الخرطوم- بعد شهر من اندلاع الحرب في أنحائها، يتعايش قطاع كبير من سكان ولاية الخرطوم مع أزيز الطائرات الحربية ودوي المدافع، غير أن الحزن يكسو وجوه كثيرين فقدوا أقاربهم وأحبتهم بالقذائف الطائشة والمتفجرات المتجوّلة، بينما تشتت الأسر بالنزوح من مكان لآخر في ظل ظروف اقتصادية وأمنية معقدة.
وفي منتصف أبريل/نيسان الماضي أفاق سكان العاصمة السودانية على واقع جديد؛ حيث اندلعت مواجهات بين الجيش وقوات الدعم السريع كانت نُذرها واضحة -وفق مراقبين- بحشد قوات عسكرية ضخمة من الولايات حول الخرطوم، وتصاعد الخلاف بين الطرفين بشأن دمج “الدعم السريع” في المؤسسة العسكرية.
بدأ القتال من المدينة الرياضية في جنوبي الخرطوم وامتد إلى المطار ومقر قيادة الجيش والقصر الرئاسي قبل أن ينتقل إلى بقية المناطق، وسط تبادل للاتهامات حول مَن أطلق الرصاصة الأولى في الحرب.
وتأثّرت بالحرب ولاية الخرطوم لثقلها السكاني والاقتصادي والسياسي. كما امتدت الاشتباكات إلى 3 من ولايات دارفور الخمس، بينما تشهد بقية ولايات البلاد هدوءا ويمارس المواطنون حياتهم الطبيعية.
وانتعشت الأوضاع الاقتصادية في ولاية الجزيرة القريبة من العاصمة التي نزح إليها عشرات الآلاف، وكذلك بورتسودان حاضرة ولاية البحر الأحمر التي يُجلى منها الأجانب والسودانيون المغادرون جوا وبحرا باعتبارها رئة البلاد إلى الخارج بعد خروج مطار الخرطوم من الخدمة.
وبعد شهر من الحرب، ترصد الجزيرة نت حقيقة الأوضاع في الخرطوم من زوايا التطورات المختلفة:
الوضع العسكري
استطاع الجيش منذ الأيام الأولى للحرب تدمير المقر الرئيس لقوات الدعم السريع ومركز الاتصالات بوسط الخرطوم وعشرات القواعد والمعسكرات والمقار اللوجستية والإدارية التابعة لها حول العاصمة. وكذلك تدمير منازل ومكاتب قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، ونائبه عبد الرحيم حمدان دقلو.
كما صدّ الجيش كل الهجمات على المواقع العسكرية وأخرج الدعم السريع من مقر قيادته ولم يُتح لها السيطرة على أية وحدة عسكرية.
ووفق بيانات الجيش، فإن قوات الدعم السريع أخفقت في تحقيق هدفها بالاستيلاء على السلطة وتصفية قيادته واستبدالها بأخرى موالية لها. واتهمها باقتحام 22 مستشفى وتحويلها إلى ثكنات عسكرية، واستخدام المواطنين دروعا بشرية والاحتماء بهم وسط الأحياء، وارتكاب انتهاكات جسيمة وعمليات سلب ونهب وطرد مئات المواطنين من منازلهم.
وفي المقابل، لا تزال قوات الدعم السريع تحتفظ بوجودها في القصر الجمهوري ومطار الخرطوم ومقر الإذاعة والتلفزيون الرسميين، وتسيطر على مركز تحكّم الكهرباء في شمال العاصمة ومصفاة تكرير النفط في جنوبها، وتنتشر في طرقات رئيسية وتقيم فيها ارتكازات عسكرية، وكذلك وسط الأحياء السكنية بمناطق مختلفة من مدن العاصمة الثلاث.
وتقول قوات الدعم السريع إنها تسيطر على 70% من العاصمة، وتتهم الجيش بالقصف العشوائي للأحياء السكنية ما أوقع عشرات الضحايا.
مدن أشباح ولا وصول للموتى
وعلى وقع القتال، تحوّلت عشرات الأحياء في العاصمة إلى مدن أشباح وهجرها سكانها لقرب بعضها من مواقع الاشتباكات وسط العاصمة وشرقها، أبرزها مناطق: الخرطوم 1 و2 والعمارات والرياض والصفا والطائف وبري، أو لانقطاع الكهرباء والمياه بأجزاء واسعة من الخرطوم بحري التي توقّفت محطة المياه فيها منذ اندلاع الاشتباكات ولم تتم صيانتها لصعوبة الوصول إليها.
وتحدث نشطاء عن حالات إنسانية صعبة؛ حيث توفيت سيدة كبيرة في السن يجاور منزلها مقر السفارتين التركية والبريطانية وسط الخرطوم بسبب العطش والجوع بعدما أخفقت أسرتها في الوصول إليها، وأطلقت نداءً لمن يستطيع الوصول إلى منزلها لدفنها في حديقته بعد 5 أيام من وفاتها.
وغامر أطباء بحياتهم للوصول إلى منزل زميلتيهم مختصة التخدير مجدولين بطرس غالي وشقيقتها طبيبة الأسنان ماجدة اللتين قضتا بقذيفة اخترقت منزلهما في حي العمارات، ولم يتمكن أحد من الوصول إليهما إلا بعد نحو أسبوع ودُفن جثمانيهما في حديقة المنزل أيضا لصعوبة الخروج من المنطقة بسبب المخاطر الأمنية.
الضحايا والنازحين
وبعد شهر من القتال، قال تقرير رسمي إن عدد الضحايا المدنيين منذ بداية الاشتباكات تجاوز 600 قتيل وأكثر من 700 جريح في الخرطوم وولايات شمال كردفان وشمال وغرب وجنوب دارفور.
بينما قالت الأمم المتحدة إن 575 قُتلوا و5576 أصيبوا بجراح، مع نزوح أكثر من 900 ألف داخليا وإلى خارج البلاد منذ منتصف أبريل/نيسان الماضي.
ويوضح مسؤول في مفوضية العون الإنساني التابعة لوزارة الرعاية الاجتماعية للجزيرة نت، أن الآلاف من مواطني ولاية الخرطوم غادروا منازلهم إلى أحياء أكثر أمنا وتتوفر فيها الخدمات داخل الولاية، بينما رُصد نزوح أكثر من 200 ألف شخص إلى ولايات مجاورة وخاصة الجزيرة والنيل الأبيض ونهر النيل إلى جانب ولايات أخرى لم تتأثر بالحرب.
كما لجأ نحو 120 ألفا إلى دول مجاورة، نصفهم دخلوا عبر المعابر الحدودية إلى مصر لعدم اشتراط الحصول على تأشيرة دخول مسبقة إلا للرجال ممن هم أقل من 50 عاما. بجانب وجود أسر سودانية مقيمة هناك يمكن أن تستضيفهم، وفق المسؤول الحكومي.
ويضيف المسؤول أن آلافا آخرين لجؤوا إلى إثيوبيا وتشاد وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى بعض آلاف من السودانيين حاملي الجوازات الأجنبية الذين تم إجلاؤهم برا وبحرا.
ويكشف المسؤول الحكومي أن منظمات دولية ودول تواصلت معهم للسؤال عن مواقع مخيمات النازحين في الخرطوم لتقدير حجم المساعدات الإنسانية، وقال “لم يصدقوا أنه لا يوجد مخيم واحد بسبب قيم التعاون والتكافل وسط المجتمع والأسر الممتدة التي تساعد بعضها”.
أسعار جنونية ولا رواتب
ورغم توفر السلع بمناطق عدة، فإن المواطنين يجدون مشقة في الوصول إلى الأسواق وشراء احتياجاتهم لمضاعفة الأسعار بصورة جنونية، وعدم صرف أجور العاملين في القطاعين العام والخاص، وتوقف عمل المصارف منذ بداية الأزمة وتعثّر تطبيقات الدفع الإلكتروني.
ونشطت أسواق لبيع المقتنيات التي يعرضها أصحابها للحصول على ضرورات الحياة، وفي مفارقة لافتة نشأت أسواق لبيع الأجهزة والمعدات المنهوبة بعد تفشّي النهب والسلب بصورة واسعة في بعض الأحياء. وتُباع تلك المسروقات بأقل من سعرها الحقيقي خصوصا الأجهزة الكهربائية والأثاث والهواتف المحمولة.
وبعد توقيع الجيش وقوات الدعم السريع “إعلان جدة” لحماية المدنيين وبدء توصيل المساعدات الإنسانية يوم الجمعة الماضي، انتعشت آمال المواطنين بقرب وقف الحرب، ولكن لا تزال تلك الآمال معلّقة ولم يتغير شيء على الأرض.