يبدو أن مطلب الجزائر من فرنسا بالاعتراف الصريح بأنها ارتكبت «جريمة ضد الإنسانية» خلال فترة الاستعمار، التي استمرت 132 سنة (1830 –1962)، بات بعيد المنال، بعد أن وصلت العلاقات بين البلدين إلى مستوى غير مسبوق من التوتر، نتيجة تداخل ملفات الذاكرة مع قضايا أخرى كالهجرة ونزاع الصحراء.
وتحيي الجزائر هذه الأيام الذكرى الـ80 لمجازر 8 مايو (أيار) 1945، التي راح ضحيتها نحو 45 ألف جزائري في مدن الشرق، على أيدي رجال الشرطة الفرنسية ضد متظاهرين طالبوا بالاستقلال، مقابلاً لمساعدة أبنائهم فرنسا والحلفاء في الانتصار على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، من خلال الانخراط في هذه الحرب ضمن الجيش الفرنسي.
وكانت السلطات الاستعمارية شجعت شباب الجزائر على التجنيد في مقابل منح بلادهم الاستقلال إن تم دحر ألمانيا هتلر.
ومن أهم مطالب تلك المظاهرات التي جرت في سطيف وقالمة وخراطة، كان تذكير فرنسا بهذا الوعد. غير أن قواتها الأمنية جابهت المتظاهرين بالنار والاعتقال، فقد كانت هذه الأحداث منعطفاً حاسماً في تاريخ النضال الوطني، مهَّد لاندلاع «ثورة التحرير» عام 1954 التي انتهت باستقلال الجزائر.
وقال رجل الثورة الراحل حسين آيت أحمد: «إن أول نوفمبر (تشرين الثاني) 1954 (اليوم الذي اندلعت فيه حرب التحرير) بدأ في الثامن من مايو 1954»، وهو يوم المظاهرات التي يعدّها المؤرخون محطة فارقة في حسم علاقة الجزائريين مع الاستعمار.
وتم استحضار هذه الأحداث في محافظات البلاد، بواسطة أنشطة أقرتها وزارة المجاهدين، تمثلت أساساً في وضع أكاليل من الزهور على النُصب التذكارية، لا سيما في المدن التي شهدت المجازر، إلى جانب الوقوف دقيقة صمت ترحّماً على أرواح الشهداء.
ورافقت هذه المراسم الرسمية عروض فنية وفولكلورية، تتضمن مسرحيات تمثل أحداث المجازر أو الحياة اليومية خلال تلك الحقبة، كما قدمت أناشيد وطنية ومقاطع شعرية تمجد تضحيات الشعب الجزائري ومقاومته للاستعمار.
كما نظمت معارض وثائقية وتاريخية تضم صوراً وشهادات ووثائق تؤرخ لتلك الأحداث، إلى جانب عرض مجسمات تحاكي المظاهرات الشعبية أو مشاهد القمع الفرنسي.
وما ميَّز الاحتفالات هذا العام، حضور وفد برلماني فرنسي بعض فعالياتها. وقد أكد أعضاؤه في تصريحات للصحافة الفرنسية أن تواجدهم في الجزائر في هذه الذكرى «بمثابة اعتراف قطاع من السياسيين الفرنسيين، بمسؤولية دولتهم عن مذابح 8 مايو 1945».
وتمر العلاقات بين البلدين منذ الصيف الماضي بتوترات غير مسبوقة، كان آخر فصولها تبادل طرد دبلوماسيين في مؤشر على قطيعة شبه تامة.
وأكد وزير الداخلية إبراهيم مراد في تصريحات، الخميس، بمناسبة الاحتفالات، «أن أحداث 8 مايو 1945 تمثل ذاكرة وطن وتضحيات شهداء، لا يمكن أن ننسى هذه الذكرى». مشيراً إلى أن الطيف السياسي الجزائري في تلك المرحلة، «أيقن أن لا حلَّ آخر أمامه إلا حمل السلاح في وجه المستعمر». كما قال إن الجزائريين «لا يمكن أن ينسوا ما جرى في الثامن من مايو، فقد كانت هذه الأحداث وصمة عار لفرنسا التي تنكر أنها لم ترتكب جريمة ضد الإنسان في الجزائر».
ولفت مراد إلى «وجود الكثير من المؤرخين في فرنسا يؤكدون في كتاباتهم أنها اقترفت جرائم في الجزائر»، معبّراً بثقة: «ستعترف فرنسا حتماً بأنها ارتكبت جرائم في الجزائر».
ونشرت الرئاسة، الأربعاء، خطاباً للرئيس عبد المجيد تبون بهذه المناسبة، أكد فيه أن «مجازر الثامن من مايو كانت انتفاضة شعبية فاصلة، اقتربت بنضالات الحركة الوطنية إلى لحظة تاريخية حاسمة تمثلت في التحوّل إلى جبهة الكفاح المسلح. ففي هذا اليوم الوطني، يقف الجزائريون عند هذه الذكرى التي تبرز حجم المعاناة وقساوتها التي تكبّدها شعب مقاوم، لدفع العدوان عن أرضه».
والمعروف أن الجزائر وفرنسا أطلقتا عام 2023، «لجنتين لمصالحة الذاكرتين»، تضم كل واحدة خمسة باحثين أكاديميين في التاريخ من البلدين، مهمتهم إحداث توافق في الرؤية بخصوص «الحقيقة التاريخية»، وذلك بغرض التوصل إلى مساحة مشتركة تسمح بتجاوز الخلاف حول «الذاكرة وأوجاع الاستعمار». غير أن الخلافات الحالية أوقفت عمل هؤلاء بعد أن كانوا حققوا خطوات إيجابية في المشروع، وفق تصريحات لهم.
وتتمثل مطالب الجزائر في «قضية الذاكرة»، في «اعتراف صريح من فرنسا بأن احتلالها الجزائر كان جريمة»، وأن يتبع ذلك تقديم الاعتذار. وكان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قد حسم هذا الجل مطلع 2023، عندما قال في مقابلة صحافية: «لست مضطراً إلى طلب الصفح، هذا ليس الهدف. الكلمة ستقطع كلّ الروابط (…) إن أسوأ ما يمكن أن يحصل هو أن نقول (نحن نعتذر وكلّ منّا يذهب في سبيله)». كما قال: «الاشتغال على الذاكرة والتاريخ ليس جردة حساب، إنّه عكس ذلك تماماً. إنه يعني الاعتراف بأن في طيات ذلك، أموراً لا توصف، ولا تُفهم ولا تُبرهَن، وربما لا تُغتفر».