قد لا نصادف كثيراً أشخاصاً يشبهون الفنان جوزف عبّود المشهور باسم «زاف». فالملحن والمغني والرسام والنحات في آن، تنبع مواهبه من واحدة أساسية، ألا وهي المشهدية البصرية التي يعمّرها في خياله، فيغبّ منها الصور ليحوّلها إلى حكايات مسموعة أو منحوتة ومرسومة. ومن ناحية ألحانه فهو يُقولبها على طريقته في صور تتراءى له، فيخطفها من خيال الطفل الذي لا يزال يسكنه، ويعمّرها في نوتات موسيقية تستحق التوقف عندها وتحليلها. وعندما يشرح لك سبب استعماله لهذه الآلة أو تلك، تدرك تماماً بأنها ترجمة لقصة.
ويوضح في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «عندما أقرأ كلمات أغنية، تأخذ الصور تجتاحني بصورة لاشعورية. فأنا من الأشخاص الذين يرسمون الصورة قبل توليد أي عمل فني. وأعتقد أن المتلقي عليه أن يشاهد ما يسمعه كي تكتمل فكرة العمل. وهو أسلوب يوقظ عند الناس مشهدية قد يكون سبق وعاشها شخصياً. وكلما تعمّقت بتفاصيل هذه الصور، شعرت بأن العمل سريع الوصول للطرف الآخر».
هي ببساطة فلسفة فنية تعتمد على الحس البصري. وكما يقول جوزف في سياق حديثه، فإن البشر متشابهون. «ليس هناك من فرق بين إنسان وآخر. جميعنا نملك المكون البشري نفسه، وكذلك نتصرف على شكل واحد. ولكنّ تطور الحياة فرّق بيننا وأحدث الاختلاف. وتأتي الطبقية والأنظمة السياسية في مقدمة العناصر التي أسهمت في هذا التغيير».
أخيراً وزّع لحن أغنية «روح البحر» لفضل شاكر. هذا التعاون بينه وبين مطرب معروف يحصل لأول مرة. وعندما نشر عبر أحد حساباته الإلكترونية، كيف ولد هذا اللحن لفت انتباه كثيرين. فهو يخرج في فنّه عن التقليدي والمبرمج مسبقاً، ويعززه بتفسيرات واضحة تنبع من خلفية موسيقية غنية.
ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «في الحقيقة كل صورة من صور هذا اللحن استقيتها من أمور قد تحدث مع أي شخص. في بداية الأغنية تخيلت شخصاً يجلس على شاطئ البحر، وراح يتخيل الأفق البعيد أمامه. استعرت ضربات موسيقية تشبه أصوات أعماق المحيطات والبحار. وهو ما زوّد اللحن بالغموض. ومن ثم نقلت اللحن إلى صورة شرقية مستخدماً مؤثرات صوتية تشبه النفخ بالبوق. ولجأت إلى البيانو والغيتار ولوّنتها (الصورة) بالمقسوم. ومع الكمان والناي ألّفت تناغماً موسيقياً متناسقاً. وفي الإيقاعات تخيلت هذا الشخص يمسك بحجرين يضربهما ببعضهما البعض، فولد هذا الصوت باعتباره مقدمة لضربات الإيقاع من خلال آلة الدربكة. وهكذا دواليك إلى أن نفذت التوزيع الموسيقي للأغنية».
حتى الغبار وصمت البحر يترجمهما بالموسيقى. ويؤكد أن ما يقوم به لا يأتي من باب دراسة معمقة، بل من الغريزة الموجودة في كل منّا.
مرات كثيرة كما يذكر زاف لـ«الشرق الأوسط» يحلم بألحانه فينهض من سريره مباشرة لكتابتها. «الإلهام لا يمكننا أن نذهب إليه، بل يأتينا على طبق من فضة. وعندما أشعر به أضعه في قالب متسلسل كي يسير معه المستمع خطوة بخطوة».
ببساطة متناهية يشرح جوزف عبّود كيفية ولادة هذه الموهبة. «عندما نولد نكون بمثابة صفحة بيضاء، ولكن ظروف الحياة التي نعيشها تطبعنا. ومرات كثيرة تنمّي أجزاء فينا أكثر من غيرها. وهذا الجزء سواء الفني أو الخيالي يصحبني منذ صغري. فولد معي تماماً كالنفس الذي أتنفسه. أشعر كمن يسير على حبل رفيع يبحث عن طريقة للكتابة عليه. والأهم هو عدم الشعور بالخوف. فأتجرّأ وأكتب وعندما أخطئ لا أنزعج. فكل الاحتمالات واردة ويمكن لغلطة صغيرة أن تؤلف فكرة هائلة».
يقول إنه تأثر كثيراً بموسيقى الراحل زياد الرحباني. كما أنه مطلّع بشكل كبير على مدارس موسيقية مختلفة. ويعدّ الثقة التي يكنّها له الناس «تحضّه على القيام بما يلامس قلوبهم».
وعندما تسأله كيف يمكنه أن يفسّر الحياة باختصار يردّ: «أعتقد أن كل شيء فيها يدور حول الحقيقة. حتى لو صادفنا الغرابة النابعة من حقيقة فإننا نتماهى معها. فهي المحور الأساسي وأعظم ما في الحياة. وهي الوحيدة التي يمكنها تحريرنا من مخاوفنا».
عندما لحّن أغنية «البكلة» لزوجته الممثلة ستيفاني عطا الله، استوحى موسيقاه من صورتها وهي تمسك بـ«بكلة شعرها» بفمها إذ كانت يداها مشغولتين بالكتابة. «تراءت صورة اللحن أمامي بسرعة. وفي أغنية (سفن البحارة) ألهمني مشهد في خيالي وكأني أقف على مشارف محيط. فمشهد واحد يمكن لكل منّا أن يتخيله على طريقته. وهو ما يسهم في توليد الأفكار لألحاني وبالرؤية الفنية التي تقنعني».
فالدماغ برأيه «لديه القدرة على توليد الأفكار بشكل دائم. ويشبه إلى حدّ كبير النوتات الموسيقية السبع التي تشكل أساساً لأي نغمة أو لحن نصنعه».
تربى زاف على سماع مدارس فنية مختلفة، خزّنها لا شعورياً في ذهنه. ومن الراحل زياد الرحباني ورث حرية التحليق بفكره. «الإبداع برأيي ينبع من مكان واحد اسمه الطفولة. وكلما حافظنا على حياة هذا الطفل في داخلنا صار خيالنا أكثر خصوبة. فبرأيي جميع الأطفال يولدون عباقرة. ولكن النظام الدراسي يمتصها على مراحل ويبددها. ولذلك نشعر جميعاً بأننا مسجونون ضمن حبس واحد اسمه النظام. وفي صغري ساعدني أهلي للإفلات منه، فكانوا يتركون لي مساحة كبيرة للتعبير عن أفكاري بعيداً عن هذا النظام. فالأهل يلعبون دوراً رئيسياً في نمو خيال أطفالهم. وعليهم أن يربّوهم على فكرة الأحلام كي يصلوا إلى شاطئ الإبداع».
يحضّر جوزف عبّود لألحان جديدة لفنانين عدة. وكذلك لألبوم جديد له. ومن عداد الفنانين الذين سيلحن لهم، زوجته الممثلة ستيفاني عطا الله التي تشارك اليوم في المسلسل المعرّب «سلمى». فهل هو يلحن لها من باب قناعته بموهبتها الغنائية أم لمجرد أنها زوجته؟ يجيب بحماس: «لا يمكنني أن أتعاون مع أحد لا أثق بقدراته الفنية. فإذا غابت عني هذه الحقيقة أكون لست صادقاً بعملي. وستيفاني برأيي شخصية موهوبة جداً في التمثيل كما في الغناء. وكذلك في تفكيرها، والوقت كفيل بإظهار هذه الحقيقة أكثر في المستقبل القريب».
وعما إذا يهتم بأعمال ملحنين يوجدون اليوم على الساحة يقول: «لا شك أن الساحة غنية دائماً بمواهب صاعدة وقديمة. ولكنني شخصياً أفضّل الانشغال بأعمالي والالتفات إلى ما يخصّني. فلا أهتم بتقليد أو في استنساخ موسيقى غيري. ولست بوارد أن أكون نسخة ثانية عن هذا الفنان أو ذاك».