لا تبدو مسرحية «سيرك» التي تُعرض حالياً ضمن فعاليات «مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي» الخيار الأمثل لمن يبحث عن الترفيه أو الحكاية المسلية التي تبعث على الراحة والاسترخاء، فالعمل الذي يقدمه المخرج العراقي جواد الأسدي يحرض على التفكير وإعادة مساءلة الواقع والاعتراف بما فيه من قبح على المستويين المعنوي والمادي، باعتبار أن هذا الاعتراف هو الخطوة الأولى على طريق الحق والخير والجمال الذي يسلكه الباحثون عن واقع أفضل.

أرواح مقهورة تتحرك على خشبة المسرح كما لو كانت آلات وهي تتبادل حوارات مقتضبة ورسائل مبتورة، في أجواء مقبضة تفيض بالقتامة في مدينة تعرضت للقصف وحل بمنشآتها الخراب الذي سرعان ما امتد ليشمل البشر.

جانب من العرض المسرحي «سيرك» في «مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي» (إدارة المهرجان)

شخصيات العمل تعاني من القهر والعجز معاً، صاحب سيرك استسلم للاستبداد والتسلط اللذين يمارسهما ضده ضابط فاسد، وكاتب روائي عاجز عن إنتاج نص جديد نتيجة جفاف منابع الإبداع داخله بعد أن هزمته مشاعر رهيبة من اليأس والإحساس العارم باللاجدوى.

قال مؤلف العمل ومخرجه، جواد الأسدي، إن «فكرة المسرحية ولدت من عمق جحيم تعيشه بعض البلدان العربية حيث تُهدم البيوت ودور العبادة ومؤسسات الفن والترفيه»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «العمل في مجمله يُعد صرخة فنية وجمالية في وجه الاستبداد الذي يسود عالمنا لتعرية الهمجية التي يرسخها فاشيون يبتكرون طرقاً حديثة في تحطيم المدن، واحدة تلو الأخرى»، وفق قوله.

ديكورات بسيطة وأداء الممثلين أبرز الفكرة (إدارة المهرجان)

تكشف الحوارات الهامشية بين الشخصيات عن كثير من المفاجآت الصادمة، فقد اعتدى الضابط على زوجة صاحب السيرك، التي جسدت شخصيتها الفنانة شذى سالم، ولم يملك زوجها، الذي جسد شخصيته الفنان علاء قحطان، أن ينتقم لها أو يرد الإهانة التي لحقت بشرفه، بل الأنكى أن يستسلم للضابط حين يسفر عن وجهه «السادي» القبيح ويطلب منه أن يتخلص من كلبه بحجة أن نباحه يزعجه.

يمتثل صاحب السيرك للمطلب المغلف بتهديد ناعم، فيقتل الكلب في حادثة لا تظهر على خشبة المسرح، لكن تداعياتها الحزينة تتواصل طوال العرض لتضفي المزيد من الجو المأساوي.

جاءت الخلفية المكانية لتجسد ذلك الجو العام من الانهيار الروحي، معنوياً ومادياً، فثمة أشجار ذابلة لا تثمر، تنهض في عمق خشبة المسرح، لتعمِّق حالة الأحزان حيث تبدو وكأنها جزء من غابة موحشة ترمز إلى معانٍ مقبضة، مثل الوحدة والخذلان وانعدام الأمل.

أما الإضاءة فتعمد إلى ترك مساحات كبرى للظلام، مع ألواح سوداء موزعة على جانبي خشبة المسرح، فضلاً عن مائدة معدنية باردة تتوسط المكان ومقعدين يتغيران، حسب حركة الممثلين.

العرض تضمن مشاهد كثيرة طابعها استعراضي (إدارة المهرجان)

السيرك الذي يُفترض أن يكون رمزاً للبهجة ومصدراً لسعادة الكبار والصغار، على حد سواء، تحوَّل هنا إلى أطلال وخرائب وبقايا مكان قديم تثير الأسى، وهذا طبيعي للغاية، فهو لم يعد مجرد سيرك متهدم، بل شاهد عيان على مدينة عانت ويلات الحرب والقصف والخراب.

استطاع علاء قحطان تجسيد مأساة صاحب السيرك الذي يكره الضابط الفاسد، لكنه مضطر إلى التعاون معه حرصاً على حياته، في دور مركب بمشاعر متضاربة تتراوح بين الكراهية والجبن الذي يصل إلى حد الانسحاق، والذي يبلغ ذروته حين يقدم على التخلص من حيوانه الأليف إرضاءً للضابط.

أما أداء الفنان علاء شرجي فجاء مقنعاً ومتوازناً وهو يقدم شخصية الكاتب الروائي الذي تملكته مشاعر اليأس وهو يرى تحولات المدينة من حوله، كما يزداد شعوره بالعجز حين يفشل في الدفاع عن زوجة صاحب السيرك، التي كانت حبيبته في مرحلة الصبا والمراهقة.

شاركها.
Exit mobile version