يحتم الصراع العالمي في الميدان التكنولوجي، ولا سيما بين الولايات المتحدة الأميركية والصين اللتين تخوضان صراع التفوق التقني، صراع بدا أشبه بحرب باردة، ثم ما لبث أن تحّول لمعركة واضحة المعالم.
ففي ظل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأولى، فرضت واشنطن قيودًا على شركتي الاتصالات “زي تي إي” و”هواوي”. حافظ خلفه جو بايدن على العديد من سياسات ترمب تجاه الصين وطرح سياسات جديدة، بما في ذلك بدء ضوابط تصدير واسعة النطاق في أواخر عام 2022 على أشباه الموصلات ومعدات أشباه الموصلات المتقدمة.
ويبدو أن ترمب في ولايته الثانية يمضي قدمًا باتجاه مماثل. ففي تصريحاته التي أعقبت مكالمته الأولى مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، أقرّ ترمب أنهما تطرقا إلى حل العديد من القضايا، وفي مقدمتها تحقيق التوازن التجاري ومصير تطبيق “تيك توك” داخل الولايات المتحدة.
ورغم سريان قانون يقضي بأن يبيع المالك الصيني “بايت دانس” التطبيق، وإلا سيتم حظره في الولايات المتحدة استنادًا إلى مخاوف تتعلق بالأمن القومي، استأنف “تيك توك” خدماته في الولايات المتحدة بعد تأكيدات ترمب بأن الشركة وشركاءها لن يواجهوا غرامات باهظة إذا استمر تشغيل التطبيق.
“ديب سيك” جرس إنذار
لكن الحرب التكنولوجية تتخذ شكلًا أكثر ضرواة في مجال الذكاء الاصطناعي. ففي تطور مفاجئ قلب سوق الذكاء الاصطناعي رأسًا على عقب، طوّرت شركة “ديب سيك” وهي شركة ناشئة مقرها الصين، نموذج لغة كبير مفتوح المصدر، مدعية أن الأمر استغرق شهرين وكلّف أقل من 6 ملايين دولار.
ففي 10 يناير/ كانون الثاني الماضي، أصدرت شركة “ديب سيك”، تطبيقها، وأطلقته على متجر تطبيقات أبل بالولايات المتحدة، لتقدّم تجربة تعتمد على نموذجها المتطور “ديب سيك V3″ كبديل مجاني للتطبيقات المماثلة المدفوعة مثل”تشات جي بي تي” الذي طوّرته شركة “أوبن آي أي” الأميركية.
وبعد أيام قليلة أصبح التطبيق المجاني الأكثر تحميلًا في سوق التطبيقات التابع لشركة “أبل” في الولايات المتحدة، ليحل مكان “تشات جي بي تي”. كما تسبّب بخسائر باهظة لسهم شركة “إنفيديا”، الأكبر بالعالم بهذا القطاع التكنولوجي بالولايات المتحدة، بحوالي 560 مليار دولار من قيمتها السوقية.
وقد اعتبر ترمب، أن نموذج “ديب سيك” هو بمثابة “جرس إنذار” للشركات الأميركية، داعيًا الصناع إلى “التركيز الحاد على المنافسة للفوز”.
استراتيجية الصين لتطوير الذكاء الصناعي
ما تحققه الصين ليس وليد صدفة بل نتاج استراتيجية واضحة. فقد تضمنت خطة تطوير الجيل القادم للذكاء الاصطناعي التي وضعتها في عام 2017 تفاصيل استراتيجية من ثلاث مراحل لتطوير الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في الدولة، بحسب ورقة صادرة عن المنتدى الاقتصادي العالمي.
أصبح “ديب سيك” التطبيق المجاني الأكثر تحميلًا في سوق التطبيقات التابع لشركة “أبل” في الولايات المتحدة- غيتي
الحكومة الصينية أصدرت أيضًا مبادئ توجيهية مثل “تسريع ابتكار السيناريوهات لتعزيز التطبيقات عالية المستوى للذكاء الاصطناعي من أجل تنمية اقتصادية عالية الجودة” في عام 2022 والتي تؤكد على تكامل تقنيات الذكاء الاصطناعي عبر القطاعات لتسهيل نمو الاقتصاد المستدام، بحسب ورقة بحثية لمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
كما تم تقديم “المبادئ التوجيهية لبناء نظام توحيد شامل لصناعة الذكاء الاصطناعي الوطنية” في عام 2024. وتهدف هذه المبادئ التوجيهية إلى تعزيز نظام توحيد الذكاء الاصطناعي من خلال إنشاء أكثر من 50 معيارًا وطنيًا وصناعيًا جديدًا، بحسب المنتدى الاقتصادي العالمي.
صناعة الذكاء الصناعي في الصين
ووفقًا للمنتدى، تضع الصين نفسها كقائد عالمي مجال الذكاء الاصطناعي. وتتجاوز صناعة الذكاء الاصطناعي في الصين 70 مليار دولار، وقد قامت بتنمية أكثر من 4300 شركة ساهمت في سلسلة مستمرة من الإنجازات.
ومن جانبها، تنظر الشركات إلى الذكاء الاصطناعي على أنه فرصة كبيرة لنمو الإيرادات. فبين عامي 2018 و2021، تضاعفت حصة إيرادات الشركات التي تأثرت بالذكاء الاصطناعي في الصين. وكان من المتوقع أن تزيد هذه الحصة إلى ثلاثة أضعاف أرقام عام 2018 تقريبا في 2024. كما ترى 90% من الشركات الصينية أن الذكاء الاصطناعي التوليدي ضروري لنموها.
ما تحققه الصين ليس وليد صدفة بل نتاج استراتيجية واضحة، فقد تضمنت خطة تطوير الجيل القادم للذكاء الاصطناعي التي وضعتها في عام 2017 تفاصيل استراتيجية من ثلاث مراحل، بحسب ورقة صادرة عن المنتدى الاقتصادي العالمي
وتهدف الصين لكي تصبح مركز الابتكار الرئيسي للتكنولوجيا من خلال توسيع صناعة الذكاء الاصطناعي الأساسية إلى أكثر من 140 مليار دولار بحلول عام 2030، وتعزيز قيمة القطاعات ذات الصلة إلى 1.4 تريليون دولار خلال الفترة نفسها.
ويتجسد واقع صناعة الذكاء الصناعي في الصين بالآتي:
- اعتبارًا من يونيو/ حزيران 2024 تستحوذ الصين على 26% من إجمالي الحوسبة في العالم؛
- يبلع معدل النمو السنوي المركب للبيانان في الصين 26%؛
- سجل 188 نموذج أساسي (نماذج ذكاء اصطناعي ضخمة مُدرَّبة على كميات هائلة من البيانات) على المستوى الوطني بحلول أغسطس/ آب 2024؛
- بلغت الزيادة السنوية في العدد الإجمالي لمراكز البيانات الخضراء الوطنية في الصين في عام 2023 ما نسبته 22%؛
- يتواجد 47% من أفضل باحثي الذكاء الاصطناعي في العالم في الصين.
وقد عكس إعلان شانغهاي، الذي تم تبنيه خلال المؤتمر العالمي للذكاء الاصطناعي الذي عقد في شانغهاي في يوليو/ تموز 2024، التزام الصين بتعزيز الحوكمة العالمية للذكاء الاصطناعي، وتعزيز التعاون وتعزيز التنمية الشاملة.
التزمت الصين في إعلان شنغهاي بتعزيز الحوكمة العالمية للذكاء الاصطناعي- غيتي
وخلال عام 2025، تخطط الصين لإحراز تطورات رئيسية في النظريات التأسيسية للذكاء الاصطناعي. وتسعى لكي يصبح الذكاء الاصطناعي محركًا رئيسيًا للتحول الصناعي والاقتصادي في البلاد. كذلك تعمل لتحقيق تقدم قوي في دفع تنمية المجتمع الذكي.
وعلى مدى العقد الماضي، أنشأت البلاد أساسًا قويًا لدعم اقتصاد الذكاء الاصطناعي وتستكشف بشكل استراتيجي الذكاء الاصطناعي من أجل التحول في بعض القطاعات بسرعة وعلى نطاق واسع، بحسب “مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار” الأميركية.
ما هي العوامل التي تدفع التكنولوجيا الصينية إلى الأمام؟
-
الدعم الحكومي: تلعب الحكومة دورًا في تسهيل تطوير الذكاء الاصطناعي، إظهار التخطيط الاستراتيجي القوي وقدرات التنفيذ. ومن السمات المميزة للنهج الذي تتبناه الصين العلاقة التكاملية بين الحكومة وقطاع التكنولوجيا الخاضع لرقابة صارمة. يوجد في البلاد العديد من اللوائح التنظيمية الحالية التي تؤثر على تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي في الصين.
- مُمكنات النظام: أنشأت الصين نظامًا بيئيًا حيويًا للذكاء الاصطناعي يُعزز الابتكار التعاوني مما يُتيح اعتمادًا أوسع وأكثر شمولًا لتقنيات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع. ويضم ذلك توفر البنية التحتية والموارد البشرية والطاقة.
- البنية التحتية المتقدمة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الصين، بما في ذلك شبكات الجيل الخامس الواسعة، ومراكز البيانات عالية السعة، ومرافق الحوسبة السحابية القوية، أساسًا متينًا لتقدم الذكاء الاصطناعي.
- التطبيق الصناعي: وتستثمر الصين بكثافة في التنمية الذكاء الاصطناعي، وتركّز على سيناريوهات الأعمال الرئيسية وحل المشاكل الخاصة بقطاعات الصناعة والمال والصحة والنقل.
وتشمل التكنولوجيات الأساسية التي تستثمر فيها الصين:
- التعلم الآلي؛
- نماذج تكنولوجيا الذكاء الصناعي الكبيرة؛
- معالجة اللغة الطبيعية؛
- اللغة الذكية؛
- رؤية الحاسوب؛
- تحديد الهوية البيلامترية؛
- الذكاء المعزز الهجين بين الإنسان والآلة؛
- الذكاء الجماعي؛
- الذكاء المجسد؛
- الذكاء المتعدد الوسائط.
تقدّم ولكن…
أظهرت الصين خلال السنوات المنصرمة المرونة والابتكار. كان متوقعًا أن تكبح القيود الأميركية التقدم التكنولوجي الصيني، لكنها ساعدت في دفعه إلى الأمام في بعض المجالات حيث شهدت الصين تحسينات في قطاعات متعددة ولا سيما البحث والتطوير، وناتج التصنيع، وزيادة المحتوى المحلي في الصادرات.
ورغم ذلك، لا تزال الشركات الصينية متخلفة كثيرًا عن المنافسة في صناعة أشباه الموصلات، بحسب موقع “فورين بوليسي” لكنها تعمل تدريجيًا على بناء نظام بيئي محلي وسلسلة توريد. إنهم يخزنون معدات الطباعة الحجرية الأجنبية ويحرزون تقدمًا تدريجيًا مع المعدات المحلية وصانعي البرمجيات. ويبدو أن الشركات المحلية تتبع تعليمات بكين لزيادة استخدام الرقائق المحلية. ويستكشف الباحثون الصينيون مسارات جديدة في المواد، وهندسة الرقائق، ومنهجيات الحوسبة التي من الممكن أن تسمح لمصنعي أشباه الموصلات الصينيين بالقفز على منافسيهم الأجانب بالطريقة نفسها التي تجاوز بها صانعو السيارات الكهربائية الصينيون الهيمنة الغربية في محركات الاحتراق الداخلي.
ومن شأن الرسوم الجمركية المرتفعة على السيارات الكهربائية الصينية أن تحمي شركات صناعة السيارات الأميركية من الواردات ذات الأسعار غير العادلة، كما أن الحظر المفروض على المركبات الصينية المتصلة والمستقلة من شأنه أن يقلل من مخاطر أمن البيانات للمستهلكين الأميركيين. لكن ذلك يؤدي إلى تباطؤ نمو قطاع السيارات الكهربائية الأميركية وارتفاع أسعارها ما يُترجم بانخفاض قدرة الشركات الأميركية على المنافسة على المستوى الدولي، بحسب “فورين بوليسي”.
تخطط الصين لإحراز تطورات رئيسية في النظريات التأسيسية للذكاء الاصطناعي خلال العام 2025، كما تسعى لكي يصبح الذكاء الاصطناعي محركًا رئيسيًا للتحول الصناعي والاقتصادي في البلاد
كذلك، لا تزال الولايات المتحدة تحتل الصدارة في سباق الكمبيوتر الكمي بفضل شركات القطاع الخاص مثل آي بي إم، ومايكروسوفت، و”غوغل” و”إنتل”. لكن الصين تهيمن على الاتصالات الكمومية، أي استخدام التكنولوجيا الكمومية القائمة على التشابك لإنشاء رسائل وشبكات مقاومة للاختراق، بما في ذلك تشغيل قمرين صناعيين كميين في الفضاء.
وتتمتع الولايات المتحدة أيضاً بميزة على الصين في المنافسة على صعيد الموارد البشرية. فمن بين أفضل 15 مؤسسة تنشر أبحاث التعلم العميق، هناك 13 جامعة أميركية أو مختبرات لشركات بينها جامعة صينية واحدة فقط وهي جامعة تسينغهوا صينية.
وتقوم الجامعات والشركات الأميركية بتوظيف أفضل الباحثين من جميع أنحاء العالم، لدرجة أن ثلثي أفضل علماء الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة قاموا بدراساتهم الجامعية في الخارج قبل مجيئهم إلى البلاد، بما في ذلك العديد منهم الذين جاءوا من الصين.
في الخلاصة…
رغم أن الولايات المتحدة تقود مجال الذكاء الاصطناعي، مع مزايا تكنولوجية معينة، لكن الصين تلحق بالركب بسرعة، ولدى بكين استراتيجية حكومية تكاد تضاهي استراتيجية واشنطن. فقد أظهرت الصين أنها تحوّل المعوقات إلى مجال للتطور والنمو وقد تستفيد عن غير قصد من قيود الهجرة الأميركية، مما قد يساعد الصين في الحفاظ على المزيد من المواهب. كذلك قد تساهم جهود واشنطن بمنع التكنولوجيا الأميركية عن الشركات الصينية في جعل الأخيرة تطوّر تكنولوجياتها الخاصة مدفوعة بالحاجة التي هي أم الاختراع. ولا يمكن إغفال أن التقدم التكنولوجي ستستثمره الصين في جميع الميادين ولاسيما تلك الاستخبراتية والعسكرية.