يلعب الخيال الكوري الجنوبي في مساحات مختلفة من الدراما والقيم التي تحكمها، فقد يخفي الوالد مهنته عن ابنته لأسباب تتعلق بكون ما يفعله لا يحظى بالاحترام الاجتماعي، لكن المبدع الكوري يبالغ في استخدام تيمة الإخفاء عن الأبناء، ويصل إلى نهاية الخط مصورا أمًا تعمل قاتلة محترفة لدى شركة لتوظيف القتلة المحترفين.
وهذه الأم المتفوقة في عملها لدرجة الكمال تقع في تناقض حيوي حين تجد أن علاقتها بابنتها المراهقة ليست على ما يرام، ومن ثم تكشف التناقض الحاد بين كونها أما حنونًا، وفي الوقت نفسه قاتلة لا ترحم.
هذه المبالغة في استخدام التيمة أمر ليس جديدا على الدراما الكورية التي انتشرت في أعمالها -خاصة التلفزيونية- فكرة النفاذ إلى ما بعد الموت ومحاولة العيش بعده.
ويأتي فيلم “اقتل بوكسون” (Kill Boksoon)، الذي يعرض حاليا على شبكة “نتفليكس” (Netflix)، ليؤكد معنى لا يحتمل، إذ يبدو العالم خارج منزل الأسرة غابة من الفرائس والمفترسين، وعلى كل شخص أن يحدد مكانه، ويتخلص من طبيعته الحيوانية قبل أن يعود إلى منزل الأسرة.
يتابع الفيلم بالتفصيل كيف تتحول تلك القاتلة إلى أم رحيمة تتخلى عن مهام القتل، وحين تقرر ترك المهنة للتفرغ لأمومتها، تجد نفسها في معركة حياة أو موت.
تعلمت الأم “بوكسون” -التي لعبت دورها الممثلة جيون دو يون- على يد “تشان مين كيو” -الذي لعب دوره الممثل كيونغ غو والذي يدير شركة القتلة- وتلتزم بالقواعد التي يحددها، حيث يعد فشل القاتل في عملية واحدة انتحارا، وعلى الفور يتم قتله، بينما يتم تجديد التعاقد مع القاتل المحترف كل عام بعد اختبار ولائه للشركة ومديرها.
أكشن
يقاس نجاح مشاهد الحركة (الأكشن) بدقتها ومدى قدرتها على إقناع المشاهد بأنها حقيقية، بالإضافة إلى السرعة المناسبة للمعركة نفسها، وقد نجح الفيلم الذي يحمل قدرا متساويا من الحركة مع الحس الساخر والكوميدي الذي يليق بعالم يتم فيه تأسيس شركات علنية للقتل وتوجد فيه نقابة للقتلة المحترفين.
جمع الأكشن في فيلم “اقتل بوكسون” بين فنون القتال الآسيوية التي تستمد إلهامها وحركاتها من الكاراتيه والجودو والكونغ فو وغيرها، وفنون القتال الغربية بالسلاح الناري مع سرعة الحركة والمونتاج السريع والدقيق في الوقت ذاته، بحيث لا تفوت المشاهد حركة يد أو حتى النقطة الأخيرة للرصاصة.
تصل مشاهد الأكشن إلى حد الاقتراب من كونها مشاهد رقصات تعبيرية، لكن المشكلة الكبرى أنها ربما لا تترك ذلك الأثر المتوقع لها نظرا للضغط الدرامي الكبير القادم من أحداث تتعلق بقتل مرجح، أو خطف لابنة مراهقة.
ورغم جمال الحركة وتناسقها في المشهد الرئيسي الذي اجتمعت فيه عصابات مختلفة لقتل “بوكسون” بناء على مؤامرة من أحد زملائها القتلة، فإن حجم التوتر الناتج عن الدراما في ما يتعلق بالابنة والتمادي في منح القتلة الخصوم قدرات قد تهدد حياتها، يجعل من القلق مساحة مبالغا فيها مقابل انتفاء أثر القتال الرائع وتجاهله انتظارا لنتيجته.
وبالمستوى نفسه من الحرفية يجد المشاهد نفسه أمام أم وابنة مراهقة اسمها “تشا مين هيو” (تجسدها الممثلة الصغيرة إيسوم)، التي تحمل في جيناتها قدرات قتالية عالية وشراسة تنتظر الفرصة للخروج، وجفافا عاطفيا خارجيا ينتظر من الأم أن تحرره من غلافه الهش الخارجي لترتمي الابنة في حضنها، لكن الأم التي اعتادت القتل لا العناق تشعر بذلك الحاجز القوي الذي يمنعها من التعبير عن أمومتها.
جاء التعبير الجسدي لكل من الأم وابنتها ليعبر عن تواصل مفقود، وامتد تأثير النظرات المستنكرة تارة والمتوسلة أخرى للحظة إنسانية يغلفها شعور الأمان المفتقد من قبل الابنة التي أخفت شعورها العميق بالحرمان من الحنان بغلاف القسوة على الأم.
تفاؤل شرقي
العلاقات بين الزملاء القتلة تحمل دائما وجهين، فالحوارات اليومية تبدو ودودة للغاية والتواصل بين الأجيال دائم لتوريث المهنة، لكن الوجه الآخر للعلاقة يحمل هدفا واحدا هو التخلص من الزميل للحلول مكانه في الشركة أو خوفا من أن يختطف المكان.
على العكس تماما في الحياة الأسرية، لا بديل للابنة أو للأم، لذلك تنتصر مشاعر الأمومة ويتجلى اختيارها المحتوم في الخلاص من مهنتها بكل ما فيها من علاقات ذات اتجاهين، لتتفرغ لعلاقة مع ابنة لا بديل لها.
تبدا الأم “بوكسون” خوض معركتها ضد مهنتها بقرار عدم تنفيذ مهمة تتلخص في تصفية شاب بريء أراد والده السياسي الفاسد أن يتخلص منه بعد أن عرف خصومه أنه استطاع إلحاقه بدراسة لا يحق له الالتحاق بها.
تعترف “بوكسون” بفشلها في المهمة وهو أمر لا يمكن تصديقه، ويتسلل الشك إلى المدير الذي يتيقن أن الوقت قد حان للقضاء عليها رغم أنها تلميذته المحبوبة، لتبدأ معركة شديدة الشراسة بين قاتلين محترفين لا يريد أي منهما قتل الآخر، لكنها طبيعة المهنة والتزاماتها التي تحتم ذلك.
الفيلم عبارة عن مجاز سينمائي يصور الحياة خارج المنزل باعتبارها معركة حياة أو موت، ويعتبر أن مهمة الأب أو الأم الناجحة -شكلا على الأقل- هو قتل الآخرين، لكن تلك القسوة لا تتفق ومهمة تربية أبناء ينبغي فيها للمشاعر أن تظل نقية من أجل التواصل معهم وتنشئتهم بشكل جيد.
القاتلة المحترفة في الفيلم ليست سوى أم وحيدة تربي ابنة في سن المراهقة، وكان عليها أن تتخلى عن قسوة العالم الخارجي وتوحشه، لتستطيع التواصل مع ابنتها، لكن الابنة ما تلبث أن تبدأ في ممارسة الشراسة بعد أن تتعرض لموقف قاس خارج المنزل لتتفهم ما تعانيه أمها من انفصام بين كونها ينبغي أن تكون قاتلة خارج المنزل وإنسانة داخله.
هزمت الأم العصابة، وتخلصت من مهنتها، لكن مصير الابنة التي تستعد للخروج من منزل الأسرة إلى غابة المجتمع لم يحسم بعد.