة الكاثوليكية، والمعبد اليهودي، وسينما برنيتشي ومبنى السقراسيوني الذي يعود للاحتلال الإيطالي، وصولا إلى قصر المنار وشرفته التاريخية المحطمة التي أعلن منها الملك إدريس السنوسي استقلال ليبيا في 24 ديسمبر/كانون الأول 1951.
وتؤكد الحقوقية والناشطة المجتمعية الزهراء لنقي أن الجهات المسؤولة مثل بلدية بنغازي ولجنة إعمار المدينة لم تقدم الردود الشافية رغم ما حدث من ضرر حتى الآن، واصفة عمليات الهدم بالغامضة ومنعدمة الشفافية، واستنكرت حرمان المواطنين من حق المعرفة.
وتتساءل: “من يقوم بالهدم ومن سيقوم بالبناء؟ هل هي جهة محلية أم إقليمية؟ عدم طرح العطاءات بشفافية وعدم أخذ رأي المواطنين في عملية إعادة البناء انتهاك لحق أصيل من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لأهالي بنغازي”.
وتشير لنقي إلى أن الحق في السكن والحماية من الإخلاء حق أساسي كفله العهد الدولي لحقوق الإنسان في المادة 25 والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالمادة 11.
الزهراء لنقي ترى أن ما يُروج له من هدم وإعادة بناء على أنه إعادة إعمار للمدينة التي عانت ويلات الحروب “هو أبعد ما يكون عن ذلك، لأن عملية الهدم والبناء ستخلق حقائق جديدة على الأرض، من شأنها أن تغير النسيج الاجتماعي وتمحو الذاكرة والهوية الثقافية للمدينة”.
وتضيف للجزيرة نت أن الأولى هو “تحقيق عمران اجتماعي يوازن بين الهندسة المعمارية والمجتمع لا أن يلغيه”.
وينبغي أن تكون عملية إعادة الإعمار جزءا من عملية بناء السلام المناط بها المحافظة على مكونات النسيج الاجتماعي وتمكين المواطنين من العودة السريعة إلى مناطقهم لتعود معهم الحياة إلى المدينة، لا أن يهجروا ويقصوا وتطمس هوية مدينتهم، كما توضح الناشطة.
“حدائق التفاح الذهبي” الشاهد الصامت
ويتطرق الباحث المهتم بالتراث الإنساني والموروث الثقافي فرج غيث إلى إرث المدينة التاريخي والثقافي العائد إلى الإغريق الذين أنشؤوها في 525 ق.م، وأطلقوا عليها اسم “هيسبيريديس”، وتعني “حدائق التفاح الذهبي”، ومرت بعدة حقب، وتم بناؤها وتخريبها عدة مرات.
ويتساءل غيث عن سبب “حرمان بنغازي من التعايش مع التراث أسوة ببنايات في مناطق أخرى من العالم، متحدثا عن عمليات الهدم والتخريب التي شهدتها بنغازي في كل الحقب الماضية تحت الاستعمار الإيطالي وإبان المملكة وفي عهد القذافي، وحتى بعد 17 فبراير/شباط والأسباب مختلفة”.
غيث أحد مؤسسي مؤسسة إرثنا للتراث والثقافة (EFHC) في بنغازي، وتحدث بمرارة عن فقدان مدينته ما هو أكبر من معمارها المادي، بل ما يتصل به من جانب روحي، وجب الحرص عليه أسوة ببقية الأمم، ويتابع “دائما تسبب لنا الحروب الدمار والفوضى وفقد الكثير من الأرواح، ورغم تدمير بعض المباني التاريخية والأثرية في الحروب، فإن هناك بعض المباني التي ظلت صامدة كي تحكي لنا ما حدث”.
ويرى القائمون على مؤسسة إرثنا أنه من الضروري أن يحتوي أرشيف البلدية على قسم خاص بالمباني التاريخية المفقودة والمتضررة والناجية حتى الآن، حيث يخصص لكل مبنى سجل يبين كل ما يتعلق بإنشائه ومكانته ووظائفه.
خطوة “غير محسوبة”
ويتطلب ذلك المجهود التوثيقي الحصول على وثائق من المصادر الرسمية كأرشيف وزارة المستعمرات الإيطالية، حسب غيث الذي يضيف “دمُرت الكثير من البنايات والمعالم التي تعود إلى تلك الحقبة، ومنها ما سوي بالأرض، نتيجة تجدد النزاعات والحروب بين أطراف مختلفة، منهم من هو من خارج البلاد ومنهم من حسبوا على البلاد”.
وإلى جانب ذلك، تم تغييب المختصين من باحثين ومؤرخين ومهندسين لهم دراية بالتعامل مع المباني التاريخية والأثرية في كل مرة تقرر فيها الجهات المسؤولة القيام بعمليات إعادة إعمار أو استحداث مشاريع عمرانية جديدة، لا سيما بعد ما شهدته بنغازي من حرب مدمرة بين عامي 2014 و2017، كما يؤكد معارضو عمليات الهدم التي وصفت بالعشوائية.