في تصعيد جديد للحرب التجارية، عجّل الرئيس الأميركي دونالد ترمب بعد عودته إلى البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني)، بتنفيذ وعوده الانتخابية المتعلقة بالتجارة والهجرة، متخذاً إجراءات حازمة ضد الصين والمكسيك وكندا.
وعدَّ أن هذه الدول تستفيد بشكل غير عادل من التجارة مع الولايات المتحدة، وبالتالي كان من الضروري فرض رسوم جمركية جديدة لحماية الصناعات الأميركية من المنافسة الأجنبية غير العادلة وتقليص العجز التجاري، بالإضافة إلى ممارسة ضغط على الصين وكندا والمكسيك في المفاوضات التجارية.
كما يرى ترمب في هذه الرسوم أداة فعالة لمكافحة أزمة «الفنتانيل»، العقار الأفيوني الذي يتسبب في آلاف الوفيات بسبب الجرعات الزائدة في الولايات المتحدة، حيث يتهم الصين بتوفير المواد الكيميائية المستخدمة في تصنيعه، والمكسيك بتهريبه عبر الحدود.
بالإضافة إلى ذلك، شدد ترمب موقفه تجاه المكسيك، عادَّاً أنها لم تتخذ الإجراءات الكافية لوقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين وتهريب المخدرات عبر الحدود؛ ما دفعه إلى التهديد بفرض رسوم إضافية والضغط على الحكومة المكسيكية لاتخاذ خطوات أكثر صرامة.
كما أثار الجدل بإعلانه رغبته في ضم كندا إلى الولايات المتحدة بصفتها ولاية رقم 51، وهو ما قوبل برفض قاطع من رئيس الوزراء الكندي.
وفي حين عدَّ مؤيدوه أن فرض هذه الرسوم خطوة ضرورية لحماية الاقتصاد والأمن القومي، حذَّر منتقدوه من تداعياتها السلبية على التجارة الحرة والعلاقات الدبلوماسية، عادّين إياها مخاطرة غير محسوبة قد تضر بالاقتصاد الأميركي والعالمي.
وبالتفاصيل، فرض ترمب رسوماً جمركية على السلع الصينية؛ ما دفع بكين إلى الرد بإجراءات انتقامية قاسية. ولم تقتصر تهديداته على الصين فقط، بل أعلن فرض رسوم على واردات كندا والمكسيك، قبل أن يقرر تأجيلها لمدة 30 يوماً بعد اتفاق البلدين على تشديد الرقابة الحدودية.
ومع بدء تنفيذ الرسوم الجديدة، تصاعدت التوترات في الأسواق العالمية، خصوصاً أن الولايات المتحدة، ثاني أكبر تاجر سلع بعد الصين، تؤدي دوراً محورياً في التجارة الدولية.
وبين يناير ونوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بلغ إجمالي تجارتها 4.88 تريليون دولار، منها 2.98 تريليون دولار صادرات و1.90 تريليون دولار واردات. وتشكل العلاقات مع المكسيك وكندا والصين أكثر من 40 في المائة من هذا الحجم، متجاوزة تريليوني دولار.
التأثيرات المحتملة على الاقتصاد الصيني
دخلت الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة، بنسبة 10 في المائة على جميع السلع المستوردة من الصين، حيز التنفيذ في 4 فبراير (شباط).
وردّت الصين بفرض تعريفات انتقامية بنسبة 15 في المائة على واردات الفحم والغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، بالإضافة إلى رسوم بنسبة 10 في المائة على النفط الخام والسيارات، في محاولة لاكتساب بعض النفوذ الذي يمكن أن يُستخدم أوراق مساومة في المفاوضات المستقبلية.
ووصف المتحدث باسم السفارة الصينية في واشنطن هذه الخطوة بأنها «إجراءات مضادة ضرورية» و«مبررة تماماً ومعقولة»، بينما عدّت وزارة التجارة الصينية تعريفات ترمب «خبيثة بطبيعتها».
تُعدُّ الصين عاصمة التصنيع في العالم؛ إذ تشكل 13.5 في المائة من إجمالي واردات الولايات المتحدة. وتحتل المنتجات الإلكترونية والمعلوماتية الصدارة، حيث تمثل 30 في المائة من جميع السلع الصينية التي تدخل السوق الأميركية، وفقاً لـ«أبوللو غلوبال مانجمنت».
ومع أن تقديرات «كابيتال إيكونوميكس» تشير إلى أن الرسوم الصينية ستشمل 20 مليار دولار من الواردات الأميركية، إلا أن هذا الرقم يبدو ضئيلاً مقارنةً بـ450 مليار دولار من السلع الصينية التي أصبحت خاضعة لرسوم ترمب.
وعلى الرغم من جهود الصين خلال العقدين الماضيين لتقليل اعتمادها على التجارة الخارجية، حيث تراجعت مساهمة الواردات والصادرات في الناتج المحلي الإجمالي من أكثر من 60 في المائة إلى نحو 37 في المائة حالياً، فإن بعض القطاعات لا تزال تعتمد على الصادرات؛ ما يجعلها عرضة لتداعيات النزاع التجاري. وقد يؤدي تراجع التجارة مع الولايات المتحدة إلى تباطؤ الاقتصاد الصيني، خصوصاً في ظل تحديات إضافية مثل ضعف سوق العقارات.
كيف ستتضرر الصين من الرسوم الأميركية؟
ستؤدي الرسوم الجديدة إلى ارتفاع أسعار السلع الصينية في الولايات المتحدة؛ ما قد يقلل الطلب عليها، لا سيما في القطاعات الأكثر تضرراً مثل الإلكترونيات، وقطع غيار السيارات، والأثاث، وأشباه الموصلات، التي تشكّل جزءاً رئيسياً من الصادرات الصينية.
ومع تصاعد تكلفة المنتجات الصينية، قد تلجأ الشركات الأميركية إلى موردين بديلين مثل فيتنام، والمكسيك، والهند؛ ما يهدّد حصة الصين في السوق الأميركية على المدى الطويل.
وقد انعكس هذا الاتجاه بالفعل في تراجع حجم التجارة بين الولايات المتحدة والصين خلال السنوات الأخيرة، حيث بلغت قيمة السلع الصينية المستوردة إلى الولايات المتحدة 426.9 مليار دولار في عام 2023، وانخفضت إلى 401.8 مليار دولار حتى نوفمبر 2024، في مؤشر على إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية.
وفي محاولة للتخفيف من أثر التعريفات الجمركية، قد تلجأ الصين إلى خفض قيمة اليوان للحفاظ على تنافسية صادراتها. إلا أن هذا الإجراء قد يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الواردات؛ ما يزيد من الضغوط التضخمية داخل الصين ويضعف القوة الشرائية للمستهلكين المحليين.
وفي المقابل، تسعى بكين إلى تعزيز علاقاتها التجارية مع شركاء بدلاء لتعويض تراجع تجارتها مع الولايات المتحدة. فقد كثّفت تعاملاتها مع الاتحاد الأوروبي، والمكسيك، وفيتنام؛ ما ساعدها على زيادة حصتها في التجارة العالمية بنحو 4 في المائة منذ عام 2016، رغم انخفاض حصتها في السوق الأميركية. ومع ذلك، لا تزال هذه الأسواق غير كافية لتعويض الخسائر التي تكبدتها الصين نتيجة تراجع صادراتها إلى الولايات المتحدة، خصوصاً في القطاعات التي كانت تعتمد تاريخياً على السوق الأميركية.
المكسيك في قلب التجارة الأميركية
شهدت العلاقات التجارية بين المكسيك والولايات المتحدة تحولاً كبيراً منذ آخر أزمة خلال الولاية الأولى لترمب، حيث أصبحت المكسيك الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، متجاوزة الصين. وتُوجّه أكثر من 80 في المائة من صادراتها بما في ذلك السيارات، الآلات، الفواكه، والمعدات الطبية إلى السوق الأميركية، ما يمثل 15 في المائة من إجمالي الواردات الأميركية. وتستحوذ الولايات الشمالية المكسيكية، مثل تشيهواهوا وكواهويلا ونويفو ليون وباخا كاليفورنيا، على نحو نصف هذه الصادرات، بقيمة تتجاوز 200 مليار دولار سنوياً.
وفي محاولة لتجنب التصعيد، وافقت رئيسة المكسيك، كلوديا شينباوم، على نشر 10 آلاف عنصر من الحرس الوطني على الحدود مع الولايات المتحدة لمنع تهريب المخدرات، خصوصاً «الفنتانيل». وبحسب تقرير «بلومبرغ إيكونوميكس»، فإن فرض تعريفة جمركية أحادية الجانب بنسبة 25 في المائة على السلع المكسيكية قد يؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للمكسيك بنحو 16 في المائة، مع تحمل قطاع السيارات العبء الأكبر من هذا التراجع.
كيف ستتضرر المكسيك؟
تراجع قطاع الزراعة وزيادة تكلفة المنتجات: تعتمد السوق الأميركية بشكل كبير على المنتجات الزراعية المكسيكية، حيث تمثل المكسيك 63 في المائة من واردات الولايات المتحدة من الخضراوات، و47 في المائة من الفاكهة والمكسرات. ومع تصاعد الحرب التجارية، قد يواجه المزارعون المكسيكيون خسائر فادحة؛ ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار المنتجات الأساسية في السوق الأميركية، مثل الأفوكادو. وقد تردّ المكسيك بفرض رسوم انتقامية على المنتجات الزراعية الأميركية، كما فعلت في 2018، عندما استهدفت بضائع مثل التفاح والجبن والتوت البري، مُركّزة على ولايات دعمت ترمب سياسياً.
تهديد العمود الفقري للاقتصاد المكسيكي: تعدّ صناعة السيارات قطاعاً حيوياً، حيث توظف أكثر من مليون شخص وتشكل نحو 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. والمكسيك هي المورد الرئيسي للسيارات وقطع الغيار إلى الولايات المتحدة، حيث تصدر 80 في المائة من إنتاجها، بمعدل يصل إلى 2.5 مليون مركبة سنوياً. وإذا فُرضت تعريفات جمركية جديدة، سيواجه القطاع صعوبات كبرى، تؤدي إلى تباطؤ الإنتاج وتسريح العمال؛ ما قد يضر بالنمو الاقتصادي.
قطاع الطاقة في مرمى الأزمة
تذهب 60 في المائة من صادرات المكسيك من النفط الخام إلى الولايات المتحدة؛ ما يجعل هذا القطاع عرضة لضغوط شديدة في حال فرض تعريفات جمركية أميركية. كما أن المكسيك تعتمد على الغاز الطبيعي الأميركي لتغطية 70 في المائة من استهلاكها المحلي؛ ما يقلل قدرتها على فرض رسوم انتقامية على الطاقة الأميركية دون الإضرار باقتصادها.
تداعيات كارثية على الاقتصاد الكندي
ورغم تعليق الرسوم الأميركية على كندا، فإن المخاوف لا تزال قائمة بشأن تداعيات هذه التعريفات على الاقتصاد الكندي، الذي يعتمد بشكل أساسي على تصدير النفط الخام إلى الولايات المتحدة. ففي عام 2023، بلغت صادرات كندا من النفط الخام 143 مليار دولار، وذهب 90 في المائة منها إلى السوق الأميركية. ونظراً لاعتماد هذا القطاع على بنية تحتية ثابتة لخطوط الأنابيب؛ يصعب إيجاد أسواق بديلة بسرعة. كما تعتمد بعض المصافي الأميركية بشكل كبير على النفط الكندي؛ ما يجعل استبداله خياراً مكلفاً، ويخلق وضعاً احتكارياً مزدوجاً، حيث تصبح التعريفات الجمركية على النفط ضربة اقتصادية للطرفين، لكن التأثير الأكبر سيكون على كندا؛ نظراً لاعتمادها شبه الكامل على السوق الأميركية.
بالإضافة إلى قطاع الطاقة، يمتد الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين البلدين إلى التصنيع والزراعة، حيث تتكامل سلاسل التوريد عبر الحدود؛ ما يجعل الكثير من السلع تعبرها مرات عدة خلال مراحل الإنتاج المختلفة. وأي فرض للتعريفات الجمركية في أي مرحلة من هذه العمليات سيزيد من تكاليف الإنتاج؛ ما يضر بقدرة الصادرات الكندية على المنافسة عالمياً.
خسائر ضخمة للجميع
من المتوقع أن تؤدي التعريفات الجمركية الأميركية بنسبة 25 في المائة على الواردات من كندا والمكسيك إلى تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي الأميركي بنحو 0.25 نقطة مئوية. ومع تنفيذ إجراءات انتقامية من البلدين، قد يتعمق التأثير لينخفض النمو بأكثر من 0.3 نقطة مئوية.
وتشير التقديرات إلى أن هذه التراجعات ستؤدي إلى خسائر اقتصادية تُقدَّر بنحو 45 مليار دولار على المدى المتوسط، بينما قد ترتفع إلى 75 مليار دولار إذا ردّت كندا والمكسيك بالمثل.
أما على الجانبين الكندي والمكسيكي، فسيكون التأثير أشد وطأة؛ إذ يُتوقع أن يخسر اقتصاداهما نحو 1.15 نقطة مئوية من النمو جراء الرسوم الأميركية. وفي حال تطبيق تعريفات انتقامية مماثلة، قد تتفاقم الخسائر إلى أكثر من 3 نقاط مئوية.
ويكمن القلق الأكبر في أن استمرار التصعيد التجاري قد يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، وربما إلى الركود، خصوصاً في ظل التحديات الراهنة مثل تباطؤ النمو في الصين وضعف الأسواق الأوروبية.