في أعماق المحيطات، حيث يسود الظلام والصمت، يتجول كائن غريب أثار فضول العلماء لقرابة قرن ونصف قرن، ليس فقط بسبب شكله الغريب، لكن أيضا لغرابة سلوكه والوظيفة التي يؤديها.

ويظن من يرى هذا الكائن للوهلة الأولى أنه أمام جثة دجاجة بلا رأس ألقيت في البحر، لكن الحقيقة أنه “خيار بحر” ينتمي إلى فصيلة شوكيات الجلد، أقرباء قنافذ البحر ونجمات البحر.

ويتمتع هذا الكائن بقدرات بيولوجية فريدة وأدوار بيئية حاسمة، واسمه العلمي “إينيباستيس إكسيميا”، غير أن شكله الغريب منحه اللقب الشائع: “وحش الدجاجة المقطوعة الرأس”.

واكتشف هذا الكائن لأول مرة في سبعينيات القرن التاسع عشر بواسطة الرحلة الاستكشافية للسفينة البحثية الملكية البريطانية “تشالنجر” (1872-1876)، لكن هشاشته، إذ يتكون جسده بنسبة كبيرة من الماء، حالت دون دراسة تفصيلية له عقودا.

ولم يُشاهد “إينيباستيس إكسيميا” حيا بوضوح إلا في القرن الحادي والعشرين بفضل الروبوتات الغاطسة المزودة بكاميرات، التي كشفت عن ألوانه القرمزية الشفافة وزعانفه التي تحاكي أجنحة الطيور في حركتها، كما تكشف الصور والفيديوهات بقاعدة “جامستيك” اليابانية المتخصصة بتوثيق مشاهدات الكائنات البحرية، والتي أسستها الوكالة اليابانية لعلوم وتكنولوجيا الأرض والبحار.

مزارع قاع البحر

وبينما تميل معظم أنواع خيار البحر إلى الثبات على القاع، فإن “إينيباستيس إكسيميا” يتميز بنشاطه الملحوظ، إذ يستخدم أرجلا أنبوبية وأذرع تغذية محيطة بفمه لجرف الرواسب، باحثا عن غذائه المفضل، وهو خليط يسمى “ثلوج البحر”، يتكون من بقايا العوالق الميتة وفضلاتها المترابطة بمادة لزجة ميكروبية.

ويقول كريس ماه، عالم البحرية الأميركي المتخصص في دراسة شوكيات الجلد في مقال نشره بموقع البوابة الرسمية لمكتب استكشاف المحيطات والبحار، التابع للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي بأميركا، إن “هذه العملية أشبه بحرث الأرض على اليابسة، إذ يقوم بخلط الرواسب وتهويتها، مما يحافظ على صحة النظام البيئي البحري”.

وبالرغم من أن هذا الكائن يتحرك على القاع، لكنه قادر على السباحة برفع جسده رأسيا وتحريك زعانف جانبية، وبفضل طفو جسده المتعادل، يمكنه التحليق في عمود الماء دون استهلاك طاقة كبيرة، وهي إستراتيجية مهمة في بيئة نادرة الغذاء.

ويقول بروس روبنسون، عالم الأحياء البحرية الأميركي المتخصص في الحيوانات الهلامية واللافقاريات البحرية، في دراسة نشرها عن هذا الكائن عام 1992 في دورية “جورنال أوف ذي ميرين بایولوجيكال أسوسييشن أوف ذي يونايتد كينغدوم” إن “من طرائفه أنه يخفف وزنه قبل السباحة بالتخلص من بعض الرواسب التي هضمها، في مشهد يشبه منطادا يتخلص من أكياس الرمل ليعلو في السماء”.

يعيش هذا الكائن  المذهل في جميع محيطات العالم (يعيش هذا الكائن  المذهل في جميع محيطات العالم)

إضاءة دفاعية مذهلة

وفي ظلام الأعماق، يمتلك “إينيباستيس إكسيميا” ذو اللون الأرجواني -الأحمر الغامق، سلاح “الإضاءة الحيوية”، وهو هام للغاية في مواجهة المفترسات، وقد وثقت هذه الآلية الدفاعية نفس الدراسة لعالم الأحياء البحرية الأميركي بروس روبنسون.

وكشف روبنسون عن أن التلامس الميكانيكي بهذا الكائن يؤدي إلى تحفيز إنتاج الضوء عبر جلده، والذي قد يتساقط في شكل سحابة متوهجة تربك المفترسات وتكشف موقع المهاجم لمفترسات أكبر، بينما يفر الكائن بعيدا.

والأمر الأكثر دهشة، كما كشفت دراسة نشرت عام 2023 بدورية “مارين بايودايفيرسيتي”، هو قدرة هذا الكائن على تجديد جلده بسرعة فائقة، دون أن يفقد سلاح “الإضاءة الحيوية”، فحتى بعد إصابته أو فقدان جزء من جلده، يبقى قادرا على إنتاج الضوء، ما يمنحه وسيلة دفاعية فعالة للبقاء في أعماق المحيط المظلمة.

38 ألف مشاهدة

ويعيش هذا الكائن المذهل في جميع محيطات العالم، بما فيها المياه الباردة حول القارة القطبية الجنوبية، على أعماق تتراوح بين 500 متر 6 آلاف متر، كما كشف تقرير للإدارة الأسترالية للقطب الجنوبي، وهي الهيئة الحكومية المسؤولة عن أبحاث أستراليا وإدارة محطاتها في المنطقة القطبية الجنوبية.

والمشكلة الأساسية التي تحد من إجراء تجارب مخبرية موسعة عليه هي هشاشته الشديدة، والتي تجعل من الصعب جمع عيّنات سليمة منه، غير أن قاعدة البيانات اليابانية “جامستيك”، وثقت أكثر من 38 ألف مشاهدة له في مواقع متعددة، ما يوفر ثروة من الصور والفيديوهات التي يعتمد عليها الباحثون لتعويض صعوبة الحصول على عيّنات حية.

شاركها.
Exit mobile version