لم يكن المخرج التركي سيموس ألتون ينوي العودة إلى تلك المساحة البعيدة من حياته بهذه السرعة، لكنّ فيلمه «بينما نتنفس» دفعه دفعاً إلى منطقة لم يقترب منها منذ زمن طويل، تحديداً منذ طفولته، ليكون أول أعماله السينمائية الطويلة، والذي حصد به جائزة «الهرم البرونزي» من مهرجان «القاهرة السينمائي» في دورته الماضية.

تحدَّث المخرج التركي لـ«الشرق الأوسط» عن اللحظة الأولى التي خطرت له فيها فكرة الفيلم، ليصفها بأنها أشبه بـ«ارتجافة قديمة في الذاكرة»، من خلال صورة طفلة تقف عند حافة الغابة، في حين يتقدَّم الدخان ببطء نحو قريتها. فكانت الصورة، وفق قوله، «أقرب إلى اعتراف داخلي منها إلى بداية مشروع سينمائي»، لكنها سرعان ما تحوَّلت إلى نواة حكاية تستعيد سنوات عايش فيها النيران والحركة القلقة للناس في شرق تركيا.

يرى ألتون أنّ «بينما نتنفس» ليس فيلماً عن الحريق بقدر ما هو عن الطريقة التي يتعامل بها الأطفال مع عالم يتقلَّب فجأة أمام أعينهم، ولذلك اختار أن تكون مركز الحكاية طفلة في العاشرة تُدعى «إسما».

الفيلم تناول قصة عائلية عن الطفولة وعلاقة الأبناء بالآباء (الشركة المنتجة)

تعيش الصغيرة مع والدها في منزل متواضع على أطراف البلدة، وتراقب التغيّرات التي تبدأ صغيرة مثل ظلّ بعيد، ثم تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى واقع يضغط على تفاصيل حياتها اليومية.

يوضح المخرج أنه لم يكن يبحث عن بطل صغير بقدر ما كان يريد استعادة تلك الزاوية التي يرى منها الطفل الأشياء؛ زاوية لا تعتمد على التحليل بقدر ما تعتمد على الحدس وتقاطعات الشعور.

ويصف ألتون علاقة «إسما» بوالدها في الفيلم بأنها «جسر من الصمت المتبادل يحكمه الخوف»، فالأب ليس شخصية غائبة ولا سلطوية، بل رجل يحاول الحفاظ على نسق حياة مألوف فيما كلّ ما حوله يتغيَّر من دون إنذار. ويصرّ المخرج على أنّ هذه العلاقة هي قلب الفيلم الحقيقي، وأن الصراع فيه ليس صراعاً خارجياً فقط، بل محاولة لفهم المسافة التي تنمو بين الأب والطفلة كلما زاد الدخان في السماء.

ويتوقَّف ألتون مُطولاً عند تجربة العمل مع الأطفال في الفيلم، ويوضح أنّ «أداء التوأم اللذين يظهران في منتصف الحكاية لم يكن نتيجة توجيه مباشر، بل نتيجة مراقبة دقيقة ومحاولة لالتقاط اللحظات التي تخرج من تلقاء نفسها»، مؤكداً أنّ هذا الأسلوب كان جزءاً من طريقته في تحويل الفيلم إلى تجربة حيّة تتجاور فيها البراءة والخوف في مساحة واحدة.

ومع أنّ «بينما نتنفس» يبدو للوهلة الأولى فيلماً بسيطاً عن طفلة ووالدها، فإنّ ما يحمله، كما يقول مخرجه، أكبر من الحكاية الظاهرة. فهو تأمُّل في هشاشة الإنسان حين يواجه تهديداً لا يعرف مصدره، وتذكير بأن الأطفال غالباً ما يكونون الأقرب إلى الحقيقة مهما حاول الكبار إخفاءها.

المخرج التركي سيموس ألتون يراهن على الحدس بدل التفسير (الشرق الأوسط)

وتتحوّل الطبيعة في الفيلم إلى عنصر درامي كامل؛ فالسماء غير المستقرّة، والغابة التي تتقد في الخلفية، والحقول الخالية من الأطفال، كلّها تفاصيل تصنع جوّاً خانقاً يُشبه تلك اللحظة التي يتوقَّف فيها النَّفَس في صدر صغير لا يعرف كيف يصف ما يرى. ويشير إلى أنه اعتمد على بناء بصري قائم على الإيحاء لا على التفسير، وأراد للبيئة أن تتحدَّث باللغة ذاتها التي تتحدَّث بها «إسما»، «لغة أبسط من الكلمات وأقرب إلى الشعور الخام»، وفق تعبيره.

هذا التوجُّه البصري والشعوري لم يأتِ من فراغ، بل من مسار مهني بدأ مبكراً مع أفلام قصيرة لفتت انتباه مهرجانات دولية، فقد شارك ألتون خلال السنوات الماضية في عدد من المهرجانات الأوروبية والآسيوية، حاملاً معه مَشاهد تتأرجح بين السكون والتوتّر. وشكَّلت مشاركاته في مهرجانات مثل «إسطنبول» و«أنقرة» و«زيوريخ» فرصة لبلورة رؤيته الخاصة، إذ واصل العمل على قصص صغيرة تؤمن بالإنسان قبل الحدث، وتصنع من التفاصيل اليومية عالماً صالحاً لإثارة الأسئلة الكبرى.

ويقول إنّ تجربته في المهرجانات كانت مدرسة كاملة لجهة النظر إلى الفيلم بوصفه خطاباً لا يتوقف عند اللغة، بل يعبرها إلى ثقافات متعدّدة.

بعد تسلُّم الجائزة على المسرح في ختام «القاهرة السينمائي» (إدارة المهرجان)

وحين وصل «بينما نتنفس» إلى المهرجانات، يقول ألتون: «اكتشفتُ أنّ الفيلم يملك قدرة خاصة على التواصل مع الجمهور، ولا سيما مع القرّاء الذين يُفضّلون السينما القائمة على الإيماء لا على التفسير المباشر»، إذ شارك الفيلم في محافل إقليمية ودولية قبل أن يصل إلى مهرجان «القاهرة السينمائي الدولي»، حيث حصد جائزة «الهرم البرونزي» من المسابقة الدولية.

ويميل المخرج إلى التأكيد على أنّ هذا التتويج حمل بالنسبة إليه معنى أكبر من الجائزة نفسها، لأنّ استقبال الجمهور العربي بحساسيته تجاه القصص التي تمسّ العائلة والذاكرة أضاء طبقات في الفيلم ربما لم يلتفت إليها من قبل، مشيراً إلى أنّ «مهرجان القاهرة» فتح له نافذة مختلفة على جمهور واسع، والمناقشات التي دارت معه بعد العروض منحته شعوراً بأن الفيلم وجد مكانه الطبيعي بين قصص المنطقة.

يعمل المخرج التركي راهناً على فيلم جديد تدور أحداثه على الحدود التركية – الجورجية، ويتناول تأثير التحولات السياسية على العلاقات الإنسانية. لكنه يعود ليؤكد أنّ اهتمامه الأساسي لا يتبدَّل، وأنّ الإنسان سيظلّ مركز كلّ أفلامه، «سواء كان طفلاً يحاول فهم العالم، أو بالغاً يكتشف أنه لم يفهمه بعد»، وفق قوله.

شاركها.
Exit mobile version