تشهد أخبار السودان هذه الأيام تطورات مأساوية، حيث ما تزال الحرب في السودان مشتعلة منذ أكثر من عامين، مسببةً واحدة من أعنف الأزمات الإنسانية في العالم. فالمعارك المتواصلة بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” لم تقتصر على المواجهات العسكرية، بل امتدت لتطال حياة المدنيين اليومية، وتعمّق من معاناتهم مع النزوح والجوع والحرمان من التعليم والخدمات الصحية.
هجوم مأساوي على مسجد الفاشر
في أحدث فصول المأساة، هزّ السودان هجوم بطائرة مسيّرة استهدف مسجداً في مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور. الهجوم وقع أثناء صلاة الفجر، وأسفر عن مقتل أكثر من 70 شخصاً بين مصلين من الشيوخ والشباب والأطفال، في مشهد ترك أثراً صادماً في الداخل والخارج. السلطات المحلية اتهمت قوات الدعم السريع بالوقوف وراء هذا العمل الدموي، واعتبرته من أعنف الهجمات التي شهدتها المدينة منذ اندلاع النزاع.
الهجوم أثار موجة من الإدانات الدولية، حيث أعربت السعودية وقطر والولايات المتحدة وبريطانيا عن استنكارها الشديد، مؤكدة أن استهداف المدنيين ودور العبادة يعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني. وأشارت الخارجية السعودية بوضوح إلى ضرورة وقف الحرب فوراً وتنفيذ ما تم التوقيع عليه في إعلان جدة عام 2023، الذي نص على حماية المدنيين.
إدانات دولية ومطالب بوقف العنف
الولايات المتحدة وصفت الهجوم بـ”العمل الوحشي”، مؤكدة التزامها بدعم الجهود الهادفة لإنهاء دوامة العنف وحماية المدنيين. بدورها، شددت وزيرة الخارجية البريطانية إيفيت كوبر على أن الأطراف المتحاربة أظهرت تجاهلاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، مطالبة بتهدئة فورية ومحاسبة المسؤولين. أما قطر، فقد اعتبرت استهداف المسجد “انتهاكاً سافراً للقانون الإنساني الدولي” ودعت إلى حماية دور العبادة وتجنيب المدنيين ويلات الحرب.
تصاعد الخسائر الإنسانية
الأزمة السودانية لم تعد تقتصر على الهجمات المباشرة، بل كشفت تقارير أممية عن تزايد أعداد الضحايا المدنيين بشكل غير مسبوق. فقد أعلنت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان أن النصف الأول من هذا العام شهد مقتل ما لا يقل عن 3384 مدنياً، معظمهم في إقليم دارفور. الرقم يمثل قفزة كبيرة مقارنة بالعام الماضي، حيث بلغت نسبة الضحايا نحو 80% من إجمالي الخسائر البشرية المسجلة.
التقارير أشارت إلى أن أسباب الوفيات تنوعت بين القصف المدفعي، والغارات الجوية، وهجمات الطائرات المسيّرة في مناطق مكتظة بالسكان. كما تم توثيق نحو 990 حالة إعدام ميداني، بعضها استهدف أطفالاً في العاصمة الخرطوم، في حوادث وصفتها المفوضية بأنها “موجعة ومروعة”.
أوضاع مأساوية في الفاشر ودارفور
مدينة الفاشر، المحاصرة منذ أشهر، تحولت إلى رمز لمعاناة السودانيين. سكانها يواجهون نقصاً حاداً في الغذاء والدواء، فيما تعجز المستشفيات عن استيعاب أعداد الجرحى. “شبكة أطباء السودان” حذرت مراراً من كارثة إنسانية إذا لم يتم فتح ممرات إنسانية عاجلة لتوصيل المساعدات.
وفي مخيمات زمزم وأبو شوك للنازحين، ازدادت المعاناة مع تصاعد الهجمات، مما دفع آلاف الأسر إلى النزوح مرة أخرى بحثاً عن مناطق أكثر أماناً. ورغم المحاولات الأممية لإيصال المساعدات، فإن الانتهاكات المستمرة تجعل مهمة الإغاثة محفوفة بالمخاطر.
الخرطوم بين الدمار ومحاولات الإنعاش
أما العاصمة الخرطوم، التي شهدت معارك ضارية منذ بداية النزاع، فقد بدأت تظهر فيها مؤشرات خجولة لعودة الحياة. بعض المكاتب الأممية أعيد افتتاحها، وعادت أعداد قليلة من النازحين إلى أحيائهم. لكن المدينة ما زالت تعاني من دمار هائل في بنيتها التحتية، وانعدام الأمن، وصعوبة إعادة الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه.
المجتمع الدولي والبحث عن حلول
الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومعظم الدول الإقليمية يطالبون بوقف فوري لإطلاق النار وبدء مفاوضات جدية تقود إلى سلام مستدام. لكن الانقسامات العميقة بين الأطراف المتحاربة تجعل فرص الحل السياسي معقدة وصعبة التحقيق في المدى القريب.
في الختام
الوضع في السودان يقف عند لحظة فارقة، إذ يهدد استمرار الحرب بمزيد من سفك الدماء وتفاقم موجات النزوح وانهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة. ومع ذلك، يبقى بصيص الأمل قائماً في ضغوط المجتمع الدولي، وفي استعداد الأطراف المتحاربة لتقديم تنازلات حقيقية تفتح الطريق نحو الحل. ما يحتاجه السودان اليوم يتجاوز مجرد بيانات الإدانة، فهو بحاجة إلى خطوات عملية توقف النزاع، وتفتح ممرات إنسانية، وتعيد بعض الطمأنينة لملايين المدنيين الذين أنهكتهم الأزمات. كما أن تحقيق العدالة يتطلب محاسبة المتورطين في الجرائم وإنهاء الظلم الواقع على الأبرياء. وهنا يظل السؤال قائماً: هل يضمد السودان جراحه قريباً، أم سيبقى النزيف مستمراً إلى أجل غير معلوم؟