عبد الله آل عيّاف: السينما السعودية تمضي بثقة نحو صناعة مستدامة
كما بات معلوماً ومشهوداً إلى حدّ لا يمكن تجاهله أو إنكاره، أنّ خطوات المملكة العربية السعودية في مختلف المجالات خلال الأعوام القليلة الماضية، أسَّست لنقلة نوعية شاملة وكبيرة في كلّ جانب من جوانب الحياة الثقافية والرياضية والفنية والاقتصادية والإعلامية وسواها من الشؤون. ناهيك بالنهج المدروس والمدعوم من القيادة لدفع عجلة الصناعات المختلفة نحو آفاق لم تبلغها دول عدّة في المنطقة وخارجها. إنها قصة نجاح وتصميم وعمل دؤوب في سبيل مستقبل أفضل.
هذا لم يكن ليُنجز على وجه كامل من دون رعاية صناعة السينما السعودية، التي استوجبت إنشاء «هيئة الأفلام السعودية» قبل 5 سنوات، لتكون المُحرّك والمسؤول عن تفعيل صناعة الفيلم وما يرافقها من نشاطات في شتى الميادين، بما فيها متابعة سوق السينما المحلّية، واعتماد الخطط لتلبية حاجات الجمهور، ونشر الثقافة السينمائية عبر الكتب والمجلات، وتعزيز حركة النقد.
آلت المهمّة إلى عبد الله آل عيّاف الذي، بالإضافة إلى كونه مخرجاً حقَّق أفلاماً ذات قيمة فنّية كبيرة، أثبت سعة مداركه وقدرته على تحويل الأحلام إلى واقع. سينمائي طَموح يؤمن بكلّ عناصر تكوين صناعة سينمائية مُتكاملة، بما فيها تقوية جانب النقد السينمائي الذي يُعدّ منارة إضافية لتعزيز هذه الصناعة وتوفير المعرفة بها وبإنتاجاتها.
هذا الحوار أُجري في مركز ثقافي تاريخي في قلب البندقية (جزيرة أباتزيا) استأجرته الهيئة لـ5 سنوات، ليكون حاضراً لعرض أنواع الفنون والثقافات السعودية.
لا بدّ من التوقّف أمام فوز الفيلم السعودي «هجرة» لمخرجته الشابة شهد أمين بجائزة أفضل فيلم آسيوي في مهرجان البندقية، وقبله فيلم «نوره» للمخرج توفيق الزايدي في مهرجان «كان» العام الماضي، بكونه دليلاً واضحاً على نجاح مسار السينما السعودية، علماً بأنّ «هجرة» حظي بدعم مباشر من «هيئة الأفلام السعودية».
أفلام لكسر الحاجز
* في 5 سنوات منذ تأسيس «هيئة الأفلام السعودية»، ما الذي لا تزال تحلم بتحقيقه؟
– ما نحلم بتحقيقه هو كلّ شيء. ما زلنا في البدايات. ما يراه البعض إنجازاً كبيراً تحقَّق في 5 سنوات، ليس إلا البداية. الطموحات في زمن الرؤية طموحات عالية جداً. ما الذي تحقَّق؟ أولاً، شباك التذاكر السعودي انتقل من الصفر إلى أكبر سوق في الشرق الأوسط. الفيلم السعودي الذي كان صانعه يجد صعوبة في عرضه على أبناء بلده، بات اليوم لاعباً رئيسياً في شباك التذاكر. خلال النصف الأول من هذه السنة، أي من بداية العام حتى يوليو (تموز)، نحو 335 فيلماً، منها 8 أفلام سعودية، لكنها حققَّت 19 في المائة من مبيعات التذاكر. وهذا دليل على أنّ الفيلم السعودي كسب ثقة المشاهد في السنوات الماضية، حتى أصبح يشتري تذكرة لمشاهدته.
* هل كان هناك خوف من ردّ فعل سلبي قد يؤدّي إلى تفضيل الجمهور للأفلام الأميركية أو الهندية على الفيلم الوطني؟
– أوافقكَ. سبق أن صرّحت في لقاء مبكّر على إحدى القنوات السعودية أننا كنا نحتاج إلى فيلم تجاري واحد ناجح لكسر هذا الحاجز، لأنّ الجمهور آنذاك كان يسمع عن السينما السعودية ولا يراها إلا في المهرجانات. وأفلام المهرجانات، كما تعلم، قد لا تناسب كلّ الجمهور. كان لا بدّ من قصص نجاح. منذ الفيلم السعودي الأول والثاني ثم الثالث انكسر هذا الحاجز. اليوم، ومنذ إطلاق شباك التذاكر السعودي، هناك من بين أكثر 10 أفلام ربحية 3 سعودية. أي أنّ ثلث الأفلام الأعلى إيراداً سعودية، إلى جانب الأفلام الأميركية والعربية. هذه الأفلام لم تحقّق الإعجاب الجماهيري فحسب، بل نالت أيضاً إعجاب النقاد. لدينا فيلم في مهرجان البندقية هو «هجرة» لشهد أمين. العام الماضي كان «نوره» في مهرجان «كان». هيفاء المنصور ستعرض جديدها «مجهولة» في مهرجان تورنتو. وهناك عروض سعودية في القاهرة ومراكش، وكذلك في كارلوفي فاري ومهرجانات أخرى. أطلقنا أيضاً، في السنوات الماضية، أحد أكثر البرامج طموحاً في مجال السينما العالمية، وهو نظام الاسترداد المالي.
* يبلغ 40 %…
– نعم، مع تسهيلات لوجيستية ودعم. صُوِّرت أفلام دولية بمشاركة نجوم كبار مثل شاروخان وجيرار بتلر وغيرهما. وهناك مزيد، لكن لا أستطيع الإفصاح عنها حالياً لأنها لا تزال قيد التحضير. إلى ذلك، أثبت قسم المنح أنّ اختياراته كانت موفّقة. لا يعرف كثيرون أنّ «هجرة»، و«نوره»، و«هوبال»، هي أفلام غطَّت معظم ميزانياتها منحة «ضوء». راهنّا على هذه الأفلام الجيدة ولم تخذلنا.
السينما في الجامعات
* شاهدتُ «هجرة» وأعتقد أنه واحد من أفضل 10 أفلام هذا العام…
– هذه شهادة من ناقد كبير نحترمه. لكن إلى جانب صناعة الفيلم، هناك جانب البنية التحتية الذي تغيَّر بدوره في السنوات الماضية. بُني عدد من الاستوديوهات، وأُقيمت ورشات عمل و«صفوف متقدّمة»، وجرى تدريب أكثر من 4 آلاف متدرّب في الأعوام الماضية.
* هذا كم كبير من الإنجازات!
– أكثر من ذلك، هناك حالياً أكثر من 5 جامعات سعودية على الأقل تُدرّس الدراما بالتنسيق معنا، ولو أنّ بعضها بدأ قبل هذا التنسيق. ومن الفعاليات، مهرجان «البحر الأحمر الدولي» الذي أصبح، كما تعلم، أحد أهم المهرجانات في المنطقة رغم عمره القصير. وهناك «ملتقى الأفلام السعودي» الذي استقبل 60 ألف زائر في عام، وهو بذلك أكبر حدث خارج نطاق المهرجانات.
* ماذا عن الحركة النقدية؟
– للأسف، وكما تعلم، يدير العالم ظهره للنقد، ليس لأنّ الجمهور لا يُقدّر، بل لأن وسائل التواصل الاجتماعي والجيل الجديد…
* مسحت أهميته…
– وهنا الخطر. أدركنا هذا الأمر، فانتصرت الهيئة للنقد. لذلك هناك «مؤتمر النقد الدولي» الذي يُقام في الرياض سنوياً، تسبقه «ملتقيات النقد» في عدد من المدن.
* كم دورة أقيمت لـ«ملتقيات النقد»؟
– أقيمت حتى الآن في 7 أو 8 مدن في مناطق مختلفة. لدينا أيضاً «منصّة سينما» المهتمّة بالنقد، وهناك كثير بالفعل مثل الأرشيف الوطني للسينما.
* الدعم الحكومي العربي للسينما بدأ في أواخر الستينات. لكن تجربتكم فريدة كونها أكثر تحرّراً في نظامها، وتقوم بما لم تقم به المؤسّسات السينمائية في مصر وسوريا والعراق والجزائر. كانت لها أدوار مهمّة في تلك المراحل، لكن حجم اهتمامها لم يبلغ حجم اهتمام الهيئة ونوعيته. هل توافق على هذا الرأي؟
– أوافقك على أنّ التجربة السعودية مختلفة، والنشاطات والنجاحات التي شهدناها في السنوات الأخيرة تشي بالاستدامة والاستمرار. هناك دعم وثقة جادّان من قيادة المملكة بأهمية الفنون والسينما. هي ليست مجرّد إضافة عابرة، وإنما مشروع تأسيسي. نستطيع اليوم أن نتكل على وسائل التواصل، لكن هناك إيماناً راسخاً بضرورة بناء صناعة سينما حقيقية. نحن نتحدّث اليوم في أحد أهم المباني التاريخية في البندقية، مبنى أباتزيا العريق الذي يظهر في أقدم خرائط المدينة. هذا المبنى استأجرته وزارة الثقافة السعودية لإقامة فعاليات سينمائية وثقافية سعودية لـ5 أعوام. أذكر هذا الأمر لأنه كان من الممكن استئجار أي مكان تجاري عادي، لكن اختيار مكان عريق مثل هذا دليل على أن السعودية، بحداثتها، تريد أن تذهب عميقاً في تاريخ الفنون. وهذا ليس حراكاً اعتباطياً، بل ثمرة فكر ورؤية مدروسة.
حنين… ولكن
* بدأتَ مخرجاً لأفلام قصيرة، بعضها من أجمل ما شاهدتُ من أفلام سعودية حتى اليوم. هل تحنّ إلى الوقوف خلف الكاميرا من جديد؟
– أحنُّ كثيراً وأتمنى أن أعود يوماً، لكني أعوّض هذا الغياب عبر كتابة الرواية، ولديّ عمل آخر مقبل. فخري الحقيقي هو ما تفعله الهيئة والزملاء والزميلات، ما يجعلني أؤمن أنّ هذا الأثر أعظم من أي أثر آخر. نجاح الهيئة ليس عزاءً بسيطاً لي، بل عزاء كبير.
* سألتك في أحد المهرجانات التي حضرناها إذا ما كانت هناك خطة لتشجيع السينما البديلة، وأذكر إجابتكَ أنّ هذا بعض طموحك. ما هو واقع هذه الرغبة حالياً؟
– أعتقد أنّ السعوديين والسعوديات يسيرون في طريق سبقهم إليها آخرون، لكنهم يسيرون على طريقتهم. مثلاً، عندما ينجح فيلم مثل «هوبال» في الوصول إلى الجمهور السعودي، فهذا يعني أنّ الجمهور لديه القابلية لمشاهدة المختلف. ولا أعتقد أنّ هناك تضاداً بين الفيلم الجيد والفيلم الجماهيري. أرى أن فيلماً مثل «هجرة» لديه فرصة للنجاح حتى خارج السعودية. أتمنى أن تكون السوق حيوية وناجحة، وألا تخلو من الأفلام الجيدة، لأنّ الاعتماد على أفلام مُستنسخة من أخرى أجنبية لغرض تجاري بحت يُشكّل غصّة كبيرة في صدري بصفتي صانع أفلام ومسؤولاً.
* ما هي التحدّيات المُقبلة للهيئة وللصناعة السعودية عموماً؟
– التحدّي اليوم، وهو ما يسعدنا أيضاً، أن يكون لدينا في العالم العربي عدد كافٍ من النقاد المواكبين لإنجاح الأفلام البديلة، وهذا ما نعمل عليه. أعتقد أنّ السعوديين يملكون الوعي الكافي للتفريق بين الأفلام الجيدة والرديئة. هناك أفلام سعودية ضعيفة ظهرت في السوق ولم تُكمل أسبوعها الأول بعدما لفظها الجمهور. عملنا بمثابة ضوء للمشاريع التي لا نتوقّع أن تكون من الأفلام التجارية المُعتادة. وهذا النوع يحتاج إلى دعم، لأنه من الضروري أن تعتاد عيون المشاهدين على تنوُّع التجارب السينمائية.