في قلب التحولات الرقمية المتسارعة، يبرز الذكاء الاصطناعي بوصفه قوة دافعة تُعيد تشكيل كثير من جوانب الحياة، ومن أبرزها الرعاية الصحية. وبينما تركّز الأنظار غالباً على أدوات التشخيص والعلاج، هناك ثورة هادئة تحدث خلف الكواليس: ثورة في التوثيق الطبي.

من عبء الورق إلى دقّة الذكاء

لطالما اشتكى الأطباء من الأعباء الكتابية التي تستهلك وقتاً طويلاً، وجهداً ذهنياً لا يُستهان به، إذ إن كثيراً منهم يقضي قرابة نصف يومه في كتابة الملاحظات، والتقارير الطبية. وبينما يُعدّ التوثيق أمراً ضرورياً قانونياً، وسريرياً، فإنه غالباً ما يأتي على حساب جودة التواصل الإنساني مع المريض.

وهنا يأتي دور الكاتب الطبي الذكي (AI Medical Scribe)، نظام يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحويل الحوار بين الطبيب والمريض إلى ملاحظات طبية دقيقة، وتُدمج تلقائياً في السجل الصحي الإلكتروني دون الحاجة إلى تدخل يدوي من الطبيب.

• كيف يعمل «الكاتب الطبي الذكي»؟ يعمل «الكاتب الطبي الذكي» باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتحديداً معالجة اللغة الطبيعية (NLP)، والتعلم العميق، حيث يستمع إلى المحادثة بين الطبيب والمريض أثناء الفحص أو الاستشارة، ثم يحلل المحتوى اللغوي بدقة، ليقوم تلقائياً بكتابة الملاحظات الطبية ذات الصلة، وتنظيمها في شكل تقرير طبي متكامل يُدمج مباشرة في السجل الصحي الإلكتروني (EHR)، ويتم هذا دون الحاجة لأن يدوّن الطبيب شيئاً بنفسه، ما يُتيح له تركيزاً أكبر على التواصل البشري مع المريض، ويُقلل من الأخطاء المرتبطة بالإدخال اليدوي. وتلتقط التقنية التفاصيل الطبية الدقيقة، وتتم إزالة المعلومات غير الضرورية، وتلتزم بالبروتوكولات السريرية المعتمدة لضمان جودة التوثيق.

• كفاءة عالية. ذكرت دراسة نُشرت في عام 2025 في مجلة الذكاء الاصطناعي الطبي (Journal of Medical AI) أن استخدام هذه التقنية ساعد في:

-تقليل وقت التوثيق بنسبة 40 في المائة.

-تحسين دقة البيانات الطبية، وتقليل الأخطاء.

-تعزيز التواصل بين الطبيب والمريض من خلال تمكين الطبيب من التركيز الكامل أثناء الاستشارة.

كما نشرت مراجعة الابتكار الطبي بجامعة هارفارد (Harvard Medical Innovation Review) تقريراً في العام نفسه أوضحت فيه أن هذه التقنية لا تساهم فقط في رفع كفاءة النظام الصحي، بل تلعب أيضاً دوراً مهماً في تقليل الإرهاق المهني للأطباء، وتحسين بيئة العمل في العيادات، والمستشفيات.

نماذج متقدمة

أحد أبرز الأمثلة على أنظمة الكاتب الطبي الحديثة هو نظام «داكس كوبايلوت» DAX Copilot، المطوّر من قِبل شركة «Nuance» التابعة لـ«مايكروسوفت». ويعتمد هذا النظام على تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي لتحويل المحادثة بين الطبيب والمريض إلى ملاحظات طبية منظمة، وجاهزة للإدخال في السجل الطبي الإلكتروني (EMR)، دون تدخل يدوي من الطبيب.

وقد تم اعتماد «داكس كوبايلوت» في عدد من المؤسسات الصحية الرائدة في الولايات المتحدة، وحقق نتائج ملموسة، منها:

-توفير أكثر من 7 دقائق لكل زيارة طبية من وقت الطبيب.

-رفع مستوى رضا المرضى بسبب تحسّن جودة التفاعل مع الأطباء.

-تقليل الإرهاق المهني المرتبط بالأعمال الكتابية بنسبة تصل إلى 70 في المائة.

وقد غير هذا النوع من الأنظمة قواعد اللعبة، حيث لم يعد الطبيب مضطراً لتقسيم انتباهه بين المريض وتوثيق الملاحظات، بل أصبح قادراً على التركيز الكامل في الرعاية السريرية، مع ضمان توثيق دقيق وشامل يتم بشكل شبه تلقائي في الخلفية.

هذا ويذكر أنه في عام 2025 أصبح هذا النظام من أكثر أنظمة الكاتب الطبي تطوراً واعتماداً على نطاق واسع، ما جعله عنصراً أساسياً في مستقبل الرعاية الصحية الرقمية.

ما الذي يعنيه كل ذلك لمستقبل الطب؟ يعني أننا نسير نحو علاقة أكثر إنسانية بين الطبيب والمريض. فبدلاً من أن ينشغل الطبيب بالشاشة والكتابة، سيكون حاضراً بكل تركيزه، يستمع، ويُحلّل، ويتفاعل. أما التوثيق، فسيُنجز بدقّة في الخلفية، بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي.

«ولا يمثل الكاتب الطبي الذكي» بديلاً عن الإنسان، بل أداة تمكّنه من أداء دوره الإنساني بأعلى جودة. وبينما تستمر التكنولوجيا في التطور، يظلّ الهدف الأسمى للرعاية الصحية هو الإنصات بعمق، والتشخيص بدقّة، والعلاج بإنسانية.

شاركها.
Exit mobile version