«الذكاء العلمي الفائق» ينجح في توليد أجسام مضادة للأمراض والتقاط الكربون الجوي
بين مجموعة واسعة من استخدامات الذكاء الاصطناعي، يَبرز استخدام متميز واحد، إذ يتفق الخبراء على أن فرص تطوير نظم الذكاء الاصطناعي الكبيرة والملهمة التي تلوح في الأفق، تكمن في تسريع وتطوير الاكتشاف والتطوير العلمي.
الذكاء الاصطناعي في العلوم والطب
بفضل الكمّ الهائل من البيانات العلمية، يَعِدُ الذكاء الاصطناعي بإنتاج أدوية جديدة لمكافحة الأمراض، وتطوير زراعة جديدة لإطعام سكان العالم، ومواد جديدة لإطلاق العنان للطاقة الخضراء، وإجراء كل ذلك في جزء ضئيل من الوقت الذي تستغرقه الأبحاث التقليدية.
تُصنِّع شركات التكنولوجيا مثل «مايكروسوفت» و«غوغل» أدوات ذكاء اصطناعي للعلوم، وتتعاون مع شركاء في مجالات مثل اكتشاف الأدوية. وقد حاز جائزة نوبل في الكيمياء، العام الماضي، علماء يستخدمون الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالبروتينات وإنتاجها.
ذكاء علمي للاستكشاف والبحث
وفي هذا الشهر، أعلنت شركة ليلا ساينسز Lila Sciences طموحاتها لإحداث ثورة علمية، من خلال الذكاء الاصطناعي. وقد عملت الشركة الناشئة، التي تتخذ من كمبردج، بماساتشوستس، مقراً لها، سراً لمدة عامين «لبناء ذكاء علمي خارق لحل أكبر التحديات التي تواجه البشرية».
واعتماداً على فريق من العلماء ذوي الخبرة وتمويل أوليّ بقيمة 200 مليون دولار، تعمل «ليلا» على تطوير برنامج ذكاء اصطناعي مُدرَّب على البيانات المنشورة والتجريبية، بالإضافة إلى تدريبه على العمليات العلمية والتفكير المنطقي. ثم تتيح الشركة الناشئة لبرنامج الذكاء الاصطناعي هذا، إجراء تجارب في مختبرات فيزيائية آلية، بمساعدة عدد من العلماء.
اتّبعت «ليلا» نهجاً علمياً لتدريب الذكاء الاصطناعي التوليدي الخاص بها، مزوِّدةً إياه بأوراق بحثية وتجارب موثَّقة وبيانات من مختبريْ علوم الحياة وعلوم المواد المتقدمين. ويعتقد فريق «Lila» أن هذا سيمنح التقنية عمقاً علمياً وقدرات واسعة النطاق، ما يحاكي الطريقة التي تكتب بها روبوتات الدردشة الشعر وبرمجة الكمبيوتر.
توليد أجسام مضادة للأمراض
بالفعل، وفي المشاريع التي طبّقت فيها هذه التقنية، نجح الذكاء الاصطناعي الخاص بـ«ليلا» في توليد أجسام مضادة جديدة لمكافحة الأمراض، وتطوير مواد جديدة لالتقاط الكربون من الغلاف الجوي. وقد حوّلت «ليلا» هذه التجارب إلى نتائج مادية، في مختبرها في غضون أشهر، وهي عملية من المرجح أن تستغرق سنوات في الأبحاث التقليدية.
أقنعت تجاربُ مثل تجربة «ليلا» كثيراً من العلماء بأن الذكاء الاصطناعي سيُسرِّع قريباً دورة الفرضيات والتجارب والاختبارات بشكلٍ غير مسبوق. وفي بعض الحالات، قد يتجاوز الذكاءُ الاصطناعي الخيال البشري باختراعاته، مُعززاً بذلك مسيرة التقدم.
تعزيز المنهج العلمي
صرّح جيفري فون مالتزان، الرئيس التنفيذي لشركة ليلا، والحاصل على درجة الدكتوراه في الهندسة الطبية الحيوية والفيزياء الطبية من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «سيُحرك الذكاء الاصطناعي الثورة المقبلة في هذا الجانب الأكثر قيمةً الذي اكتشفه البشر على الإطلاق – المنهج العلمي».
ويعتمد السعي لإعادة ابتكار عملية الاكتشاف العلمي على قوة الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي انتشر في أذهان العامة مع طرح شركة أوبن إيه آي تقنية ChatGPT قبل أكثر من عامين، إذ تُدرّب هذه التقنية الجديدة على البيانات عبر الإنترنت، ويمكنها الإجابة عن الأسئلة وكتابة التقارير وكتابة رسائل البريد الإلكتروني بسلاسةٍ تُضاهي طلاقة البشر.
تحديات كبيرة
ومع ذلك يقول العلماء إن «ليلا» وأي شركة تعمل على التوصل إلى اختراق في «الذكاء العلمي الفائق» ستواجه تحديات كبيرة. ففي حين أن الذكاء الاصطناعي يُحدث ثورة في مجالات معينة، بما في ذلك اكتشاف الأدوية، إلا أنه من غير الواضح ما إذا كانت هذه التقنية مجرد أداة قوية أم أنها – هي نفسها – في طريقها لمضاهاة جميع القدرات البشرية أو تجاوزها.
بما أن مشروع «ليلا» يعمل سراً، لم يتمكن العلماء الخارجيون من تقييم عمله، ويضيفون أن التقدم العلمي المبكر لا يضمن النجاح، إذ غالباً ما تظهر عقبات غير متوقعة لاحقاً.
وقال ديفيد بيكر، عالم الكيمياء الحيوية ومدير معهد تصميم البروتينات بجامعة واشنطن: «أتمنى لهم مزيداً من القوة، إن استطاعوا». وأضاف: «يبدو الأمر متجاوزاً لأي شيء أعرفه في مجال الاكتشاف العلمي».
وتابع الدكتور بيكر، الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء مناصفةً، العام الماضي، إنه ينظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة.
ميلاد «ليلا»
وُلدت «ليلا» داخل شركة فلاغشيب بايونيرينغ، وهي شركة استثمارية رائدة في شركات التكنولوجيا الحيوية، بما في ذلك شركة موديرنا، الشركة المُصنِّعة للقاح «كوفيد-19». وصرح نوبار أفييان، المؤسس والرئيس التنفيذي لـ«فلاغشيب»، بأن الشركة تُجري أبحاثاً علمية، مُركزةً على المجالات التي يُحتمل تحقيق اختراقات فيها خلال بضع سنوات، والتي قد تُثبت قيمتها التجارية، «لذا فإننا لا نهتم بالفكرة فحسب، بل نهتم أيضاً بمدى ملاءمتها للوقت».
وقد أدمج في «ليلا» مشروعان مُبكران لشركة الذكاء الاصطناعي في «فلاغشيب»؛ أحدهما يُركز على المواد الجديدة، والآخر على علم الأحياء. وقالت مولي جيبسون، عالِمة الأحياء الحاسوبية والشريكة في تأسيس «ليلا»، إن المجموعتين كانتا تُحاولان حل مشكلات مُتشابهة وتوظيف الأشخاص أنفسهم، لذا جمعتا جهودهما.
مشاريع لإثبات قدرات الذكاء
أنجز فريق «ليلا» خمسة مشاريع لإثبات قدرات ذكائه الاصطناعي، وهو نسخة قوية من أحد المساعدين المتطورين المتنامية المعروفة باسم «الوكلاء». في كل حالة، قام علماء – لم يكن لديهم عادةً أي تخصص في هذا الموضوع – بكتابة طلب بما يريدون من برنامج الذكاء الاصطناعي إنجازه.
وبعد تحسين الطلب، أجرى العلماء، بالتعاون مع الذكاء الاصطناعي بصفته شريكاً، تجارب واختبروا النتائج – مراراً، محققين الهدف المنشود بثبات.
وقد وجد أحد هذه المشاريع محفزاً جديداً لإنتاج الهيدروجين الأخضر، الذي يتضمن استخدام الكهرباء لفصل الماء إلى هيدروجين وأكسجين. وقد طُلب من الذكاء الاصطناعي أن يكون المحفز وفيراً أو سهل الإنتاج، على عكس الإيريديوم، المعيار التجاري الحالي.
وبمساعدة الذكاء الاصطناعي، وجد العالمان محفزاً جديداً في أربعة أشهر – وهي عملية قد تستغرق عادةً سنوات. وساعد هذا النجاح جون غريغوار، الباحث البارز في مجال المواد الجديدة للطاقة النظيفة، على مغادرة معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، العام الماضي، للانضمام إلى «ليلا» رئيساً لأبحاث العلوم الفيزيائية.
الذكاء الاصطناعي العلمي أقل هلوسة
كما انضم جورج تشرش، عالم الوراثة في جامعة هارفارد والمعروف بأبحاثه الرائدة في تسلسل الجينوم وتركيب الحمض النووي، الذي شارك في تأسيس عشرات الشركات، أخيراً رئيساً لعلماء «ليلا».
وقال الدكتور تشرش: «أعتقد أن العلم مجالٌ واعدٌ جداً للذكاء الاصطناعي». وأكد أن العلم يركز على مجالات معرفية محددة، حيث يمكن اختبار وقياس الحقيقة والدقة. وهذا يجعل الذكاء الاصطناعي في العلوم أقل عرضة للإجابات الخاطئة، المعروفة بالهلوسة، والتي تُنتجها أحياناً برامج الدردشة الآلية.
لا تزال المشاريع المبكرة بعيدة كل البعد عن المنتجات الجاهزة للتسويق. وستعمل «ليلا»، الآن، مع شركائها لتسويق الأفكار الناشئة عن مختبرها. وتعمل الشركة على توسيع مساحة مختبرها في مبنى رئيسي من ستة طوابق في كمبردج، على ضفاف نهر تشارلز. وتخطط، على مدار العامين المقبلين، للانتقال إلى مبنى منفصل، وإضافة عشرات الآلاف من الأمتار المربعة من مساحة المختبر، وافتتاح مكاتب في سان فرنسيسكو ولندن.
علماء ونُظم آلية في الاختبارات التجريبية
وفي تجربة أُجريت في الأيام الأخيرة، سارت صوانٍ تحمل 96 من عينات الحمض النووي «دي إن إيه» على مسارات مغناطيسية، مغيِّرة اتجاهاتها بسرعة لكي تصل إلى محطات مختبر مختلفة، اعتماداً جزئياً على ما يقترحه الذكاء الاصطناعي. وبدا أن التقنية تتخذ خطوات ارتجالية، أثناء تنفيذها خطوات تجريبية سعياً وراء بروتينات جديدة، أو محررات جينية، أو مسارات أيضية.
وفي جزء آخر من المختبر، راقب العلماء آلات عالية التقنية تُستخدم لإنشاء وقياس وتحليل جسيمات نانوية مخصصة من مواد جديدة.
ويجري النشاط في المختبر بتعاون علماء يرتدون معاطف بيضاء، ومُعدات آلية، وبرامج خفية. وجرى تسجيل كل قياس، وكل تجربة، وكل نجاح أو فشل تدريجياً رقمياً وإدخاله في الذكاء الاصطناعي لشركة ليلا. وهكذا، فإنه يتعلم باستمرار، ويزداد ذكاءً، وينجز المزيد بمفرده.
وقالت الدكتورة جيبسون: «هدفنا الحقيقي هو منح الذكاء الاصطناعي القدرة على إدارة المنهج العلمي؛ للتوصل إلى أفكار جديدة، والذهاب إلى المختبر واختبار تلك الأفكار».
* خدمة «نيويورك تايمز»