يمثل «شارع بغداد» أحد أهمّ الشوارع التجارية في منطقة السالمية المطلة على الخليج العربي في الكويت. ومع موجة الفرح التي غمرت الكويت عشية يوم 26 فبراير (شباط) 1991؛ ابتهاجاً بتحرير البلاد من القوات العراقية التي اجتاحتها فجر الثاني من أغسطس (آب) 1990، اندفع شباب متحمسون إلى شارع بغداد وشطبوا اسمّ المدينة وأبدلوه باسم «شارع بوش» في إشارة إلى الرئيس الأميركي الأسبق (جورج بوش الأب) الذي قاد التحالف الدولي لتحرير الكويت، لكن ما أن بدأت الكويت تنفض عنها غبار الغزو، وتستعيد بناء مؤسساتها، حتى أعيدت مجدداً اللافتة التي تحمل اسم الشارع دون تغيير. ورغم الجرح والدمار الذي خلّفه الغزو العراقي بقي شارع بغداد يشير إلى أن العلاقات بين البلدين أكثر عُمقاً من الأزمات مهما كانت عاصفة وبحجم الاحتلال.
اليوم، بعد 34 سنة، وعشية ذكرى الغزو العراقي للكويت، يستعيدُ أكاديميون وباحثون سياسيون هذه القصة للتعبير عن رسوخ العلاقات التي تفرضها الجغرافيا والتاريخ المشترك، وللتدليل أيضاً على قدرة البلدين على تجاوز مشكلة جديدة ألقت بظلالها أخيراً على أجواء العلاقات بين البلدين، وهي مشكلة اتفاقية ترسيم الحدود في خور عبد الله.
المراقبون في الكويت والعراق يخشون أن يتطور الخلاف الجديد بشأن الخور إلى أزمة تمثل أحد عناصر الشدّ السياسي بين البلدين، حيث تتفاعل عناصر الجغرافيا وعوامل السياسة في إبقاء شعلة الأزمات متوقدة في منطقة تعاني من التوترات.
وبوجود أطراف في العراق توظف ملف خور عبد الله لأغراض سياسية، يلفت مراقبون النظر إلى أن الأزمة ربما تكون في مكان آخر. وهم يشيرون تحديداً إلى المساعي الإيرانية لتحريك هذا الملف بغرض فرض تسوية على الكويت بشأن ملف آخر هو حقل الدرّة البحري الغني بالغاز، الذي تدّعي إيران المشاركة في ملكية الحقل الذي تطلق عليه اسم أرش. وكانت الكويت قد وقَّعت في 21 مارس (آذار) 2022 وثيقة مع المملكة العربية السعودية لتطوير حقل الدرّة، لاستغلال الحقل الغني بالغاز لإنتاج مليار قدم مكعبة قياسية من الغاز الطبيعي يومياً و84 ألف برميل من المكثفات يومياً، تتقاسمها البلدان.وفي 13 أبريل (نيسان) 2022، وجَّهت السعودية والكويت في بيان مشترك صدر عن وزارتي الخارجية في كلا البلدين دعوتهما الحكومة الإيرانية لعقد مفاوضات مع الدولتين الخليجيتين كطرف تفاوضي واحد حول تعيين الحد الشرقي من المنطقة المغمورة المقسومة، وأكد البلدان حقهما في استغلال الثروات الطبيعية في حقل الدرّة.
خور عبد الله… بين الجغرافيا والسياسة
خور عبد الله ممر مائي يقع في أقصى شمال الخليج العربي، ويفصل شبه جزيرة الفاو العراقية عن جزيرة بوبيان الكويتية. وبعد اجتياح العراق للكويت عام 1990، أصدر مجلس الأمن القرار رقم 687 لعام 1991، الذي شكّل الأساس القانوني لإخراج العراق من الكويت ووضعه تحت طائلة عقوبات دولية، تبعه القرار 773 لعام 1992، الذي دعم عمل لجنة ترسيم الحدود بين العراق والكويت، ثم القرار 833 لعام 1993، الذي أقرّ رسمياً نتائج اللجنة، واعتبر ترسيم الحدود بين البلدين نهائياً وملزماً للطرفين. وشمل هذا الترسيم المياه الإقليمية بما فيها الخور الذي اعتُبر بموجب القرار «منطقة حدودية مشتركة»، لا تخضع لسيادة كاملة لأي من الطرفين، بل يتعين تنظيم استخدامها عبر اتفاق مشترك.
العراق امتثل في عهد النظام السابق، للقرار الدولي من خلال مجلس قيادة الثورة العراقي في الخامس من مارس 1991، وفي 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 1994، أصدر مجلس قيادة الثورة العراقي (المنحل) قراراً رسمياً ينصّ في البند الثاني منه على امتثال العراق لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 833 (1993)، واعتراف العراق بالحدود الدولية مع دولة الكويت كما رسمتها لجنة الأمم المتحدة لترسيم الحدود بين العراق والكويت. واستناداً إلى قرارات مجلس الأمن، دخل العراق والكويت في مفاوضات لترسيم حدود المياه الإقليمية وتنظيم الملاحة البحرية في خور عبد الله، وانتهت هذه المفاوضات إلى توقيع اتفاقية في 29 أبريل 2012 بين العراق والكويت. وصادق عليها البرلمان العراقي في عام 2013 بالقانون رقم 42 لسنة 2013.
خبراء قانونيون ومسؤولون عراقيون رأوا أن «الاتفاقية لا تتضمن أي تنازل عن السيادة العراقية، بل تنظّم الملاحة المشتركة في الخور لضمان حرية الوصول إلى الموانئ العراقية، خصوصاً ميناء أم قصر من الجانب العراقي. كما تنصّ على وضع قواعد لعبور السفن وإنشاء ممرات ملاحية آمنة دون المساس بالسيادة أو الحقوق الثابتة لأي من الطرفين».
ولكنّ، في تطوّر لافت ومفاجئ، قضت المحكمة الاتحادية العليا في العراق في 4 سبتمبر (أيلول) 2023 بلا دستورية القانون 42 لسنة 2013، وهو قانون تصديق الاتفاقية بين حكومة العراق وحكومة دولة الكويت بشأن تنظيم الملاحة البحرية في «الخور، وأرجعت المحكمة قرارها إلى أن التصديق لم يحصل على غالبية الثلثين المطلوبة لمصادقة البرلمان على المعاهدات الدولية، خلافاً لما تنص عليه المادة 61 من الدستور».
ما وراء التصعيد
بحسب رئيس مجلس القضاء الأعلى في العراق، القاضي فائق زيدان، فإن اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله المُبرَمة بين العراق والكويت دخلت حيّز التنفيذ وأصبحت مُلزِمةً استناداً إلى قاعدة «pacta sunt Servando»، وهي من المبادئ الأساسية في القانون الدولي، وتعني حرفيّاً «يجب احترام المعاهدات… أو…يجب الوفاء بالالتزامات». وقال في مقال نشرته «الشرق الأوسط» إن المحكمة العليا في العراق بقرارها لا دستورية قانون تنظيم الملاحة في الخور «أحدثت فراغاً تشريعياً واضطراباً دبلوماسياً». ولذا؛ يخشى المراقبون في الكويت والعراق أن يتطور الخلاف الجديد إلى أزمة بين البلدين.
من جهة ثانية، في 15 أبريل 2025 تقدّم الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد ورئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني بطعنين منفصلين أمام المحكمة الاتحادية العليا في العراق؛ لمطالبتها بالعدول عن قرارها إبطال اتفاقية تنظيم الملاحة بين العراق والكويت في خور عبد الله وإعادة الاعتبار للاتفاقية المبرمة بين البلدين.
ويوم 7 يوليو (تموز) الماضي، التقى الرئيسان محمد شياع السوداني وعبد اللطيف رشيد ومعهما رئيس مجلس النواب محمود المشهداني؛ للتباحث بشأن معالجة ملف الخور واتفق الرؤساء الثلاثة على «ضرورة قيام مجلس النواب بحسم الإجراء التشريعي المطلوب، حسب قرار المحكمة الاتحادية الذي أوجب إعادة تشريع قانون التصديق على الاتفاقية أصولياً». وأكدوا ضرورة إتمام ذلك مع «تأكيد التزام العراق بالاتفاقيات الدولية والمواثيق الأممية وقرارات مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة»، وذلك وفق مكتب رئيس الوزراء العراقي، الذي أكد أن الرؤساء الثلاثة شدَّدوا على «ضرورة التعاطي بحرص وحذر مع الملفات الدولية، وعدم استغلالها للجدل والمزايدات السياسية والإعلامية؛ لأن ذلك يعرّض حقوق العراق وسمعته الخارجية ومصالحه للضرر». والفقرة الأخيرة تكشف جوهر التصعيد السياسي بشأن ملف الخور، وهي المزايدات السياسية.
يذكر أن العراق على موعد يوم 11 نوفمبر المقبل، مع إجراء الانتخابات البرلمانية التي ينظر إليها باعتبارها تنافساً انتخابياً واستقطاباً سياسياً على وقع التطورات المحلية والإقليمية. وتأتي إثارة ملف الخور بنظر مراقبين، كأحد عناصر التوظيف السياسي الداخلي. وللعلم، في أبريل الماضي، نظم ناشطون وبرلمان عراقيون وقفة احتجاجية وسط بغداد، دعماً لقرار المحكمة العليا، وطالبوا الحكومة بـ«عدم التنازل» للجانب الكويتي عن الخور، وبإلغاء الاتفاقية، ويوم 12 يوليو الماضي جمعت تواقيع أكثر من 100 نائب في البرلمان، داعين إلى رفض الاتفاقية.
لا بدّ من حوار
برأي باحثين سياسيين في الكويت، فإن اثارة ملف خور عبد الله يُعبّر عن أزمة داخلية في العراق، أكثر من كونه يشكل عنواناً لأزمة مع الكويت. فالأكاديمي والباحث الكويتي الدكتور غانم النجار، أستاذ العلوم السياسية جامعة الكويت، لا يرى أزمة حقيقية بين الكويت والعراق حيال تنظيم الملاحة في الخور، ويوضح لـ«الشرق الأوسط» أن مشكلة تنظيمِ الملاحة في خور عبد الله ليست واقعية، بل مجرد «إثارة» أُريد لها أن تشكل هاجساً في العلاقة بين البلدين؛ لأن هذه الاتفاقية أصبحت مبرمة وجرى اعتمادها في الأمم المتحدة ولا يمكن إبطالها، «لكنّ المشكلة الحقيقية تكمن في انعدام التواصل والحوار بين النخب غير الرسمية في كلا البلدين».
النجار دعا إلى حوار كويتي – عراقي، تتولى إدارته النخب الشعبية من مفكرين ومثقفين وأكاديميين، واستعاد الدور الذي قام به أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد، في بناء شبكة علاقات مع الجانب العراقي، وتقديم مختلف أنواع الدعم لمشاريع خدمية وتنموية في العراق، رغم وجود تيار عريض في الكويت يدفع باتجاه القطيعة مع العراق.
ولكن إذا كانت اتفاقية تنظيم الملاحة في الخور مبرمة ولا يمكن إبطالها من طرف واحد، لماذا يستعر القلق بشأنها في الكويت؟ هنا يجيب الدكتور النجار بأن القلق الكويتي له جانب نفسي؛ «لأن الذاكرة الكويتية ما زالت مجروحة ولم تتعافَ بالكامل فيما يخصّ العراق»، وهذا ما يتطلب تكثيف الجهود لتعزيز الحوار والتفاهم بين أبناء البلدين.
من جانب آخر، يرى النجار أن وجود قوى سياسية وإعلامية في العراق تمارس «شحناً سياسياً نحو الكويت سيستمر لأن الكويت هي الطرف الأضعف من بين جميع جيران العراق».
الاقتصاد يعالج الأزمات
الدكتور عبد الله يوسف سهر، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة الكويت، يتفق مع الدكتور النجار في الحاجة إلى الحوار، ويقول لـ«الشرق الأوسط» إنه على الرغم من أن المحكمة الاتحادية العليا في العراق أصدرت حكماً بعدم دستورية قانون التصديق على اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله، فإن حكومتي الكويت والعراق، خاضتا حواراً هادئاً ومسؤولاً، أدّى إلى تقديم طعن من قِبل الحكومة العراقية ضد الحكم القضائي، وأرجأت المحكمة العراقية النظر فيه مرات عدة؛ ما يعدّ مؤشراً على قدرة الدبلوماسية على تنظيم الخلافات وحلّ الأزمات الطارئة.
ويضيف سهر: «بالنسبة للكويت، فإنها تظل ملتزمة بالاتفاقية وتنظر إلى ما يجري في العراق على أنه شأن داخلي لا يمس بجوهر العلاقة الثنائية التي ينبغي أن تبقى على مسارها الإيجابي». ويصف العلاقة بين البلدين بأنها تسير بين مدّ وجزر، وتتأثر بالمواقف المتباينة داخل الساحة العراقية، لكن الموقف الرسمي للحكومة العراقية يبقى متمايزاً وإيجابياً بالمقارنة مع بعض الخطابات الشعبوية.
الدكتور سهر يعتقد أن احتواء التباينات بين البلدين يجب أن يتحقق عبر الحوار الدبلوماسي الهادئ والمسؤول. ويضيف: «من الضروري أن تجري المباحثات بعيداً عن الأضواء والمزايدات؛ لتفادي التأثير السلبي من قِبل الجهات التي تسعى إلى استثمار الخلافات في سياق شعبوي أو إعلامي. وعبر التفاهم المشترك، يمكن تفعيل القرارات والاتفاقيات الدولية ذات الصلة وتنفيذها، بما يحفظ مصالح الطرفين».
ومن ثم يلحظ الدكتور سهر أن «لدى البلدين فرصاً واعدة للتعاون الاقتصادي، من خلال تفعيل اتفاقيات الملاحة والموانئ، وتأسيس مناطق حرة، وربط شبكات التجارة، فضلاً عن مجالات بيئية وزراعية واستثمارية. وهذا التعاون يتطلب دبلوماسية إيجابية تتحرّر من أعباء الماضي، وتنظر إلى المستقبل كمساحة للتكامل، لا الصراع… فالعلاقة مع العراق ذات طابع استراتيجي، ليس فقط لأسباب تاريخية أو جغرافية، وإنما أيضاً لما تحمله من إمكانيات اقتصادية وتنموية يمكن البناء عليها… وتؤمن الكويت بأن الاستقرار السياسي يمر عبر بوابة التعاون الاقتصادي. ومن هذا المنطلق، تندرج مبادراتها ضمن رؤية تنموية أوسع». ثم يتابع: «تقوم الدبلوماسية الكويتية على مقاربتين مترابطتين: الأولى، أن الاقتصاد هو الحافز لعقلنة القرار السياسي؛ والأخرى، أن المبادرات الإنسانية تمثل الوجه الحضاري للدولة. وبناءً عليه؛ فإن استقرار العلاقة مع العراق ليس فقط مصلحة كويتية، بل هو ضرورة استراتيجية تعود بالنفع على عموم المنطقة».
أزمة داخلية
أخيراً، في لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الباحث والمحلل السياسي الدكتور عايد منّاع، إن إثارة ملف تنظيم الملاحة في خور عبد الله لا تعبّر عن حقيقة العلاقة بين الحكومة العراقية والكويت، بل هي في حقيقتها «إثارة حزبية» لأغراض انتخابية أو لأجندات أخرى.
ويرى منّاع أن العلاقات الثنائية قطعت مراحل مهمة في بناء الثقة، وأصبحت منذ سقوط النظام السابق في 2003 علاقات يمكن وصفها بـ«الطبيعية». ومن ثم، يشدد على أن الحوار الإيجابي بين البلدين كفيل بحلّ المشاكل المتعلقة بحرية الحركة في المياه الإقليمية، ومعالجة أي شكاوى تتعلق بالملاحة والصيد من دون الوصول إلى أزمة، ويردف: «لو كان هناك ضرر حقيقي من هذه الاتفاقية، فإن الانفتاح الكويتي على العراق منذ 2003 يبرّر معالجة أسباب هذا الضرر بالحوار والتواصل، وليس بالتصعيد وإلغاء الاتفاقية».
أخيراً، يذكر أن الكويت تعهدت في يوليو 2016 خلال مؤتمر المانحين في واشنطن بتقديم 176 مليون دولار مساعدات إنسانية للعراق، وفي فبراير 2018 نظمّت الكويت مؤتمراً دولياً لإعادة إعمار العراق عقب تحرير مدينة الموصل من سيطرة تنظيم «داعش»، وبلغت تعهدات المشاركين في المؤتمر نحو 30 مليار دولار أميركي على شكل قروض ومنح وتسهيلات مالية.