قبل اللقاء التاريخي بين الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في قناة السويس على متن البارجة الأميركية «يو إس إس كوينسي»، بأكثر من عشر سنوات، وصل الخبراء الأميركيون إلى الأراضي السعودية، ونشأ تدريجياً مجتمع أميركي في شرق السعودية على ضفاف الخليج، مثّل نواة التواصل المبكر بين السعودية التي أُعلن قيام وحدتها ونشوء كيانها الجديد الممتد من البحر الأحمر إلى الخليج العربي والتي تضم ثروات كامنة (واعدة) وأقدس بقاع الأرض، والولايات المتحدة التي تستعد لوراثة الإمبراطوريات الأوروبية، وخاصة البريطانية التي كانت تستعدّ لإعلان أفول نجمها باعتماد سياسة الانسحاب من «شرق السويس».
النفط أولاً: الامتياز
على مدى أكثر من تسعين عاماً، ترسخت العلاقات السعودية – الأميركية على أساس المصالح الاقتصادية، ومعها تمّ بناء شراكة سياسية على الصعيد الدولي قائمة على الموثوقية. بدأت العلاقات في مرحلة تاريخية مهمّة بالنسبة للبلدين؛ فبعد عام واحد من توحيد السعودية، (23 سبتمبر «أيلول» 1932) أبرمت المملكة في 29 مايو (أيار) عام 1933 اتفاقية الامتياز للتنقيب عن النفط مع شركة «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا» (سوكال).
فبتفويض من الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، وقّع عبد الله السليمان، وزير المالية، باسم السعودية، اتفاقية التنقيب عن النفط، مع شركة «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا» (سوكال) (شيفرون حالياً)، التي مثّلها لويد هاملتون، وتم إنشاء شركة تابعة لها سميت «كاليفورنيا أرابيان ستاندارد أويل كومباني» (كاسوك) لإدارة هذه الاتفاقية.
كانت مدة اتفاقية الامتياز التي منحتها الحكومة السعودية لشركة «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا» 60 سنة. وفي عام 1973، اشترت الحكومة السعودية حصة قدرها 25 في المائة في شركة «أرامكو» وزادت هذه الحصة لتصل إلى 60 في المائة في العام التالي، وفي عام 1980، امتلكت الحكومة السعودية كامل حصة شركة «أرامكو»، وفي 1988 تأسست رسمياً «شركة الزيت العربية السعودية – أرامكو».
أميركيون في الظهران
اقتصر وجود الأميركيين في الخليج منذ نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، على نشاط «الإرسالية الأميركية» التي نظمّت رحلات في منطقة الخليج والعراق واليمن، وكانت الصبغة العامة لهذا النشاط إرسال المبشرين والوفود الطبّية. وفي حين عرفت البحرين المجاورة النشاط التبشيري الأميركي منذ عام 1890، حيث وصل مبشران أميركيان ومبشرة أسترالية، وقدموا خدمات طبية في مقرّ البعثة، استدعى ذلك وصول أطباء، ثمّ في عام 1903 افتتحت البعثة أول مستشفى للإرسالية في الخليج باسم مستشفى «ميسون» وكان يضم 24 سريراً. وفي الفترة نفسها تقريباً (1914)، افتتحت البعثة مستشفى الإرسالية الأميركية العربية في الكويت.
لكنّ الأميركيين التبشيريين لم يكن لهم نشاط يُذكر في الأراضي السعودية، كان الاتصال الأول بين البلدين من بوابة النفط. فمن خلالها، أقيمت واحدة من أبرز الشراكات الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
وبتوقيع اتفاقية الامتياز في 1933، توافد وصول الوفود الأميركيين إلى السعودية، وكانت الدفعة الأولى عبارة عن خبراء حطوا رحالهم في الظهران شرق السعودية، كما استدعى ذلك وصول طلائع المستكشفين الأميركيين في عام 1935، حيث باشروا عمليات المسح في الصحاري القاحلة، وأخفقت أعمال حفر الآبار في بدايتها، ولم تسجل نجاحاً يُذكر، إلى أن قررت شركة «سوكال» عام 1937 الاستعانة بمشورة كبير الجيولوجيين الأميركيين فيها ماكس ستاينكي، حيث أسفرت جهوده في عام 1938 في اكتشاف النفط بكميات تجارية.
ومثلّ الرابع من مارس (آذار) 1938 لحظة حاسمة في تاريخ السعودية، وتاريخ صناعة النفط على المستوى العالمي، ففي هذا اليوم تدفق النفط من أول بئر اختبارية في الظهران، أُطلق عليها «بئر الدمام رقم 7»، لينصّب السعودية كأكبر دولة في احتياطي النفط، وأهم مصادر الطاقة على مستوى العالم. هذه البئر، التي جرى حفرها إلى عمق 1441 متراً، تقع على التل المعروف باسم جبل الظهران، وعُرفت فيما بعد باسم «بئر الخير».
وتتويجاً لعصر جديد، اتجه الملك عبد العزيز في ربيع 1939، يصحبه وفدٌ كبير إلى الظهران مجتازاً صحراء الدهناء ذات الرمال الحمراء حتى وصل إلى شرق البلاد على الخليج العربي، وتزامن توقيت زيارة الملك عبد العزيز مع اكتمال خط الأنابيب الذي امتد من حقل الدمام إلى ميناء رأس تنورة، بطول 69 كيلومتراً، حيث رست ناقلة النفط التي أدار الملك عبد العزيز الصمام بيده لتعبئتها بأول شحنة من النفط السعودي. وهكذا، كانت هذه أول شحنة من الزيت الخام تصدرها المملكة على متن ناقلة في الأول من مايو 1939.
الشراكة الاستراتيجية: «لقاء كوينسي»
صاحَب التدفق التدريجي للنفط اشتعال الحرب العالمية الثانية، التي فتحت أعين العالم على أهمية الطاقة والمكانة التي تحتلها السعودية كأهم مصادر الطاقة، ومثلت نهاية الحرب فرصة لمزيد من التنقيب في الأماكن البرية، ولأول أيضاً في المياه الإقليمية للمملكة.
بالإضافة للنفط، وجدت الولايات المتحدة في المملكة التي أرست دعائم وحدتها كأكبر دول الشرق الأوسط مساحة، تضم بين جنباتها الطاقة التي سيحتاج إليها العالم للنهوض بعد الحرب، كما تضم أهم المقدسات الإسلامية التي تثبت مكانتها بوصفها قبلة للمسلمين في العالم.
استبق الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت قبل نحو 82 يوماً من توقّف الحرب العالمية الثانية (أعلن عن توقفها يوم 8 مايو 1945، بتوقيع الألمان في برلين على اتفاقية الاستسلام للحلفاء)، بعقد أول لقاء مع الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود في (البحيرات المرّة) بقناة السويس، في 14 فبراير (شباط) 1945، وعُرف ذلك اللقاء التاريخي بـ«لقاء كوينسي» نسبةً إلى البارجة «يو إس إس كوينسي» التي عُقد على متنها، ومنذ ذلك اللقاء ترسخّت العلاقات السعودية – الأميركية.
عشية اللقاء التاريخي بين الزعيمين، الذي شهد عقد مشاورات مطولة تناولت أحداث العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان الخبراء الأميركيون، ومعهم عدد متزايد من العائلات، قد حطوا رحالهم بالفعل في شرق السعودية، وشكلّت الظهران في المنطقة الشرقية بالقرب من الخليج العربي، المحطة الأولى التي استقرت فيها أولى الجاليات الأميركية من المهندسين، والجيولوجيين، والفنيين الذين أرسلتهم شركة «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا» (سوكال) بعد توقيع اتفاقية الامتياز النفطي عام 1933.
سكنت هذه الجالية في مجمعات سكنية مغلقة، عُرفت لاحقاً باسم «كمباوند الظهران»، حيث وُفرت لهم مدارس، ونوادٍ، ومتاجر، وحتى كنائس صغيرة داخل المجمعات، منعزلة عن المجتمع المحلي آنذاك. وعاشوا حياة غربية إلى حد كبير داخل هذه المجمعات، وكان التفاعل بينهم وبين السعوديين في بداياته محدوداً، يقتصر غالباً على بيئة العمل، ورغم هذا التواصل المحدود، ورغم العزلة النسبية، فقد كان لهم دور في إدخال أنماط جديدة في الإدارة، والتعليم الفني، وأساليب الحياة الحديثة، خاصة في المدن التي نشأت حول النفط، وبمرور الوقت، بدأت العلاقات تتعمق بين الأميركيين والسعوديين، خاصة مع توسع «أرامكو»، وتطورت الجالية الأميركية لتشمل عائلات، ومعلمين، وأطباء، وإداريين.
ولإسكان عائلات موظفي الشركة الأجانب، تم شحن أول بيوت صغيرة متنقلة ومكيفة إلى المملكة العربية السعودية في يونيو (حزيران) 1936، وكانت تلك البيوت تحتوي على غرفتي نوم فقط. وتبع ذلك وصول أول زوجتين أميركيتين، هما: «أنيت هنري» و«نيلي كاربنتر»، إلى المنطقة الشرقية في أبريل (نيسان) 1937. وبنهاية عام 1938، بلغ عدد العاملين في الشركة 2745 شخصاً، بينهم 236 أميركياً و104 من جنسيات أخرى.
ويؤرخ كتاب «الطاقة من خلال التاريخ المصور لمجتمع أرامكو السعودية» (The Energy Within A Photo History of the People of Saudi Aramco) (من إصدارات أرامكو) لوصول الدفعة الثانية من الزوجات الأميركيات، حاملات معهن أول الأطفال الأميركيين إلى المنطقة الشرقية، حيث وصلوا إلى ميناء الخبر في سبتمبر 1937، على متن قارب بريطاني – هندي من بومباي، من هؤلاء عائلة «ماكس ستاينكي»، لتلتحق النساء بأزواجهن في الظهران للإقامة معهم في اثنين من الأكواخ الستة التي تم تسليمها قبل ذلك التاريخ بعام كامل مع التكييف.
أتاح الحيّ السكني في الظهران «معسكر أرامكو» (كامب الظهران) للجاليات الأميركية التمتع ببيئة تشبه إلى حدٍّ كبير البيئات التي خلّفوها وراءهم في بلادهم في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وتضاعف أعداد الأميركيين ضمن بيئات عمل «أرامكو» في الظهران ورأس تنورة وبقيق والجبيل، وغيرها. وحتى عام 1980، تاريخ امتلاك الحكومة السعودية كامل حصة «أرامكو»، وبدء الرحيل التدريجي للموظفين الأميركان وعائلاتهم، كانت العائلات الأميركية تتنقل داخل الأحياء السكنية في حواضر المنطقة الشرقية، وتنشأ بينهم وبين المجتمعات المحلية أواصر التعارف والصداقة والتبادل الثقافي، في أجواء من التسامح.
وإذا كانت حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، أحدثت في العالم، وفي الولايات المتحدة خصوصاً، ما عُرف بـ«صدمة النفط» عندما قررت الدول العربية المصدرة للنفط إعلان «حظر نفطي» على الدول الغربية على خلفية الحرب مع إسرائيل، مما تسبب في ارتفاع أسعار المحروقات في الغرب، فإن هذه الحادثة أكدت للولايات المتحدة الأهمية الاستراتيجية للسعودية في خريطة الشرق الأوسط، والعالم، بوصفها ركيزة مهمة للسياسة، والمصدر الأكثر موثوقية لإمداد العالم بالطاقة.
ومن بوابة النفط مجدداً، توّثقت العلاقات السعودية – الأميركية، وشكلت سياسة الاعتدال السعودي شريكاً يُعتد به خلال الحرب الباردة، وتوثقت أواصر التعاون في المجالات العسكرية والأمنية والاستراتيجية، خاصة في المنعطفات السياسية المهمة التي مرّت بها منطقة الخليج منذ قيام الثورة الإيرانية (1979) والحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988)، وغزو الكويت (1990 – 1991)، والتطورات السياسية التي عصفت بالمنطقة، وخاصة فترة الحرب على الإرهاب التي أضرت بمصالح البلدين، وأثبتت السعودية أنها أهم ركائز الاستقرار في منطقة تموج بالاضطرابات.