“في اليوم الذي نعمل فيه نأكل، وفي اليوم الذي لا نعمل فيه قد ننام جياعا، مع هذا الغلاء لم يعد بالإمكان توقع أي شيء، بما في ذلك وجبتنا التالية”.
هذا ما قاله ليث (48 عاما) -وهو عامل بناء في دمشق- للجزيرة نت متحدثا عن قسوة الظروف المعيشية في مناطق سيطرة النظام تزامنا مع انهيار سعر صرف الليرة أمام الدولار، وما تبع ذلك من ارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع الاستهلاكية والغذائية.
وتخطى سعر صرف الدولار خلال مايو/أيار الجاري لأول مرة منذ بداية الأزمة الاقتصادية في البلاد قبل 12 عاما حاجز 9 آلاف ليرة، وبلغ ذروة ارتفاعه قبل أسبوع مسجلا 9250 ليرة.
وإلى جانب الارتفاع غير المسبوق في أسعار السلع تشهد الأسواق في مناطق سيطرة النظام تخبطا أدى إلى امتناع بعض أصحاب المحال عن بيع السلع، فيما اضطر بعضهم إلى إغلاق محالهم بشكل مؤقت بانتظار استقرار سعر الصرف مجددا، فكيف ينعكس الانهيار في سعر صرف الليرة على معيشة السوريين؟
وجبة براتب
شهدت معظم السلع الأساسية والمنتجات الغذائية خلال الأيام القليلة الماضية ارتفاعا كبيرا متأثرة بانهيار سعر صرف الليرة، فتراوح سعر كيلو لحم الغنم بين 85 و95 ألف ليرة (9 إلى 10 دولارات)، أما كيلو لحم العجل فتراوح سعره بين 75 و80 ألفا (نحو 8 دولارات).
وسجل سعر كيلو الأرز 18 ألف ليرة (دولاران)، وسعر كيلو البرغل 10 آلاف (نحو دولار واحد)، وسعر لتر الزيت النباتي 20 ألف ليرة (2.4 دولار)، وكيلو السمن النباتي 27 ألفا (3 دولارات)، ووصل سعر كيلو البن بهال إلى 100 ألف ليرة (نحو 11 دولارا).
وتضرب هذه الموجة من الغلاء الأسواق السورية، في وقت لا يتعدى فيه متوسط رواتب السوريين في القطاعين العام والخاص منذ عام 2019 حاجز 150 ألف ليرة (نحو 16 دولارا)، فيما الحد الأدنى للأجور 93 ألفا (10 دولارات).
وعن معاناتها بعد انهيار القوة الشرائية لراتبها الشهري، تقول غادة (32 عاما) -وهي ممرضة في مشفى عام بدمشق- للجزيرة نت “بعد أن سحبت الراتب من الصراف الآلي بداية الشهر انطلقت كالعادة إلى السوق لأشتري حاجات المنزل من سمن وزيت وبهارات ومحارم ولحمة وبعض أنواع الخضر، وعلى الرغم من أني لم أشتر سوى القليل من كل شيء فإنه لم يتبقَ من المرتب سوى بضعة آلاف من الليرات لا تكفي ثمن أوقية من البن”.
وتضيف “لولا أني أعمل ممرضة مستقلة في فترة المساء لما تمكنت من البقاء على قيد الحياة”.
ويلجأ معظم الموظفين في مناطق سيطرة النظام إلى العمل في وظيفة ثانية بدوام مسائي، لتغطية الاحتياجات الأساسية في ظل تفاقم الأزمة المعيشية والغلاء المتصاعد في أسعار معظم السلع، والمعوقات التي تفرضها حكومة النظام أمام الراغبين في الاستقالة من الوظائف الحكومية.
وكان رئيس اتحاد العمال في حكومة النظام جمال القادري أشار في لقاء له على إذاعة “المدينة إف إم” مطلع مايو/أيار الجاري إلى أن الحد الأدنى للأجور لم يعد يكفي الموظف ليوم واحد، مطالبا الحكومة بإخضاع نظام الرواتب والأجور لتعديل جذري وإعادة النظر في كل التشريعات المتعلقة بسوق العمل.
من جهته، أوضح العضو في مجلس الشعب السوري زهير تيناوي عقب جلسة للمجلس في فبراير/شباط الماضي أن زيادة الرواتب مرهونة بواردات الخزينة، وأنه من الصعب الحديث عن زيادة في الوقت الحالي في ظل عدم وجود واردات مقبولة.
البيع الحذر
وتشهد الأسواق السورية في مختلف مناطق سيطرة النظام جمودا في حركة البيع والشراء متأثرة بالانهيار المتسارع لسعر صرف الليرة أمام الدولار، ويواجه أصحاب المحال ضغوطا كبيرة للاستمرار في البيع وفق الأسعار التي تحددها النشرات التموينية الصادرة عن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة النظام.
وهذا الأسبوع، لجأ أصحاب المحال التجارية في أسواق دمشق وريفها إلى الامتناع عن البيع أو إلى البيع الحذر وفقا للسعر المتغير للصرف، وفي بعض الأحيان إلى إغلاق محالهم بشكل مؤقت إلى أن يستقر سعر صرف الليرة، مما أدى إلى تخبط في الأسواق وعجز سوريين عن الحصول على بعض الاحتياجات الأساسية.
ويقول مجد (37 عاما) -وهو مدير تسويق في شركة خاصة بدمشق- للجزيرة نت “درت على نصف محلات الشام حتى تمكنت من شراء علبتي حفاظات لأطفالي وبعض الحاجيات الضرورية، فهناك من أغلقوا محالهم، وهناك من قالوا لي إنهم توقفوا عن البيع”.
ويقول الحاج عمر (63 عاما) -وهو صاحب بقالة في باب شرقي- للجزيرة نت “لقد توقفت عن البيع، ولم أبع سوى السلع الأساسية من خبز وخضر ودخان، أما ما تبقى من السلع فبيعها سيسبب لي خسارة لا يمكن تحملها”.
ويضيف “فأسعار البضائع بالجملة في ارتفاع مستمر، أما التسعيرة التي على المنتجات فهي على حالها لا تتغير، وإن بعنا فسيكون البيع بخسارة ولن يغطي ثمن السلع عينها التي سنعاود شراءها بالجملة”.
شبح التضخم
بدوره، يشير محمد الجزماتي -وهو خبير اقتصادي من دمشق- في حديثه للجزيرة نت إلى أن رفع المصرف المركزي سعر الدولار الجمركي بنحو 60% كان العامل الحاسم في ارتفاع أسعار السلع بالأسواق السورية.
ويضيف أن “ارتفاع سعر الدولار الجمركي يعني ارتفاع أسعار البضائع المستوردة بذات النسبة، وهو ما سينعكس على أسعار مختلف السلع في الأسواق ويساهم في زيادة التضخم، والذي لا يبدو أن هناك سياسات اقتصادية جادة من الحكومة للسيطرة عليه”.
وكان رفع مصرف سوريا المركزي الأسبوع الماضي سعر الدولار الجمركي إلى 6500 ليرة بعد أن كان عند 4 آلاف ليرة، وبلغ معدل الزيادة 61%.
وخسرت الليرة السورية منذ مطلع العام نحو 47% من قيمتها أمام العملات الأجنبية مسجلة سعر 9250 ليرة أمام الدولار قبل أسبوع.
وأشار بيان لبرنامج الأغذية العالمي في فبراير/شباط الماضي إلى أن 70% من السوريين قد لا يتمكنون في المدى المنظور من توفير الغذاء لعائلاتهم، وأن هناك 12 مليون سوري لا يعرفون من أين ستأتي وجبة طعامهم التالية.