عندما يحلّ الليل على شمال غزة، يتحوّل الجزء الأكبر من مشهد المدينة إلى اللون الأسود القاتم مع المباني المنهارة والحطام المتراكم، حيث تعيش عائلة طنبورة داخل أنقاض منزلها في بيت لاهيا.
وتقوم الوالدة راوية بتشغيل مصباح يدوي وضوء هاتفها لتهدئة الأطفال الصغار الخائفين من الظلام، طالما صمدت البطاريات.
بعد نزوح لـ 16 شهرًا من الحرب الإسرائيلية، عادت العائلة إلى منزلها، حيث لا مياه أو كهرباء أو تدفئة أو خدمات، أو حتى أدوات لإزالة الركام من حولهم.
وعائلة طنبورة هي واحدة من أصل نحو 600 ألف فلسطيني عادوا إلى شمال غزة بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، الذي وضع حدًا للعدوان الإسرائيلي الذي خلف عشرات آلاف الشهداء في القطاع.
ورغم فرحهم وارتياحهم لعودتهم إلى منازلهم وإن كانت مدمّرة، إلا أنّ الغزيين يُواجهون الآن واقع العيش وسط الدمار في المستقبل المنظور.
وقالت راوية لوكالة أسوشييتد برس: “لا أعرف ماذا سنفعل على المدى الطويل. توقف عقلي عن التخطيط للمستقبل”.
الأسبوع الماضي، أصدر البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي تقريرًا مشتركًا، قدّر تكلفة إعادة بناء قطاع غزة بنحو 53 مليار دولار، بينما تغيب مصادر التمويل لبدء عملية إعادة بناء كبيرة.
نقص في المعدات
الأولوية الآن هي لجعل غزة صالحة للعيش على الفور، حيث عزّزت الوكالات الإنسانية خدماتها، وأنشأت مطابخ مجانية ومحطات لتوصيل المياه، ووزّعت الخيام والأقمشة على مئات الآلاف في جميع أنحاء غزة، وفقًا لتقارير الأمم المتحدة.
بدورها، بدأت بلدية مدينة غزة بإصلاح بعض خطوط المياه وإزالة الأنقاض من الشوارع. لكنّها تفتقر إلى المعدات الثقيلة.
وأوضح عاصم النبيه، المتحدث الرسمي باسم بلدية مدينة غزة، أن عددًا قليلًا فقط من أصل 40 جرافة و5 شاحنات قلابة، لا تزال تعمل.
ووفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، هناك أكثر من 50 مليون طنّ من الأنقاض في قطاع غزة، الأمر الذي يتطلّب 100 شاحنة تعمل بكامل طاقتها على مدى 15 عامًا لإزالتها.
“تدمير هوية”
أمام هذا الواقع، تعيش العائلات العائدة إلى شمال غزة اليوم بيومه.
تعيش عائلة راوية في الغرفة الوحيدة شبه السليمة والمتبقية من منزلها. فالسقف انهار جزئيًا والجدران متصدعة، بينما يُكدّسون ملاءاتهم وبطانياتهم في الزاوية.
ويقوم ابنها البالغ من العمر 12 عامًا، بإحضار حاويات ثقيلة من الماء مرتين يوميًا من محطات التوزيع، بينما يتعيّن عليهم العثور على الحطب للطهي. ولا تزال أسعار الغذاء في الأسواق باهظة الثمن في الأسواق.
وراوية التي تعمل ممرّضة في مستشفى كمال عدوان، تسير يوميًا لمدة ساعة إلى العمل. وتقوم بشحن هاتفها وهاتف زوجها باستخدام مولد المستشفى.
عاد العديد من أقارب راوية إلى بيت لاهيا، لكنّهم لم يجدوا شيئًا من منازلهم، فباتوا يعيشون في خيم أو بجوار الركام الذي تجرفه رياح الشتاء أو تغمره المياه أثناء هطول الأمطار.
من جهتها، اضطرت عائلة طبيبة الأسنان أسماء دويمة لاستئجار شقّة في مدينة غزة، بعدما تحوّل منزلها المكوّن من أربعة طوابق في تل الهوى إلى كومة من الركام المُسطّح والمحترق.
وقالت دويمة لوكالة أسوشييتد برس: “كانت لدي صورة لمنزلي في ذهني: جماله ودفئه، لكنّ الإسرائيليين لم يدمّروا الحجارة فحسب، بل دمرونا ودمروا هويتنا”.
في الوقت الحاضر، تحتاج العائلة إلى معدات ثقيلة لإزالة الأنقاض لسحب الملابس وبعض المتعلّقات، نظرًا لعدم قدرتها على إعادة بناء منزلها، مع غلاء أدوات البناء.
وفي مدينة غزة أيضًا، تتقاسم هدى سكيك (طالبة تبلغ من العمر 20 عامًا) الغرفة مع أشقائها الثلاثة ووالديها في منزل أجدادها.
وتعتبر سكيك أنّ العيش في منزل مكتظ أفضل من العيش في مخيمات النزوح بين الغرباء، بعد أن جرف المطر خيمتهم.
وقالت: “على الأقل، لدينا جدران هنا، ونحن مع أفراد عائلتنا”.
تدرس سكيك الأدب الإنكليزي في الجامعة الإسلامية في غزة، وسجّلت في الفصول الدراسية عبر الإنترنت التي تنظّمها الجامعة. لكنّ الإنترنت ضعيف، وتعتمد الكهرباء في منزلها على الألواح الشمسية التي لا تعمل دائمًا.
وقالت: “أسوأ ما في الأمر هو أننا ندرك الآن أننا فقدنا كل شيء”، مضيفة: “الدمار هائل، لكنّني أحاول أن أبقى إيجابية”.