يصادف اليوم الاثنين الذكرى الثامنة لهبّة باب الأسباط التي اندلعت صباح يوم الجمعة 14 يوليو/تموز 2017، بعدما أغلق الاحتلال أبواب المسجد الأقصى كافة، إثر عملية إطلاق نار نفذها 3 شبان من مدينة أم الفحم، في الداخل الفلسطيني، واستهدفوا فيها قوة للشرطة الإسرائيلية متمركزة عند باب حطّة، أحد أبواب المسجد.

ثم دخل الشبان إلى باحات الأقصى، حيث طاردتهم قوات من الشرطة واشتبكت معهم حتى استشهدوا في صحن مصلى قبة الصخرة المشرفة، وأسفرت العملية عن مقتل شرطيين إسرائيليين.

أشعلت هذه العملية غضب الاحتلال الذي لجأ إلى التصعيد بنصب بوابات إلكترونية أمام أبواب المسجد، وهو الأمر الذي قابله المقدسيون بالنزول إلى الشارع والمشاركة باعتصام مفتوح حتى أُزيلت هذه البوابات بعد أسبوعين.

وبحلول الذكرى الثامنة، حاورت الجزيرة نت الأستاذ المشارك بدراسات بيت المقدس ورئيس قسم التاريخ الإسلامي في جامعة أنقرة للعلوم الاجتماعية خالد عويسي، الذي تحدث عن الفرق بين حال الأقصى إبّان تلك الهبّة وبُعيد معركة “طوفان الأقصى”، وعن أبرز الدروس المستفادة منها، وما يمكن استلهامه من تلك التجربة لحماية الأقصى اليوم.

عويسي: لو كان هناك رد فعل مشابه بعد طوفان الأقصى، كما حدث في سيف القدس، لكان هناك ردع حقيقي للاحتلال (الجزيرة)

وتاليا نص الحوار كاملا:

  • ما الفرق بين حال الأقصى اليوم وإبان هبّة باب الأسباط، ما الذي تغيّر حتى سُكِت عن إغلاقه بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وبعد الحرب الإيرانية الإسرائيلية؟

الفرق يكمن في طبيعة التهديد، ومستوى الحشد الفلسطيني، وأدوات الاحتلال، فما يواجهه الأقصى اليوم أخطر بكثير مما كان عليه قبل 8 أعوام.

لو كان هناك رد فعل مشابه بعد طوفان الأقصى، كما حدث أيضا في “سيف القدس” عام 2021، لكان هناك ردع حقيقي للاحتلال، لكن تُركت غزة وحدها لتدفع ضريبة الدفاع عن المسجد بعد الطوفان.

وبما أنه ليس هناك رادع اليوم، يستغل الاحتلال ذلك بتوسعة حربه على الأقصى والاستفراد به، فأضحى ما يحدث في ساحاته خبرا هامشيا مع تركيز الإعلام العربي والدولي على الإبادة في غزة، ولاحقا على الحرب مع لبنان وإيران، لذلك ازدادت التهديدات على الأقصى.

ومن ثم، سجل الاحتلال تقدما ملحوظا في إلغاء ما كان يسمى “الوضع الراهن”، وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول بدأ بفرض حقائق جديدة على الأرض بعد كبح جماح أي حراك شعبي وتحجيم رد فعل المقدسيين وفلسطينيي الداخل والضفة الغربية، من خلال عملية ترهيب ممنهجة.

نجح الاحتلال في تصفية أي حراك للوقوف بجانب غزة، وتلقائيا أي حراك لمنع الانتهاكات في الأقصى، ومع الحرب على إيران في يونيو/حزيران الماضي، دخلنا مرحلة جديدة من الإغلاق الكامل تحت ذريعة “الطوارئ الأمنية” ومنع التجمعات، وهذا طُبق على الأقصى وكنيسة القيامة، لكن سمح لليهود بأداء طقوسهم عند حائط البراق، وسُمح لهم لاحقا بالرقص والغناء خلال اقتحاماتهم للمسجد.

في هبّة باب الأسباط، كان التهديد موضعيا وتمت مواجهته بحراك شعبي موحد أجبر الاحتلال على التراجع، أما اليوم فالوضع أكثر خطورة وتعقيدا، إذ يترافق مع عدوان شامل على غزة، وتكثيف لمحاولات التهويد، وسط تراجع في الحضور الشعبي بسبب القبضة الأمنيّة المشددة، فالانشغال الكامل بحرب الإبادة على غزة والجبهات الأخرى، وما تبعها من دمار ونزوح وقتل وتجويع، جعل الأقصى في المرتبة الثانية من الاهتمام الشعبي، وجعل هناك تحوّلا واضحا في إستراتيجية الاحتلال، الذي يعتبر أن التحكم بقرار فتح الأقصى وإغلاقه إعلان سيادة له على المكان، وهذا يُمهد لمرحلة جديدة، وهي فرض حضور تهويدي دائم سيعمل الاحتلال على البناء على مكتسباته التي حققها على الأرض.

لذلك أرى أنه لم يعد إغلاق الأقصى “سابقة خطيرة”، بل “إجراء أمنيا مؤقتا”، وهذا أخطر ما في الأمر، فالاحتلال يختبر الآن مرحلة ما بعد الإغلاق، وهل يمكنه فرض واقع جديد من دون مقاومة تُعيده إلى الوراء كما حدث في 2017.

  • يواجه الأقصى اليوم انتهاكات جسمية لا تقل خطورة عن البوابات الإلكترونية، كيف يمكن للفلسطينيين مواجهتها؟

طبيعة الانتهاكات اليوم باتت أكثر عمقا وخطورة، لأنها تستهدف الهوية والرمزية والسيادة، لا مجرد بوابات تمكن إزالتها بصمود المقدسيين على الأبواب.

وفي التاريخ القريب أمثلة رائعة للصمود والمقاومة لردع الاحتلال، ففي رمضان 1442هـ (2021) كانت وقفة المقدسيين والداخل والضفة مشرفة، بل ودخول غزة بـ”سيف القدس” على الخط غيّر قواعد اللعبة، فاجتمع شتات الفلسطينيين على قلب رجل واحد من أجل قبلتهم الأولى وسطروا ضربة موجعة للمحتل.

تعلم الاحتلال من أخطائه في سيف القدس ونجح في لجم أي حراك مع طوفان الأقصى، واليوم استفرد بأهل غزة وهم يدفعون ثمنا باهظا من أجل الأقصى، لذا يجب أن توضع إستراتيجيات مواجهة شاملة في ظل الإبادة الجماعية ومن أجل حماية الأقصى من التهويد الممنهج.

وهذا يبدأ بإعادة تفعيل الرباط الشعبي وكسر هيمنة الاحتلال على مجريات الأمور، ورغم القمع المتوقع، فإن الرباط الميداني في الأقصى وعلى أبوابه يبقى أداة فعالة لردع المحتل عن تهويد المسجد ولمنع الاقتحامات.

سيكون ثمن ذلك باهظا، وربما يصعد الاحتلال في تعامله مع المقدسيين، لكن لا يقل عما يدفعه أهل غزة بدمائهم وأرواحهم. ودماء الغزيين -التي سالت من أجل المسرى- ليست أرخص من دماء بقية الفلسطينيين، بل المسلمين قاطبة. لذا، فالمواجهة لا مفر منها، وثبات المرابطين أمر مفصلي في المحافظة على المسجد لكي لا تضيع الدماء الطاهرة التي سالت هدرا.

دور المسلمين خارج بيت المقدس لا يقل أهمية عن دور المرابطين فيه، وما ضاعت القضية إلا عندما تركت لأهل فلسطين، فالأقصى ليس للفلسطينيين، بل لـ2 مليار مسلم، وكما يحشد الصهاينة المسيحيين واليهود لقضية بناء “الهيكل” المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى، يجب أن يكون هناك دور فعال لكل مسلم على وجه البسيطة، بل يجب أن توضع إستراتيجيات عملية للدفاع عنه.

ونقول اليوم إن التوعية بأهمية الأقصى ومركزيته في الصراع لم تعد كافية، بل وضع خطة واضحة للتحرير أضحى واجبا، فبعد قرن من الزمن وبيت المقدس يئن تحت حراب الاحتلال البريطاني ثم الصهيوني، يجب أن تكون هناك نقلة نوعية تتماشى مع تضحيات أهل غزة وبيت المقدس. فالمواجهة اليوم ليست فقط على بوابات الأقصى، بل على معناه وهويته ومكانته ومستقبله، وبالتالي فالمطلوب مقاومة ذكية، متعددة الأدوات، تتجاوز ردود الفعل اللحظية إلى إستراتيجية تقود للتغيير والتحرير.

دور المسلمين خارج بيت المقدس لا يقل أهمية عن دور المرابطين فيه، وما ضاعت القضية إلا عندما تركت لأهل فلسطين، فالأقصى ليس للفلسطينيين، بل لـ2 مليار مسلم،

  • ما أبرز الدروس المستفادة من هبّة باب الأسباط، التي يمكن استلهامها لحماية الأقصى اليوم؟

في ضوء التحديات المتصاعدة التي يواجهها المسجد، تبرز هبّة باب الأسباط بوصفها نموذجا غنيا بالدروس التي يمكن استلهامها في معركة الصمود والتحرير.

الدرس الأول: قوة الإرادة الشعبية لدى المقدسيين، فقد أثبتت الهبّة أن الشارع المقدسي قادر على فرض إرادته، حتى في غياب دعم رسمي أو فصائلي، وأن الاعتصام الشعبي عند باب الأسباط، ورفض الدخول عبر البوابات الإلكترونية، شكّل ردعا ميدانيا فعالا أجبر الاحتلال على التراجع.

الدرس الثاني: يتمركز حول وضوح الهدف وواقعيته، فلم تكن المطالب فضفاضة، بل محددة وقابلة للتحقيق، وتمحورت حول إزالة البوابات الإلكترونية وإعادة فتح باب حطة، وساعد وضوح الهدف على توحيد الصفوف والعمل معا لتحقيقه، وإن كان في البداية يبدو مستحيلا مع احتلال متغطرس.

الدرس الثالث: إحياء شعيرة الرباط كفعل مقاوم، إذ تحوّل الرباط من مجرد عبادة إلى أداة مقاومة، وصارت الصلاة عند الأبواب فعلا سياسيا مقاوما بامتياز.

الدرس الرابع: تشكيل قيادة غير رسمية من الميدان، وضمت حينها الشباب والنساء والشيوخ والإعلاميين والمرابطين، وانخرطت معهم المرجعيات الوطنية والدينية، وهذا النموذج يؤكد أن القيادة الميدانية قادرة على تحريك الشارع وتوجيهه بفعالية.

الدرس الخامس: الأهم كان إمكانية الانتصار على هذا المحتل المعتد بقوته، فقد أثبتت الهبّة أن الاحتلال ليس عصيّا على التراجع، وأن الانتصار عليه ممكن، وهذا الدرس مهم في مواجهة الشعور بالإحباط والعجز في ظل الانتهاكات المتكررة.

هبّة باب الأسباط لم تكن مجرد ردة فعل عشوائية، بل نموذجا ملهما للمقاومة، جمع بين الوعي الشعبي والرباط الميداني والضغط الإعلامي، وفي ظل التهويد المتسارع اليوم، يمكن استلهام هذه الدروس لبناء مقاومة مستدامة متعددة الأدوات، تتجاوز اللحظة وتتنقل من رد الفعل إلى صناعته في مشروع التحرير.

  • في ظل الظروف العصيبة القائمة والخرق المتكرر لاتفاق الوضع القائم، هل ترى إمكانية محاولة تركيب البوابات من جديد؟

نعم، ليس فقط أن إمكانية إعادة تركيب البوابات الإلكترونية واردة، بل إن الاحتلال بدأ فعليا بخطوات تنفيذية، مستغلا الظروف الإقليمية والانشغال الدولي، بإلغاء الوضع الراهن.

فمنذ صفقة القرن، وهو يقوم بخطوات تدريجية ليس فقط لتغيير الوضع الراهن، بل لإلغائه بشكل كامل دون إعلان رسمي، من خلال انطلاقه بإعادة تعريفه، من “إدارة إسلامية خالصة” إلى “إشراف أمني إسرائيلي”. وكذلك من خلال فرض وقائع ميدانية على الأرض، ومنها تقليص صلاحيات الأوقاف تدريجيا. والذي يصبو إليه الاحتلال في الأمد القصير هو فرض “الوضع الجديد”، بحيث يصبح دخول المسلمين مشروطا، ويكون اليهود أصحاب “حق عبادة” دائمة في المسجد، كما رأينا بعد الإغلاق الأخير.

نحن أمام مرحلة أخطر من تركيب بوابات إلكترونية، ويمكن تسميتها بـ”ما بعد الوضع الراهن”، حيث تُدار السيادة على الأقصى عبر التحكم الأمني.

5- مجموعة من المعتصمين أمام باب المجلس يرفضون دخول الأقصى خلال هبة البوابات الإلكترونية(الجزيرة نت)
مجموعة من المعتصمين أمام “باب المجلس” يرفضون دخول الأقصى خلال هبة البوابات الإلكترونية (الجزيرة)
  • أُغلقت أبواب الأقصى مرارا خلال الفترة الماضية، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تحت ذرائع عدة، لكن ذلك مرّ مرور الكرام، ما السبب برأيك؟

هذا الأمر يكشف عن تحول خطير في الوعي الجمعي والتوازنات السياسية، لأن إغلاق أبواب الأقصى لم يعد يُعامل على أنه “سابقة خطيرة” كما في 2017، بل بات يُمرَّر كـ”إجراء أمني مؤقت”، وهذا أمر خطير جدا.

ومن أسبابه الانشغال الإقليمي والدولي بالإبادة على غزة وبتآكل الحضور الشعبي في القدس، فالمرابطون والمرابطات، الذين كانوا خط الدفاع الأول، تم إقصاؤهم بشكل كبير وتعرضوا لحملات إبعاد واعتقال ممنهجة.

هذا بالإضافة إلى أن الخطاب الديني لم يُفعّل كما في هبّة باب الأسباط، مما أضعف التعبئة الروحية، وأضف إلى ذلك ضعف الرد الرسمي من الدول المسلمة، التي اكتفت ببيانات شجب عامة.

ومن ثم، ما مرّ “مرور الكرام” لم يكن بسبب ضعف الحدث، بل لتآكل أدوات الرد والردع، والتحوّلات في الإدراك الجمعي، لذا فإن الاحتلال لا يختبر فقط قدرتنا على الرد والتصدي له، بل على التذكّر: هل ما زال الأقصى أولوية في وجداننا كما كان؟

  • في شهر يوليو/تموز الجاري الذي تمر به الذكرى الثامنة لهبّة باب الأسباط، أعلنت إحدى منظمات الهيكل عن برنامج يتضمن اقتحام 12 حاخاما بالإضافة لرؤساء معاهد دينية ساحات الأقصى على مدار الشهر، كيف تقرأ تزامن هذا الانتهاك الخطير مع الذكرى الثامنة؟ ماذا أرادوا القول بذلك؟

تحليل هذا التزامن يكشف عن رسالة رمزية مزدوجة تسعى جماعات الهيكل عبرها إلى إعادة كتابة الذاكرة وفرض سردية جديدة على حساب الذاكرة المقدسية، في محاولة لـ”إلغاء النصر الرمزي” لهبّة باب الأسباط، الذي كان انتصارا شعبيا نادرا أجبر الاحتلال على التراجع وإزالة البوابات.

كما أن تزامن الاقتحام مع الذكرى الثامنة يُفهم على أنه إحلال رمزية “الهيكل” مكان رمزية “الرباط”، إذ إن اقتحام 12 حاخاما بارزا، مع رؤساء المعاهد الدينية للهيكل، ليس مجرد اقتحام، بل هو طقس تأسيسي لإحلال رمزية “الهيكل” محل رمزية الأقصى، وهو كذلك كسر للفتوى الحاخامية الرئيسية التي تحرم اقتحام الأقصى، وهو ما يعني تجاوز المرجعيات التقليدية لمصلحة مشروع إحلالي متطرف.

وأرى في هذا أيضا رسالة سياسية مفادها أنهم هم “أصحاب السيادة” الحقيقة، واختيارهم لهذا الشهر بالذات، شهر ذكرى الهبّة، هو إعلان سيادة رمزية، خاصة أن الاقتحامات تتم بتعليمات مباشرة من بن غفير، وتحت حماية شرطة الاحتلال، مما يعني أن الدولة نفسها تتبنّى هذا التحول.

كما أن هذا كله جس نبض للشارع المقدسي والفلسطيني والإسلامي، فهو اختبار للوعي الجمعي يختبر فيه الاحتلال إذا ما كانت الذاكرة الشعبية ما زالت حيّة، وهل سيُقابل هذا الاقتحام بردّ رمزي أم ميداني أم شجب واستنكار ورقي؟ وإن مرّ هذا الشهر دون ردّ حقيقي، فسيُعتبر ذلك إعلان وفاة رمزية لهبّة باب الأسباط، ونهاية لمكتسباتها، وسيدفع المحتل للتمادي أكثر.

إذا نجحوا في أن يكون يوليو/تموز هو شهر التأسيس الرمزي، فسيكون أغسطس/آب شهر التأسيس الميداني مع إحيائهم لذكرى “خراب الهيكل”.

شاركها.
Exit mobile version