بين صفقتين: وفاء الأحرار واتفاق الدوحة، وحركتين: فتح وحماس، ولقبين: “أبو لهب” و”أبو النور”، كانت حياة الأسير نائل البرغوثي، الذي قضى أطول مدة اعتقال في تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية، ويعتبر أقدم السجناء في العالم وعميد الأسرى الفلسطينيين بامتياز.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي دخل عامه الـ45 معتقلًا داخل السجون الإسرائيلية، ما يُعتبر أطول مدة يقضيها معتقل في سجون الاحتلال والعالم أيضًا.
نائل البرغوثي بين زمنين وصورتين حيث قضى القليل من عمره خارج المعتقلات-وسائل تواصل
في صورتين له، تعود إحداهما إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي، والثانية إلى سنوات قليلة ماضية، يتبدّى الفرق بين ذلك الشاب الذي بدأ كفاحه منذ صباه ضد الاحتلال الإسرائيلي على ما كان يفعل كثير من مجايليه، وذلك الشاب- الكهل الذي صاره، بشعر أبيض وتجاعيد تملأ الوجه واليدين، لكن التماعة العينين ظلت على حالها في الصورتين، وكذا الرغبة في تحرير البلاد.
نائل البرغوثي والحرية الناقصة
قضى نائل البرغوثي ثلثي عمره في سجون الاحتلال، والثلاثاء الماضي قالت زوجته إيمان إنه اتصل بها وأبلغها أنه تقرّر الإفراج عنه وإبعاده إلى خارج فلسطين، وإنه ظل حتى الاثنين الماضي 17 فبراير/شباط الجاري رافضًا الإبعاد قبل أن يوافق أخيرًا، لكن دون أن يعلم وجهته النهائية.
وأعلنت قطر في 15 يناير/ كانون الثاني الماضي وقف إطلاق النار في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس، وبدأ سريان الاتفاق في 19 من الشهر نفسه، ببدء المرحلة الأولى من تبادل الأسرى بين الجانبين، المبرمجة على ثلاث مراحل، تستمر كل واحدة منها 42 يومًا.
وأفرجت إسرائيل عن 1135 فلسطينيًا، ومن المتوقع أن تفرج خلال أيام عن 602 أسير فلسطيني، ليبلغ إجمالي الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم ضمن المرحلة الأولى من الاتفاق 1737 أسيرًا، فيما البرغوثي من بين الدفعة الأخيرة للأسرى المفرج عنهم.
فمن هو نائل البرغوثي؟
بدأ البرغوثي نضاله ضد إسرائيل مبكرا وهو على مقاعد الدراسة الثانوية-وسائل تواصل
ولد البرغوثي عام 1957 في بلدة كوبر بمحافظة رام الله والبيرة، لعائلة من المناضلين ضد الاحتلال الإسرائيلي، ومن قبله الانتداب البريطاني على فلسطين منذ عشرينيات القرن الماضي حتى عام 1948، فقد كان والده من ضمن معتقلي ثورة الفلسطينيين الكبرى ضد الانتداب عام 1936، كما أن شقيق والدته كان من شهدائها.
وبالإضافة إلى عائلته الصغيرة فإن عائلته الأكبر “البرغوثي” لعبت دورًا كبيرًا في تاريخ الفلسطينيين المعاصر، ثقافيًا ونضاليًا، ومن أبرز رموزها السياسيين مروان البرغوثي القيادي في حركة فتح، وعبد الله البرغوثي الذي يقضي حكمًا يعتبر من أعظم الأحكام في التاريخ بالسجن المؤبد 67 مرة، إضافة إلى الشاعر المعروف مريد البرغوثي، وسواهم عشرات.
الخلية النضالية الأولى
تقع بلدة كوبر الصغيرة والوادعة ضمن محافظة رام الله والبيرة في الضفة الغربية، ولم يكن سكانها يتجاوزون الألف وبضع مئات قليلة من السكان عندما احتلتها إسرائيل مثل بقية بلدات ومدن الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967.
وتروي الأسيرة المحرّرة حنان البرغوثي، وهي شقيقة نائل، أن الأخير كان في العاشرة من عمره عندما انطلق نداء في البلدة يحذّر من دخول القوات الإسرائيلية إلى بلدتهم في ذلك العام، ويدعو السكان إلى رفع الرايات البيضاء لتجنبيها تدميرًا محتملًا، فما كان من نائل وشقيقه الأكبر عمر وابن عمه فخري، إلا أن صعدوا إلى سطح بيت العائلة آنذاك، وقاموا بجمع الحجارة لمقاومة جنود الاحتلال في حال دخلوا بلدتهم، وهم يكبّرون ويهتفون ضد الاحتلال.
نشأ البرغوثي في بلدة كوبر بمحافظة رام الله والبيرة-غيتي
بعد النكسة (هزيمة 1967) بعام واحد، وجد نائل نفسه في خضم مشاريع كبيرة لتحرير فلسطين، بدأت بخطوات صغيرة في حينه، ومنها أنه وشقيقه عمر وابن عمهما فخري شكّلوا ما يشبه الخلية النضالية، التي كانت تشارك في قطع الطرق التي كانت تمر بها الحافلات الإسرائيلية لنقل العمّال، وإغلاق القرى في المناسبات الوطنية، وكتابة الشعارات على الجدران وتنظيم المظاهرات والمشاركة فيها.
وفي مطلع سبعينيات القرن الماضي طوّرت خلية البرغوثي العفوية أدواتها فسعت لتصنيع متفجرات بدائية الصنع، وشهد عام 1977 تحوّلًا في مسيرة هذه الخلية بسفر عمر وفخري اللذين يكبران نائل إلى بيروت للدراسة، لكنهما بدلًا من ذلك انخرطا في تدريبات عسكرية ودورات تثقيف سياسي.
وبعد عودتهما إلى كوبر بدأ الثلاثة بالتخطيط لتنفيذ عمليات ضد جنود الاحتلال والمستوطنين، وبذريعة البحث عن عمل كانوا يقومون باستطلاع الأماكن وتحديد الأهداف داخل مناطق ال1948.
كان نائل أصغرهم، وفي العام نفسه (1977) بينما كان على مقاعد الدراسة الثانوية في بيرزيت، اُعتقل لفترة قصيرة بتهمة محاولة الانضمام لفصيل فلسطيني، وهو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
من فتح إلى حماس
وفي أبريل/ نيسان 1978 كان نائل يستعد لامتحانات الثانوية العامة عندما اُعتقل مجدّدًا برفقة شقيقه عمر وابن عمهما فخري البرغوثي، بتهمة قتل ضابط إسرائيلي شمال رام الله، وحرق مصنع زيوت وتفجير مقهى في القدس، وحكم عليهم جميعا بالسجن المؤبد، بعد اعتقال تعرّضوا خلاله لتعذيب شديد.
وفي السجن انضم نائل إلى حركة فتح حتى عام 1983، حيث انتمى لحركة فتح الانتفاضة التي انشقت بعد الغزو الإسرائيلي عن الحركة الأم، التي كان يتزعمها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ومع صعود حركة المقاومة الإسلامية حماس مطلع تسعينيات القرن الماضي، انضم شقيقه عمر للحركة وكذلك فعل نائل.
وخلال سجنه تعلّم البرغوثي الإنكليزية والعبرية، وعُرف بصلابته وثقافته الواسعة وحرصة على الحوار ورعاية الأسرى الجدد الذين كانت إسرائيل تعتقلهم.
رحلة “أبو جهل” إلى “أبو النور”
وكما انتقل من فتح إلى حماس، شهدت تلك المرحلة تغيّر كنية نائل البرغوثي التي عُرف بها على نطاق واسع في بلدته كوبر وبين رفاقه، وهي “أبو لهب”، كناية عن صلابته ونزعته القيادية، إلى “أبو النور” التي أطلقها عليه رفاقه من حركة حماس التي كان قد انضم إليها.
اطلق سراح نائل البرغوثي عام 2011 ضمن صفقة وفاء الأحرار-غيتي
اُطلق سراح البرغوثي عام 2011 ضمن صفقة وفاء الأحرار، أو صفقة شاليط لتبادل الأسرى التي أفرجت بموجبها حركة حماس عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط مقابل إفراج إسرائيل عن أكثر من ألف أسير فلسطيني.
ولم يكن والدا البرغوثي في انتظاره هذه المرة عندما وصل إلى كوبر، فقد توفي والده عام 2004 ولحقته والدته بعد ذلك بعام، بينما كان في السجن.
كان قد فقد عائلته الأولى، فسعى لإنشاء أخرى بعد إطلاق سراحه بزواجه من إيمان نافع، وهي أسيرة محررة أطلق سراحها في العام نفسه، لكن دورة الحرمان من العائلة تكرّرت مجدّدًا في حياته، فما هي إلا ثلاث سنوات أو أقل حتى أعادت إسرائيل اعتقاله بتهمة عدم التقيّد بشروط الإفراج، فبعد قيام المقاومة بأسر ثلاثة مستوطنين في مدينة الخليل قام البرغوثي بإلقاء محاضرة في جامعة بير زيت ما اعتبره الاحتلال تمردًا على القيود التي فرضتها عليه ومنها الإقامة الجبرية.
غرافيتي في بلدة كوبر لنائل وفخري البرغوثي-غيتي
حُكم على البرغوثي بالسجن لمدة سنتين ونصف السنة، وبعد انتهاء محكوميته حكمت عليه محكمة عسكرية بالمؤبد مجدّدًا.
وخلال فترة سجنه الأخيرة توفي شقيقه وملهمه عمر متأثرًا بإصابته بفيروس كورونا عام 2021 .
وعن العلاقة المصيرية والمعقدة بين الشقيقين تروي شقيقتهما حنان قصة عن مراهقتهما، فقد لاحظ عمر أن كتب شقيقه الصغير نائل ودفاتره المدرسية غالبًا ما تكون ممزقة، فقاده الفضول إلى تفتيش حقيبة شقيقه ليكتشف أنها مليئة بالحجارة، فما كان منه إلا أن سأله عن سبب ذلك، فقال له إنه يملأ حقيبته بحجارة الوادي خلال رحلة ذهابه من كوبر إلى بير زيت، حتى يكون على أهبّة الاستعداد فيما لو حدثت مواجهات مع قوات الاحتلال هناك.
يسأله عمر مستنكرًا ألا توجد حجارة في بير زيت، فيجيبه الشقيق الأصغر أن بلى، ولكنّ حجارة الوادي أشد قسوة ووطأة على الاحتلال.
فارق الشقيق الأكبر الحياة، ولن يكون في انتظار نائل أيضًا وهو يعبر الوادي إلى الحرية، كأقدم أسير فلسطيني على الإطلاق، قضى مدة السجن الأكبر في العالم كله، بينما لا تزال بلاده ترزح تحت نير آخر احتلال في التاريخ.