الانتعاش القوي للسندات السيادية يُعيد لبنان إلى «شاشات» الاستثمارات الدولية

يشهد لبنان مؤشرات مالية محدثة وغير عادية وذات قابلية لزخم متواصل، تشمل خصوصاً قيمة احتياطات البنك المركزي من الذهب، وتسجيل انتعاش استثنائي في أسعار السندات الحكومية (اليوروبوندز)، ما يكفل فتح كوة كبيرة لعودة القطاع المالي إلى الأسواق الدولية، تزامناً مع الدعم الخارجي الواسع لإنضاج حلول سياسية تفضي إلى حل معضلة «حصرية السلاح».

ودفعت المحفزات السوقية الخارجية وحدها بتقديرات مخزون الذهب لتحطيم أرقام قياسية متتالية، وبأرقام إجمالية تعدَّت 33 مليار دولار، مقابل 24.1 مليار دولار مطلع العام الحالي، أي بربحية دفترية تُناهز 9 مليارات دولار، حسب أحدث الأسعار الرائجة للمعدن الثمين. علماً بأن احتياطات الذهب متنوعة الماهية والأشكال والأوزان توازي في المجمل نحو 9.22 مليون أونصة، يتم تخزين ثلثيها في طوابق أسفل مبنى البنك المركزي، بشكل محصّن، ويلتزم بأقصى آليات الحماية والسلامة، والثلث الباقي مودع في قلعة محمية وحصينة للغاية في أميركا.

وبذلك، تدل العملية الحسابية على ارتفاع مثير في القيمة الإجمالية للاحتياطات لدى البنك المركزي، لتصل إلى نحو 45 مليار دولار، بالنظر إلى الزيادات المتتالية التي أعادت مستوى احتياطات العملات السائلة لديه إلى نحو 11.7 مليار دولار، بعد موجات انحدار كارثية جرّاء أزمة النقد وسوء المعالجات أوصلتها إلى نحو 8.7 مليار دولار، مع انتهاء ولاية الحاكم السابق رياض سلامة بنهاية شهر يوليو (تموز) من عام 2023.

الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة وسط سبائك الذهب المحفوظة في خزائن المصرف في صورة من نوفمبر 2022 (رويترز)

أما الإقبال الاستثماري، ومعه الخارجي أيضاً، على طلب السندات السيادية في غالبيته، فيعكس تحولاً نوعياً في تقييم الأوراق المالية اللبنانية، مدعوماً بتوصيات صادرة عن بنوك عالمية تتوقع تسجيل أسعار أعلى، وبمبادرة وزارة المال إلى فتح باب التفاوض مع الدائنين منتصف العام المقبل. إذ تعدّت متوسطات أسعار السندات السيادية مستوى 22 في المائة من قيمتها الاسمية بنهاية الأسبوع الحالي، بعدما انحدرت إلى أدنى مستوياتها، البالغ 6 في المائة فقط، بُعيد اندلاع المواجهات العسكرية، قبل نحو السنة، على الحدود الجنوبية.

وفي تحليل خاص لمسؤول مالي كبير، تواصلت معه «الشرق الأوسط»، فإن لبنان يتقدم صوب فرصة «ثمينة» للغاية لإطلاق مرحلة الخروج من أزماته المستعصية في غضون أشهر قليلة، وينبغي مقاربتها بمنهجية حكيمة تطمئن الداخل والخارج، وتعزيزها بمبادرات تُجيد الاستثمار في المستجدات الإيجابية، عبر الانخراط الفعلي في عملية الإصلاحات المُلحة في الإدارة العامة، وإعادة هيكلة المالية العامة والدين العام، وتسريع إعداد وتشريع قانون استعادة التوازن المالي (الفجوة)، بما يُحدّد نهائياً مصير الودائع العالقة في الجهاز المصرفي، ويُمهّد لعقد اتفاق تمويلي «مجدّد» مع صندوق النقد الدولي.

رئيس بعثة صندوق النقد الدولي إرنستو راميريز ريغو خلال لقائه مع الرئيس اللبناني جوزيف عون في مارس الماضي (الرئاسة اللبنانية)

أفضل المناخات

ومن شأن التلازم بين هذه المؤشرات المحققة والواعدة بالمزيد والتقدم الذي التزمته الحكومة على المسار السياسي، تشكيل أفضل المناخات، حسب المسؤول المالي، لتدفق الدعم المالي من الدول المانحة والمؤسسات المالية الإقليمية والدولية، والمؤثرة حكماً بتسهيل طريق العودة إلى الأسواق المالية الدولية، بعد افتراق غير مدروس يُشرف على ختام عامه السادس، بفعل انفجار الأزمة النقدية والمصرفية والقرار الحكومي في ربيع عام 2020 بتعليق دفع كامل مستحقات السندات الدولية من أصول وفوائد.

ووفق رصد «الشرق الأوسط»، فإن الطلب الخارجي على السندات اللبنانية، رغم تعليق الحكومة دفع المستحقات، يُسجل اندفاعات سوقية حقيقية وليست مضاربات مؤقتة، بتحفيز من تقييمات صادرة عن بنوك استثمارية عالمية، تنصح ضمناً بالشراء، مع توقّع مبادرة وزارة المال لفتح باب التفاوض في العام المقبل، بشأن مقترحات السداد وآلياتها. وتُشير المعطيات إلى أن عملية إعادة هيكلة هذه الشريحة من الديون العامة ستفضي إلى شطب نحو 65 في المائة من قيمتها الاسمية، أي بنسبة استرداد تبلغ 35 في المائة، وربما ترتقي إلى نسبة 40 في المائة، حسب سيناريو أكثر تفاؤلاً بتقدم الإصلاحات.

مقر مصرف لبنان في بيروت (الوكالة الوطنية للإعلام)

وقد تلقفت سوق سندات «اليوروبوندز» اللبنانية، حسب التحليل الأسبوعي الصادر عن بنك «عوده»، دفعاً إيجابياً إثر إصدار المصرف الاستثماري العالمي «جيه بي مورغان» تقريراً محدثاً رأى فيه أنّ التقييم الحالي للسندات يجعلها جاذبة للتداول خلال الفصل الرابع من العام الحالي، متوقعاً ارتفاع أسعارها إلى حدود 23 أو 24 سنتاً لكل دولار اسمي، مع نهاية السنة.

وبالمثل، توقّع المصرف الاستثماري العالمي «مورغان ستانلي» في أحدث تقرير له، حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة من استخلاصاته، أن تُطلق الحكومة اللبنانية محادثات إعادة هيكلة سندات «اليوروبوندز» منتصف العام المقبل، وأن ترتفع الأسعار إلى مستويات بين 30 و35 سنتاً للدولار الواحد في نهاية العام المقبل.

وتبلغ القيمة الاسمية للسندات السيادية نحو 31.7 مليار دولار، يُضاف إليها أكثر من 13 مليار دولار فوائد تراكمية بعد تعليق دفع الأصول والعوائد في ربيع عام 2020. وتمتلك صناديق ومؤسسات استثمارية دولية حصة كبيرة من هذه السندات، تتقدمها شركات «بلاك روك»، و«آليانز»، إلى جانب محفظتي البنك المركزي والمصارف المحلية، والعديد من الأفراد والمستثمرين، اللبنانيين والأجانب.

ورغم تنويه بنك «مورغان ستانلي» (لندن)، بأن تقريره ليس «بحثياً»، فقد أكَّد أن استخلاصه جاء عقب زيارة قريبة لمسؤولين فيه إلى بيروت، والاجتماع مع مجموعة واسعة من أصحاب المصارف والجهات المعنية بالسياسة، بمن في ذلك مسؤولون من وزارتي المال والاقتصاد، والبنك المركزي، وممثلو صندوق النقد الدولي.

اجتماع بين الرئيس جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام في قصر بعبدا (د.ب.أ)

تقدم في الإصلاحات

ولاحظ في السياق، أنه منذ تشكيل الحكومة الجديدة في فبراير (شباط) من العام الحالي، حصل تقدم كبير في الإصلاحات، لا سيما في القطاع النقدي، مع استقرار سعر الصرف. كما أظهرت الجهات المعنية بالسياسة إرادة سياسية قوية لتنفيذ الإصلاحات. مع التنويه بأن الفريق المُكلف بالإصلاحات من تكنوقراط وإصلاحيين يحوزون خلفية مالية دولية، ما يدل على الاستعداد للتعامل بجدية مع التحديات التي تواجه البلاد.

ومن المتوقع، حسب التقرير، أن تلعب الانتخابات النيابية المقبلة دوراً حاسماً في تحديد الديناميات البرلمانية المقبلة، مع وجود علامات مبكرة تُشير إلى أن المعسكر الموالي للإصلاحات قد يحصل على أغلبية. ورغم أن هذا الاحتمال لا يزال بعيداً، فإنه قد يحل مأزق «حزب الله». ويستمر الالتزام الحكومي بالخطة المحددة لنهاية العام، كما أن المقاومة المستمرة من بعض الأطراف تجعل لبنان أكثر عرضة لعدم قدرته على تسوية ديونه السيادية.

ويسعى صندوق النقد الدولي، وفق الخلاصة عينها، إلى الحصول على بيانات لبنان المتعلقة بالقدرة على سداد الديون، ضمن هدف وضع خطة عمل مفصلة، مع مراعاة البيانات المتاحة. ولن يكون أي برنامج للصندوق ممكناً إلا بعد تقديم لبنان البيانات اللازمة عن خطة إعادة الهيكلة الخاصة بالدين السيادي.

وحتى الآن، لم تنشر الحكومة بعد الخطة التفصيلية لإعادة هيكلة الديون أو التقديرات المتعلقة بها، إلا أننا نفترض، حسب استنتاج التقرير، أن الخطوات الأساسية لإعادة الهيكلة قد يتم تسريعها، ما يُقلّل من تبعات التأخيرات في برنامج صندوق النقد، والمفاوضات، والتزامات الأمن.

شاركها.
Exit mobile version