مرّ أبو الأسود الدّؤلي ذات يوم على رجل وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ﴾؛ فاشتعلت في رأسه شارة الخطر عندما سمع الرجل يقرأ “ورسولِه” بالجر بينما هي بالرفع، والجر يقلب المعنى ويحوّل المراد عن مساره، فمعنى “ورسولِه” بالجر كما قرأها الرجل أن الله تعالى بريء من المشركين وبريء من رسوله أيضا، وهذا ما يؤديه العطف بالجر، بينما اللفظ في الآية مرفوع على الابتداء، وتقديره ومعناه: أن الله بريءٌ من المشركين ورسولُه أيضا بريء من المشركين.
شعرَ أبو الأسود الدّؤلي أن الأمر جلل فانطلق إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليخبره أن اللسان العربي في خطر وأن التدخل واجب من أعلى سلطة في الدولة لتدارك الأمر؛ فتناول علي رضي الله عنه صحيفة وكتب عليها: بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام اسم وفعل وحرف، الاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عمّا هو ليس اسما ولا فعلا. ثم قال لأبي الأسود: “انحُ هذا النحو”؛ فمن هنا جاءت تسمية علم النحو.
هذه إحدى أشهر الروايات في نشأة علم النحو، وقد ذكرها محمد السيّد عثمان في مقدمة تحقيقه لكتاب (شرح الدّماميني على مغني اللبيب)، بينما يذكر الذهبي في (سير أعلام النبلاء) ناقلا عن المازنيّ أنه قال: “السّبب الذي وُضعت له أبواب النحو أن ابنة أبي الأسود قالت له: ما أشدُّ الحرِّ؟ فقال: الحصباءُ بالرمضاء، قالت: إنما تعجبت من شدته. فقال: أوَقَد لحن الناس! فأخبر بذلك عليا رضي الله عنه فأعطاه أصولا بنى منها، وعمل بعده عليها”.
كما يذكر الذهبي أيضا أنه: “جاء أبو الأسود إلى زياد فقال: أرى العرب قد خالطت العجم فتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاما يقيمون به كلامهم؟ قال: لا. قال: فجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنون، فقال: ادع لي أبا الأسود؛ فدُعي فقال: ضع للناس الذي نهيتك عنه”.
هذه أشهر الروايات التي تتحدث عن نقطة اتخاذ قرار وضع علم النحو، وهي على اختلافها تدل على أمور عدة يجدر الانتباه إليها:
أولا: الكلام بالعربية السليمة واستخدام القواعد النحوية واللغوية سابق على وضع علم النحو، وهكذا هي سائر العلوم المتعلقة باللغة، وعلوم الشريعة أيضا، فإن استخدامها ووجودها سابق لوضع قواعدها.
ثانيا: أن الشعور بالمشكلة والانحراف عن السليقة واللحن في اللغة هو سبب استنفار من يعرفون قيمة استقامة اللسان بالعربية ويدركون فداحة اللحن فيها، وقد كان أبو الأسود الدؤلي (69هـ) المشهور بفصاحته وسلامة لسانه، يقول واصفا شعوره حين يسمع أي لحن في اللغة: “إني لأجد للحن غَمَرا (تغيُّر رائحة) كغَمَر اللحم “.
ثالثًا: أنّ وضع علم النحو كان الهدف الأوّل منه إعادة ضبط المسار اللغوي والحفاظ على الهويّة عقب الشعور بالخطر على اللسان والهويّة إثر مخالطة الأعاجم، وهذا يؤكد ضرورة بقاء الغيورين على العربية في حالة استنفار واستشعار لكل ما يهددها، ويؤكد ضرورة إيجاد الحلول الناجعة للحفاظ عليها ومواجهة ما يحيق بها من أخطار.
ومما لا شك فيه أنَّ لعلم النحو فضلا في حماية اللغة العربية وحفظها من اللّحن والخلل، فهو معيار سلامة اللغة وميزانها، وقد ظهر بالتزامن مع انتشار الإسلام في أصقاع الدنيا المختلفة واتساع الفتوح الإسلامية، فكان ضرورة حتميّة، لاسيّما حين تتلاقى اللغة العربية مع غيرها من اللغات في صدور المسلمين من غير العرب وعلى ألسنتهم، لذلك يُذكر أن النّحو أول ما دوِّن من علوم العربية في ظلال الإسلام.
نسب عربي أصيل
يمثل علم النحو عصب اللغة المركزي، ويبحث في صحة أساليب الكلم وتكوين الجمل وترتيب الكلمات ومواضعها فيها وإعرابها، فتأخذ كل كلمة محلها الإعرابي الذي لا يتم المعنى المراد إلا به، ولا تنازعها إياه كلمة أخرى بدليل الحركة الإعرابية التي تحملها على الحرف الأخير منها معربة، أو ما تبنى عليه من محل إعرابي في حال كونها مبنية. ويهتم علم النحو إلى جانب الإعراب والبناء بدراسة خصائص الكلمات وما تكتسبه من أحكام وفقا لمواقعها في الجمل كالإسناد والابتداء أو الفاعلية والمفعولية وغير ذلك مما يقتضي التمييز بين المرفوع والمنصوب والمجرور، وتحديد العامل فيه.
وقد نشأ علم النحو في العراق كما يقال بنسب عربي أصيل، وكانت البصرة أولى المدن المشتغلة بعلم النحو، فهي التي وطدت أركانه ورفعت أعمدته، ويقول ابن سلام الجمحي -في ذلك- في كتابه طبقات فحول الشعراء: “وكان لأهل البصرة في العربية قُدْمَة، وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية”.
كانت نشأة علم النحو قائمة على السَّماع بالدرجة الأولى، وتناقلوا ما اتفقوا عليه واستنبطوه فيما بينهم، حتى وصلوا إلى مرحلة أبعد نضجا فبدأت النقاشات فيما بينهم واختلفت الآراء وانقسم علماء النحو إلى مدارس مختلفة؛ ونعني بالمدرسة النحوية مجموعة من النحويين الذين اتفقوا على أصول محددة لقواعد اللغة متكئين بذلك على ما جاءهم من العرب سماعا، وعلى ما ارتأوا صحته بالقياس والاجتهاد، فالتزموا بما رضوه من قواعد ولم يقبلوا بغيرها.
البصريون والكوفيون.. مدارس النحو وأعلامه
تعدّ كلٌّ من مدرستي البصرة والكوفة النحويّتين الأشهر على الإطلاق من بين المدارس والتيارات النحوية، غير أن مدرسة البصرة كانت الأسبق ظهورا؛ تبعا لطبيعة المدينة وما فيها من خيرات جعلت كثيرا من أفواج المسلمين تتوافد إليها. وللحفاظ على اللسان العربي من التحريف والضياع نشأت حركة نحوية داعية لتحديد قواعد اللغة العربية وتأطيرها؛ وذلك بسبب اختلاف الألسنة الوافدة وتمازجها، وخشية من اتساع الخرق على الراقع بمرور الزمن، وسعيا لتقريب المسافات بين الألسنة المختلفة بتوحيدها باللغة العربية واستعمالها بدقة وسلامة وسهولة مع الحفاظ على أصالتها وصونها من أي لحن أو تحريف.
وفي البصرة أقبل المتعلمون الراغبون بضبط اللغة وإتقانها على أبي ألأسود الدؤلي، وامتد بهم الزمن فتتالى النحويون من بعده، ومن أهمهم أبو عمرو بن العلاء (154هـ)، والخليل بن أحمد الفراهيدي (175هـ)، ويونس بن حبيب (182هـ)، وغيرهم. وكان ما وضعه أبو الأسود الدؤلي من أبواب وقواعد أساس النحو البصري حتى ظهور سيبويه عام 180هـ صاحب أهم كتاب في علم النحو، واسمه (الكتاب). وجاء من بعده نحويون ارتبطت أسماؤهم بالمدرسة البصرية ارتباطا وثيقا كالأخفش (215هـ) والمازني (249هـ) والمُبرّد (286هـ) والزَّجّاج (310هـ).
بينما يذكر أن بداية النحو في الكوفة تزامن مع وجود الخليل بن أحمد الفراهيدي في البصرة، مما يعني أن نحو الكوفة متأخر عن نحو البصرة بأعوام كثيرة، أضف إلى ذلك ما يذكر عن اهتمام الكوفيين عامة وتركيزهم على القراءات القرآنية أكثر من أي شيء آخر. ومن أهم وأشهر أعلام النَّحو في الكوفة معاذ الهَرَّاء (187هـ) واضع فن التصريف، والكسائي (189هـ) الذي يعرف بأنه إمام نحاة الكوفة، والفرَّاء (207هـ)، وثعلب (291هـ).
وعلى صعيد الأمصار الأخرى فيذكر أن هناك مجموعة من علماء النحو سموا أنفسهم بالبغداديين، لكن لوحظ أنهم امتداد لمدرسة الكوفة غير أن مقامهم كان في بغداد، ويذكر أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج (117هـ) هو أول من نقل علم النحو إلى المدينة المنورة. أمّا بالحديث عن الأندلس ومجاراة علمائها لعلماء المشرق فيقال إن مدرسة الأندلس النحوية كانت أقرب إلى مدرسة الكوفة، وذلك لأن الكسائي إمام النحو في الكوفة سبق غيره إلى رياض الأندلس، ومن أشهر النحويين الأندلسيين نذكر ابن مضاء (592هـ) والشلوبين (645هـ) وأبا حيان (745هـ).
وفي ظلال الدولة العباسية استمرت جذوة علم النحو بالتوقّد، وانبرى العلماء إلى تفصيل دقائقه ودراستها والإحاطة بكل صغيرة وكبيرة فيه، وكانت بغداد حينها حاضرة العلم والثقافة العربية والإسلامية، وقد اشتهر من النحويين آنذاك السيرافي (368هـ) والفارسي (377هـ) وابن جني (392هـ) والزمخشري (538هـ) وابن يعيش (643هـ) وابن هشام (761هـ) وابن عقيل (769هـ) والأزهري (905هـ) والسيوطي (911هـ) وغيرهم، وكان لكلٍّ منهم تفرّده في بعض الأحكام الدقيقة وأدلته على ما ذهب إليه، إذ يذكر أن ابن جنّي على سبيل المثال يذهب إلى القول إن (إذا) الفجائية ظرف مكان، وفيها كلام طويل واختلاف بين علماء النحو حول حرفيتها أو اسميتها، واختلف الذين قالوا باسميّتها حول كونها ظرف زمان أو ظرف مكان. ومثل ذلك كثير في نقاشات النحويين واختلافاتهم.
لماذا انقسم النحويون إلى بصريين وكوفيين؟
لم يتفق نحويُّو البصرة مع نحويِّي الكوفة في ضبط بعض قواعد اللغة ودقائقها، ولعل أهم الفروق بينهما ما كان في قبول الشاهد اللغوي؛ فالبصريّون تشدَّدوا فيما اشترطوه لقبول الرواية والشاهد، ولم يقبلوا إلا ما جاء عن العرب الخلّص، فلم يأخذوا عن أهل الحضر، ولم يقبلوا بيتا شعريا لم يُعرف قائله، وتخيَّروا من القبائل، فلم يقبلوا إلا التي يثقون بشعرها وأصالتها اللغوية كقيس وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، في حين كان الكوفيون أقل تشددا في مسألة الرواية وقبول الشاهد اللغويّ. والحقُّ عندي أن مذهب البصريِّين في ذلك أولى وأصحّ وأكثر دقّة، فبالنظر إلى ما جاء على لسان ابن النديم في الفهرست نفهم المشهد جيدا، إذ قال: “إنما قدمنا البصريين أولا لأن علم العربية عنهم أخذ ولأن البصرة أقدم بناء من الكوفة”. ولعل مذهب الكوفيين مبني على ما يوافق البُعد الجغرافي للمدينة آنذاك فهي أبعد من البصرة عن الصحراء والعرب الأقحاح.
وفي مسألة تعميم القاعدة النحوية اعتمد البصريون على الأكثر ورودا في اللغة، وما سوى ذلك لا يقيسون عليه ولا يستنبطون منه وغالبا ما وصفوه بالشذوذ، أما الكوفيون فتساهلوا في تعميم القواعد وقياسها، فكلما عرض لهم شاهد يخالف السائد قبلوه وولّدوا منه حكما لأمثاله. وفي هذه النقطة تحديدا كثير من الشواهد التي تؤكد تشدد البصريين وتساهل الكوفيين، وكلا الطرفين نحا منحىً صعبا في ذلك.
واعتمادا على ما سبق لا يبدو مستغربا أن نجد البصريين وقد اعتمدوا السماع وقدموه على القياس اعتدادا بما وصل إليهم من العرب الأقحاح الضاربة جذورهم في الصحراء العربية، في حين قدّم الكوفيون القياس تقديما جعلهم يُغالون في قبول ما يصححه القياس ولا سماع يدعمه أو يسند صحته.
هل نضج علم النَّحو حتى احترق؟
يقال: إن علم النَّحو نضج حتى احترق! واكتمل اكتمالا خالصا، فما عاد فيه موضع لقدم نحويّ جديد غير أن يتقن ويتبنى آراء الأوائل فيَعِيها ويعتمدها، لكن الواقع يؤكد أن علم النحو على تمامه اليوم بقي على مدى قرون عديدة مجالا للأخذ والرد، فظهرت حركات لتجديد النحو مثلا بهدف تسهيله وتقريبه للمتعلمين كما فعل شوقي ضيف (2005م) في كتابه (تجديد النحو)، لكنّها –عامة- محاولات بائسة لم يُكتب لها القبول الحسن، فأي دارس عميق للغة اليوم لن يقبل بما يمس أصالتها أو “يبسّطها” حدّ الإسفاف والسخف، وما من لغة من لغات العالم إلا ولها قواعدها التي تحكمها على اختلاف كثرتها ومرونتها وغير ذلك.
إن جهد النحاة على مرِّ العصور مشكور محمود، فقد حمل الأوائل منهم الأمانة وتركوا ما يُحمد لهم بَدْؤُه ورَعيه، فهو أعظم ما تُرك من ميراث لغويّ حي لن تبلى محاسنه.