غابت ياسمين حمدان 8 سنوات عن الإصدارات الموسيقية و6 سنوات عن الحفلات. بعد ألبوم «الجميلات» الذي صدر عام 2017، ظنّ محبّوها أنها اعتزلت الموسيقى قبل الأوان. لم يخطئوا تماماً في التوصيف، فما جرى هو شبه اعتزالٍ فضّلت ياسمين حمدان الابتعاد خلاله عن ضجيج المجال. ثم تتالت الخيبات لتُقنعَها أكثر بالعزلة؛ «جرى الاستيلاء على أموال المودعين في لبنان، بمَن فيهم والدي. تلا ذلك جائحة (كورونا) ثم تفجير مرفأ بيروت وحرب غزة»، تعدّد الفنانة اللبنانية في حوار مع «الشرق الأوسط» الصدمات المتراكمة.
تُصنَّف ياسمين حمدان كأحد الأعمدة المؤسِّسة للموسيقى المستقلة والـ«أندرغراوند» في لبنان والعالم العربي. يوم أطلقت، بالشراكة مع زيد حمدان، فريق «سوب كيلز» (Soap Kills) في التسعينيات، أحدثا ثورةً فنية ما زالت أصداؤها تتردد حتى الآن عربياً وأوروبياً.
مشروعها الموسيقي الخاص نابعٌ من شغف وهي لا تتعامل معه كسلعةٍ تجارية، بل كرحلةِ ارتقاءٍ روحيّ وإنساني، لذلك فإن الغياب لم يؤرقها. ما أرّقها كانت المآسي البشريّة التي شاهدتها من بعيد، من مقر إقامتها الباريسيّ. حاولت مداواة انعكاساتها عليها بالاقتراب من الطبيعة، وبالتأمّل واليوغا. أخذها الطريق في إجازة إلى جزيرة صقليّة، حيث عادت لتنبت في رأسها أفكار ونغمات.
5 سنواتٍ في باريس تخللتها زيارات إلى لبنان، بحثت خلالها ياسمين حمدان عن أبعادٍ جديدة في نفسها وفنّها. تساءلت مراتٍ كثيرة ما إذا كانت تريد فعلاً كتابة الأغاني وإصدار الألبومات من جديد. «المؤكّد أنني كنت بحاجة إلى تحويل التجارب التي آلمتني إلى أغاني»، تخبر «الشرق الأوسط». تضيف: «أردتُ ألبوماً حقيقياً، يشبه ما أمرّ فيه وما تمرّ فيه البشريّة حالياً».
«بنسى وبتذكّر»، ألبوم ياسمين حمدان الجديد، يوازن بين الخيبات والأفراح، بين الذكريات الموجعة وخدَر النسيان. هو ألبوم مغمّس بالحرب ومطرّز بالحب. لا تغيب فيه الفنانة عن مآسي المنطقة والكوكب، لكنها لا تحوّل الأغنية إلى مرثاة. حتى في الفيديو كليب، تُزاوج بين السواد والفكاهة. تنتحل شخصية كرتونية نسائية شبيهة بـ«سوبر ماريو»، وتركض بين الركام ثم تهرب من فوهات البنادق.
تعود سيرة الحرب في «هون». مَن يسمع الأغنية، يخيّل له أن ياسمين جالسة على الكنبة أمام التلفاز، تتابع أخبار غزة ولبنان وتغنّي. «غيمة بوسط الصالون غيمة حزن معي هون هزة بدَن وعالتلفزيون خلص الحكي هون»…
أرادت أن تختصر في تلك الأغنية ما شعرت به الجالية العربية في أوروبا من عجزٍ وقهر، وهي تراقب المأساة من بعيد عبر الشاشة. عاونها كلاماً الشاعر الفلسطيني أنس العيلة ولحناً المنتج الموسيقي الفرنسي مارك كولان.
«شمالي» هي الأغنية التي ينضح فيها نبض ياسمين حمدان المعهود. ليس غريباً على المغنّية أن تستقي من التراث لتقديمه بأسلوبها العصريّ. «يوم وقعتُ على (شمالي) عام 2022، قررتُ فوراً أن أعيد تسجيلها». حدثَ ذلك قبل أن تقدّم أصوات عربية كثيرة تلك الأغنية بالتزامن مع حرب غزة. فـ«شمالي» تعود إلى حقبة الحُكم العثماني، حيث كان أهل فلسطين يتواصلون مع أحبّتهم بشيفرة سرية كي لا يفهمهم المستعمر.
وحتى يتكامل الصوت مع الصورة، نبشت ياسمين حمدان في الأرشيف، فمزجت بين مشاهد من فلسطين يوم كانت أرضاً لا يَشغل بال أبنائها احتلالٌ ولا استعمار، بل الاعتناء بالزرع والحصاد. وفي المقلب الآخر، استعانت بلقطات من زفاف تقليديّ فلسطيني.
أما والدها الذي رحل قبل سنتين، فأهدته إحدى أغانيها المفضّلة في الألبوم «الحلوين الخسرانين». غادر الدنيا خاسراً جنى عمره في المصارف كما غالبية اللبنانيين، غير أنّ ياسمين عوّدت نفسها على رؤية النصف الممتلئ من الخسارة. «السنوات الأخيرة علّمتني أن أعالج الفقدان. يمكن أن نخسر ونظلّ أقوياء. يكفي ألا نفقد الأمل»، تقول الفنانة المقتنعة بأنّ والدها بات في المقلب الأجمل.
تختصر حكمةَ الألبوم بالقول إن «الخيبات التي تصادفنا هي أشبه بحوادث تضع حواجز بيننا وبين فرحنا وقوّتنا». وتوضح أنها في «بنسى وبتذكّر»، تحاول أن تُعيد الوصل مع الفرح.
ليس الألبوم الذي تعود به ياسمين حمدان بعد غياب، مجرّد مجموعة غنائية تتحدّث لغة موسيقية وشعرية جريئة. «بنسى وبتذكّر» مصالحةٌ مع ما حصل، وتقبّلٌ للدنيا ببياضها وسوادها. وكأنّ الفنانة تقدّم لذاتها ولجمهورها نسخةً أكثر نُضجاً.
لكن كل ذلك لا يلغي الغنج والدلال الذي عهِدَه الناس في صوتها. يعود هذا الإيقاع الحالم في أغانٍ مثل «شادية» و«ضياع». أما في «سبع صنايع»، و«مر التجني»، و«حويك وزويك» فتبلغ الإيقاعات الإلكترونية ذروتها.
وفق مفهوم ياسمين حمدان، فإنّ العمل الموسيقي حقل اختبار واحتفاليّة لا تصفّق فيها يدٌ واحدة. تُبدي امتنانها لأنّ التحضير للألبوم الجديد جمعها بفنانين ساعدوها على تحويل مشاعرها إلى أغاني، في طليعتهم المنتج مارك كولان؛ مع العلم بأن الشراكة الموسيقية بينهما تعود لسنوات.
أما هي فتقمّصت دور الخيّاطة. تعاملت مع المادة الموسيقية وكأنها أقمشة. قصّت من هنا وحاكت من هناك وكأنها تصنع فساتين. هي فساتين ملوّنة وفق ما تصوّرها ياسمين حمدان، ولا يجب أن يتفاجأ جمهورها إن رآها ترتدي أحدها على المسرح. فوفق المغنّية، زمن «الستايل» الأسود والداكن قد ولّى.
بألبومها الملوّن ستجول ياسمين حمدان على عدد من العواصم الأوروبية والعربية قريباً، حيث تجدّد اللقاء مع جمهور افتقد أسلوبها وإيقاعاتها التي لا تشبه سوى نفسها.