جنين- لم تستطع والدة الشهيد وئام حنون أن تُكمل حديثها عن منزلها الذي هُجرت منه في مخيم جنين شمال الضفة الغربية، ولا عن شوقها للعودة إليه. خانتها الكلمات وهي تصف حنينها لزيارة قبر نجلها الشهيد، والجلوس بقربه والتحدث إليه.

ففي المخيم الذي أُفرغ من سكانه وتحول إلى ثكنة عسكرية يطوقها جيش الاحتلال بـ3 بوابات حديدية تعزله عن محيطه، بقيت المقبرة شاهدة على الفقد، والمكان الأكثر ألما وحضورا في ذاكرة الأهالي النازحين.

وإضافة لرمزية المقبرة ومكانتها في تاريخ نضال المخيم، كانت أول مكان تصله أقدام الزائرين في الأعياد والمناسبات أيضا.

وكان آخر عهد أم وئام بقبر نجلها الشهيد في يوم عيد الفطر الماضي، حين تمكنت من زيارته للحظات قبل أن تقتحم قوات الاحتلال المكان وتفرض إخلاءه بالقوة.

وقالت “لم تمضِ سوى دقائق على وصولي للمقبرة برفقة عدد من ذوي الشهداء صباح العيد، قاصدين معايدة أحبتنا وقراءة الفاتحة على أرواحهم، حتى باغتنا جيش الاحتلال بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي في الهواء لإجبارنا على الرحيل. ومنذ ذلك اليوم بقيت حسرة حرماني من رؤية قبر وئام جاثمة على صدري”.

وتضيف أم وئام في حديثها للجزيرة نت “على مدى الأشهر السبعة الماضية -وهو تاريخ بدء عملية “السور الحديدي” الإسرائيلية في مخيم جنين- حُرم الأهالي من زيارة قبور أحبائهم وتفقدها، في حين بقيت محاولات النازحين للوصول إلى المقبرة بعد إعلان الاحتلال عن سماح مؤقت للدخول إلى أطراف المخيم معلقة”.

وتصف المقبرة بعد سيطرة جنود الاحتلال عليها، فتقول إنها “تحولت إلى مكان مهمل وغير نظيف، شواهد القبور تكسوها الأعشاب اليابسة”، وتضيف “من حقنا كفاقدين أن ندخل المقبرة ونعيد تنظيفها والاعتناء بها”.

الدفن بعد التنسيق

ومنذ شهور، لم يعد بمقدور كثيرين حضور دفن الشهداء وأقاربهم في المقبرة، وغابت المشاهد المهيبة التي دأب عليها أهالي جنين على مر السنين، إذ كانت مواكب التشييع تجوب شوارع المدينة وصولا إلى مقبرة المخيم، حيث يجتمع المئات للمشاركة في حفر القبور وإتمام مراسم الدفن، في تقليد جسد دوما روح الكفاح والصمود في المخيم.

وتمكنت عائلة الشهيد يوسف العامر، الذي اغتاله الاحتلال الإسرائيلي في بلدة قباطية جنوب جنين بعد أن هدم الغرفة الزراعية التي كان يتحصن بها أواخر يوليو/تموز الماضي، من الحصول على تنسيق خاص لدفنه في مقبرة شهداء المخيم، على أن يقتصر الحضور على 10 من أقاربه من الدرجة الأولى فقط.

وفي حديثه مع الجزيرة نت قال عماد العامر والد الشهيد يوسف “إضافة لألم فقد ابني كان ألم دفنه بهذه الطريقة قاسيا علينا، وكنت أرى جيش الاحتلال يراقبنا من بعيد، إلى أن انتهت مراسم الدفن”.

ويضيف “يوسف عاش مقاوما، ولم يقبل الأهالي أن يشيع بصمت كامل، حملوه على الأكتاف حتى وصلنا إلى محيط مستشفى جنين الحكومي، وهناك منعنا من دخول المخيم إلى حين وضع الجثمان في سيارة الإسعاف وسُمح بدخول أقربائه فقط”.

أهالي جنين يقولون إن الاحتلال تعمد إبعادهم عن كل ما ألفوه في حياتهم، ومن بين ذلك زيارة المقبرة (الجزيرة)

مفارقة مؤلمة

وخلال تغطية أحد الصحفيين لدفن الشهيد يوسف العامر عبر خاصية البث المباشر طلبت أم وئام حنون منه أن يوجه الكاميرا باتجاه قبر نجلها وئام لتراه وتطمئن عليه.

ويمثّل شوق أهالي مخيم جنين لمقبرة الشهداء امتدادا لحنينهم إلى كل تفاصيل حياتهم التي سُلبت منهم وأُجبروا على الرحيل عنها.

ويؤكد العامر أن “وجود الاحتلال داخل المخيم أحدث شرخا عميقا في قلوب سكانه، فالمخيم ارتبط اسمه لعقود كمركز للمقاومة في الضفة، وظل يتردد صداه في وجدان الفلسطينيين بما شهده من معارك كبرى، وعلى رأسها معركة عام 2002 الشهيرة التي ارتقى فيها قادة بارزون مثل محمود طوالبة، وشادي النوباني”.

ويتابع قائلا “نحن عائلة كبيرة تضم ما يقارب 150 فردا، كنا نلتقي بشكل شبه يومي، لكن منذ 7 أشهر تفرق شملنا بين قرى جنين ووسط المدينة، أقربنا اليوم يبعد مسكنه نحو 25 كيلومترا عن منزله في المخيم، وهذا واقع قاس وصعب للغاية”.

شوق للشهداء

ويشير أهالي جنين إلى أن الاحتلال تعمد إبعادهم عن كل ما ألفوه خلال سنوات حياتهم، وشمل ذلك الأموات، بما يعني انتزاعهم من كينونتهم، ولم يعد الأمر مجرد تغيير جغرافي للمخيم، بل امتد ليطال انتماءهم للمكان وروابطهم الاجتماعية وهويتهم.

ويرى العامر -الذي دفن والدته بنفس الطريقة في مقبرة شهداء المخيم قبل 5 أيام- أن جنازتها كانت أصعب ألما على نفسه، إذ تعود والدته إلى عائلة الزبيدي المعروفة في جنين، وعرفها جميع السكان بأنها جدة الشهداء، ودفنت بوجود 10 من أبنائها وأحفادها فقط، بينما لو كانت الظروف كما في السابق، لحضر جنازتها الآلاف من أهالي جنين وعموم الضفة الغربية.

ويضيف العامر “مهما تحدثت، لن أستطيع وصف معاناة النازحين، لا توجد كلمات تعبر عن شعوري حين أمر بمحيط منزلي على أطراف المخيم بشكل شبه يومي ولا أستطيع دخوله. حديقته التي كنت أجلس فيها مع جيراني وعائلتي كل يوم لم يتبقَ منها شيء..”.

يصمت ويتابع “لا حروف تصف العجز الذي نشعره بعد خسارتنا كل شيء، أولادنا، منازلنا، ممتلكاتنا، ذكرياتنا، باختصار كل شيء”.

ويؤكد أبو أحمد السعدي، أحد النازحين من مخيم جنين، كلام العامر، قائلا للجزيرة نت “الاحتلال استكثر علينا حتى القبور، هم لا يريدوننا أحياء ولا حتى أموات، مشكلة النزوح وضنك العيش وصعوبة الحياة في السكنات منذ 7 أشهر في كفة، وشوقنا للشهداء وزيارتهم في كفة أخرى”.

وخلال اجتياح المخيم العام الماضي، والذي استمر 10 أيام، هدمت جرافات الاحتلال أسوار مقبرة المخيم، ومزق جنود الاحتلال عشرات الصور المعلقة لشهداء ومقاومين من كتيبة جنين، بينهم أطفال ومسنون قضوا في اقتحامات الجيش قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

ومنذ عملية السور الحديدي، قتلت إسرائيل 45 فلسطينيا في محافظة جنين، بينهم 11 من المخيم، تم دفن 9 منهم بعد حصول أهاليهم على تنسيق من الجيش الإسرائيلي، في حين احتجزت سلطات الاحتلال جثامين 3 آخرين.

شاركها.
Exit mobile version