بعد تخفيف الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكبار مسؤولي إدارته من حدة موقفهم تجاه الصين، بما في ذلك العلاقة مع تايوان ورفع الحظر عن تصدير بعض شرائح الذكاء الاصطناعي، بدا أن السياسات الأميركية التي كانت تعد الصين خصماً منافساً، في طريقها للتغيير وقد تقود إلى تحالف جديد، أو على الأقل إلى شراكة بينهما، على حساب الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة. فالتنازلات الأخيرة التي قدمتها إدارة ترمب، بشأن تايوان وتكنولوجيا الرقائق، جاءت قبل قمة محتملة بين ترمب والرئيس الصيني شي جيبينغ، وفي خضم محادثات تجارية بالغة الأهمية بين البلدين، قد تقود إلى توقيع اتفاق تجاري، يرى البعض أنه قد يكون على حساب العديد من شركاء الولايات المتحدة، الذين بالكاد توصلوا إلى تفاهمات تجارية مماثلة معها.

مصافحة بين ترمب وشي في قاعة الشعب في بكين عام 2017 (رويترز)

نقاط ضعف مشتركة

ولفت العديد من الخبراء، بمن فيهم مسؤولون سابقون في إدارة ترمب، إلى أن الحرب التجارية التي أعلنها الأخير سابقاً ضد الصين، قد تكون خطأ غير محسوب، بعدما تبين أن بكين عثرت على نقاط ضعف أميركية، على رأسها معادن الأرض النادرة، واستخدمتها في المواجهة مع واشنطن.

يقول جاك بورنهام، كبير الباحثين في الشأن الصيني في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، وهو مركز بحثي محسوب على الجمهوريين، إن محادثات التجارة الجارية بين واشنطن وبكين، تعد جهداً لاستهداف نقاط ضغط دقيقة، مع السعي لتخفيف وطأة كل هجوم. وأضاف في حديث مع «الشرق الأوسط» قائلاً إن الاختبار الآن يتمثل في القدرة على التحمل، حيث تسعى كل من الولايات المتحدة والصين إلى تقليص نقاط ضعفهما، في الوقت الذي تواجهان فيه اتجاهات اقتصادية أوسع.

وبعدما أجّلت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) اجتماعاً بين وزير دفاع تايوان وكبار قادة البنتاغون في يونيو (حزيران)، قيل إنها جاءت بعد أن حثّ شي ترمب على الحد من التعامل مع تايوان خلال مكالمة هاتفية في وقت سابق من يونيو، وتعليق بعض ضوابط التصدير الجديدة على الصين، حيث أعلنت إدارة ترمب عن خطط لثني الرئيس التايواني، لاي تشينغ تي، من التوقف في الولايات المتحدة خلال جولة له تبدأ في الأول من أغسطس (آب). وهو ما أدى إلى إلغاء الزيارة التي كان من المقرر مبدئياً أن تشمل توقفا في مدينتي دالاس ونيويورك، خلال زيارته لحلفاء قليلين لبلاده في أميركا اللاتينية، بعد أن حاولت إدارة ترمب تغيير مسار رحلته.

نائب رئيس الوزراء الصيني هي ليفنغ يُشير بيده قبيل محادثات تجارية بين الولايات المتحدة والصين في استوكهولم (رويترز)

رضوخ لضغوط بكين

وكانت صحيفة «فاينانشال تايمز» أول من أورد خبر إلغاء رحلة لاي بعد ضغوط من إدارة ترمب، وهو ما عُدّ رضوخاً للضغوط الصينية التي ترى أن أي تواصل مع المسؤولين التايوانيين هو استفزاز لبكين.

ووفقاً لصحيفة «واشنطن بوست»، فقد حذّر منتقدو الانفراج الناشئ، بمن فيهم جمهوريون وديمقراطيون، من أن هذه الخطوات الأخيرة قد تُقوّض الأمن القومي الأميركي وتؤثر على التحالفات الإقليمية. وأعربوا عن قلقهم من أن رغبة ترمب في إبرام صفقة تجارية مع الصين، تُهمّش جهود واشنطن لمنافسة بكين اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً بشكل أكثر قوة، في الوقت الذي تسعى فيه الصين إلى إزاحة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في التقنيات الناشئة، مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية، والتي تعتبرها مفتاح تسريع تحديثها العسكري وهيمنتها الاقتصادية العالمية.

ويؤكد بورنهام في حديثه مع «الشرق الأوسط» أن الصين تسعى إلى استبدال الولايات المتحدة كقوة عالمية بارزة في جميع المجالات تقريباً، مُدركةً أن واشنطن تُمثل أكبر تهديد مُحتمل لطموحاتها الجيوسياسية. وتهدف كل خطوة تتخذها بكين تجاه الولايات المتحدة إلى ترسيخ سيطرتها، ولن تتنازل عن أي ميزة بسهولة.

ونقلت الصحيفة عن إيلي راتنر، المسؤول الدفاعي السابق في إدارة بايدن قوله، إن «هذه التنازلات تُرسل إشارة خطيرة، مفادها أن نهج أميركا تجاه تايوان قابل للتفاوض». وأضاف: «هذا لن يؤدي إلا إلى مزيد من الضغط والإكراه الصيني».

وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت والممثل التجاري جيميسون غرير قبل محادثات تجارية بين الولايات المتحدة والصين في استوكهولم (رويترز)

إقامة علاقة مع بكين

ومن الواضح أن الصين ترغب في التقنيات الأميركية، فقد ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» أن الوصول إلى الرقائق المتقدمة كان أولوية للمفاوضين الصينيين في محادثات التجارة. وبعدما اختتمت الجولة الأخيرة من تلك المحادثات في استوكهولم يوم الثلاثاء، صرح وزير الخزانة الأميركية، سكوت بيسنت، بأن على الرئيس أن يقرر ما إذا كان سيمدد الهدنة التجارية بين البلدين. وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض آنا كيلي في بيان: «ناقش الرئيس ترمب علناً رغبته في إقامة علاقة بناءة مع الصين، التي ترسل المعادن الأرضية النادرة إلى الولايات المتحدة. إنه يركز على تعزيز المصالح الأميركية، مثل تهيئة الظروف للصناعات الأميركية وحث الصين على وقف تدفق الفنتانيل إلى بلدنا».

ووفقاً لمسؤول أميركي، تدرس الإدارة ما إذا كانت سترسل المزيد من المعدات العسكرية مباشرة إلى تايوان. وقد قدّمت وزارة الدفاع قائمة بالمساعدات إلى البيت الأبيض للنظر فيها من قِبَل الرئيس، لكن لم تتم الموافقة عليها بعد. وبدلاً من ذلك، أرسلت القائمة إلى وزارة الخارجية.

شريحة مُهمَلة من إنتاج شركة التكنولوجيا الأميركية «إنفيديا» في برلين (إ.ب.أ)

شريحة «إتش 20»

غير أن أبرز الانتقادات جاءت بعدما وافقت إدارة ترمب على السماح لشركة «إنفيديا» بتصدير شريحة الذكاء الاصطناعي فائقة التطور «إتش 20» إلى الصين، بعد جهود بذلها رئيسها التنفيذي، جينسن هوانغ، لإقناع ترمب. وزعمت الشركة أن الشريحة لن تُستخدم لمساعدة الجيش الصيني وأن أميركا تستفيد عندما تعتمد الدول الأخرى على تقنيتها.

غير أن المنتقدين قالوا إن هذه التقنية ستساعد في تطوير المجمع الصناعي العسكري الصيني، مع تطبيقات تتراوح من محاكاة الأسلحة النووية إلى تطوير الطائرات من دون طيار.

ويوم الاثنين، وجّه 20 خبيراً في الأمن القومي، رسالة يحثون فيها وزير التجارة، هوارد لوتنيك، على التراجع عن هذا القرار. وقالت الرسالة: «نعتقد أن هذه الخطوة تمثل خطأً استراتيجياً يُهدد التفوق الاقتصادي والعسكري للولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي، وهو مجال يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه حاسم في القيادة العالمية في القرن الحادي والعشرين».

ومن بين الموقعين أعضاء سابقون في إدارتي ترمب، مثل ديفيد فيث، الذي قاد سياسة المنافسة التكنولوجية في مجلس الأمن القومي حتى أبريل (نيسان) الماضي، وماثيو بوتينغر، الذي شغل منصب نائب مستشار الأمن القومي في ولاية ترمب الأولى.

سابقة خطيرة

وقال كريستوفر باديلا، المسؤول السابق في مجال مراقبة الصادرات في إدارة جورج دبليو بوش، إن استعداد إدارة ترمب الواضح لوضع ضوابط تصدير التكنولوجيا على طاولة المفاوضات التجارية يُعد تطوراً مقلقاً. وأضاف: «منذ إدارة كارتر وتطبيع العلاقات مع الصين، كانت السياسة المتبعة هي رفض طلب بكين رفع ضوابط التصدير مقابل، على سبيل المثال، سد العجز التجاري». وعدّ استخدامها وسيلة ضغط في محادثات التجارة «سابقة خطيرة»، «ويثير احتمالاً حقيقياً بأن تُطالب الصين الآن بتخفيف ضوابط التصدير مقابل تنازلات تجارية مستقبلية، أو مقابل اتفاق إذا زار الرئيس الصين في وقت لاحق من هذا العام».

وكان ترمب قد صرح أن الرئيس شي دعاه لزيارة الصين، ومن المرجح أن يفعل ذلك في المستقبل غير البعيد. ويوم الثلاثاء، نشر على موقع «تروث سوشيال» أنه «لا يسعى» إلى عقد قمة مع شي. وكتب: «قد أذهب إلى الصين، ولكن ذلك سيكون فقط بناءً على دعوة من الرئيس شي، والتي مُددت». «وإلا، فلا فائدة!».

ومع ذلك تتخذ إدارة ترمب خطوات لمحاولة الحفاظ على ريادة الولايات المتحدة. فقد أعلنت أخيراً عن «خطة عمل» للذكاء الاصطناعي، تهدف إلى تقليص البيروقراطية وتسهيل بناء شركات التكنولوجيا لمراكز البيانات اللازمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. وفي وقت سابق من هذا العام، كشفت شركة «أوبن إيه آي» وشركة «سوفت بنك» اليابانية عن شراكة بقيمة 500 مليار دولار لبناء مراكز بيانات جديدة للذكاء الاصطناعي.

شاركها.
Exit mobile version