غزة- من مخيم برج البراجنة في لبنان إلى مخيم جباليا في غزة، مرورا بدول عربية، يقترب محمود البسيوني من تحقيق حلمه بالعودة إلى قريته المدمرة “سمسم” داخل فلسطين المحتلة عام 1948.
ولد محمود في برج البراجنة عام 1982 لأسرة هاجرت قسرا من قرية سمسم، التي كانت تتبع قرى وبلدات “قضاء غزة” قبل النكبة، وتبعد عن قطاع غزة نحو 15 كيلومترا، ويقول للجزيرة نت “عودتنا إلى غزة مع تأسيس السلطة الفلسطينية في عام 1994، كانت أولى خطوات العودة إلى ديارنا في سمسم”.
في سبعينيات القرن الماضي التحق والد محمود مقاتلا في صفوف القوات الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، واضطر كغيره إلى مغادرة لبنان نحو ليبيا، إثر الحصار الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية بيروت في عام 1982، وتشتت شمل الأسرة، قبل أن يلتئم مجددا في الجزائر، التي عاش فيها محمود طفولته حتى السادسة عشرة من عمره.
ويرى محمود في هذه التجربة “نكبة صغرى”، ذاقت خلالها الأسرة مرارة الهجرة واللجوء قسرا، وشكلت وعيه المعرفي بالقضية الفلسطينية، ليكبر بذاكرة مشبعة بالكثير من تجارب وحكايات الألم واللجوء الفلسطيني، التي أصبحت مدادا لقلمه، وبوصلة له نحو فلسطين.
ذاكرة الشتات
في قطاع غزة، حيث استقر به الحال في مخيم جباليا أحد أكبر مخميات اللاجئين وأكثرها اكتظاظا، تزوج محمود وأنجب 5 أبناء، 4 من الذكور وابنته الوحيدة “بسملة”، ويقول “حياتي في مخيم جباليا أعادت لي ذاكرتي المشبعة بمشاهد الانتفاضة الكبرى، التي انطلقت شرارتها من هذا المخيم عام 1987، وكنت وقتها طفلا في الجزائر، أتابع أحداثها، وأتمنى لو كنت أحد أطفالها الذين كان يطلق عليهم أطفال الحجارة”.
رسخت الانتفاضة في ذاكرة محمود معالم وطن لم يره قط، وساعدته ملكة الكتابة في ما يسميها “المشاركة الوجدانية” في مقاومة الاحتلال، ليسخر قلمه مبكرا للكتابة شعرا ورواية عن هموم الشعب الفلسطيني المشرد في أصقاع المعمورة، فكتب عن الهجرة والنكبة، وعن حق العودة، ومعاناة اللاجئين، والفصل العنصري الإسرائيلي، والكثير من عناوين سردية الألم والمعاناة الفلسطينية.
محمود ووالده لم يشهدا “سمسم” ولم يعايشا أحداث النكبة الفلسطينية، فوالده من جيل ما بعد النكبة، وهو من أطفال مخيمات اللجوء والشتات خارج فلسطين، ويقول عن ذلك “كنت طوال الوقت أشعر أن المكان ليس مكاني.. مكاني هناك حيث فلسطين، والأطفال الرجال يقاومون المحتل بالحجر والمقلاع”.
قلم نحو فلسطين
تحقق لمحمود ما كان يحلم به بالعودة إلى فلسطين، أو إلى جزء منها، لا يبعد سوى بضعة كيلومترات عن بلدته الأصلية، ويفصله عنها السياج الأمني الإسرائيلي المحيط بالقطاع من الناحيتين الشمالية والشرقية.
ويقول “فاتني قطار الانتفاضة الأولى، فوجدت في القلم سبيلا للتعبير عن نفسي وقضيتي، وعلى مدار أكثر من 20 عاما كتبت في كل شيء يخص فلسطين، شعرا ورواية، فكل فنون الأدب يمكن أن تشكل مقاومة للاحتلال، وبإجادتها يكون تأثيرها يعادل الرصاص. وبالحبر والدم سنبقى نكتب لفلسطين”.
ليس بالضرورة أن نحمل جميعا البندقية، لكن على كل منا أن يقاوم من موقعه، وبما يمتلك من أدوات ومهارات، وفق محمود الذي يضيف “الطريق نحو تحرير فلسطين يمر عبرنا جميعا”.
امتشق محمود قلمه، وكتب في الشعر ديواني “حديث المجدلية” و”أضغاث عتاب”، وفي الرواية كتب “أعجاز حب خاوية” و”وطن”، ومسرحية “حلم العودة” وقام بتجسيد أدوراها أطفال من لاجئي المخيمات في غزة.
في الشعر تناول محمود الغربة الناجمة عن التشتت والهجرة القسرية من فلسطين إبان النكبة، من دون أن ينسى في قصيدته “ماء وملح” معاناة نحو مليون فلسطيني خاضوا تجربة الاعتقال في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967، ولا يزال آلاف منهم يقضون زهرات أعمارهم وراء القضبان، ويتخذون من أمعائهم الخاوية سلاحا للدفاع عن كرامتهم وحريتهم.
وفي ثلاثية “أعجاز حب خاوية”، ركز الجزء الأول منها على سياسة الفصل العنصري التي تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلي وحوّلت الأراضي الفلسطينية إلى “كانتونات” تعزلها الحواجز والجدران، فيما الجزء الثاني الذي يعكف محمود على طباعته بعنوان “بين الكاف والنون” يقارب بين أحداث حصار بيروت في عام 1982، وما شهده حي الشجاعية شرق مدينة غزة من مجازر إسرائيلية خلال الحرب الثالثة على غزة في عام 2014.
الكلمة رصاصة
يقول محمود إن الفلسطيني سفير لقضيته، ينبغي أن يجيد التعبير والدفاع عنها من موقعه، والكلمة لدى المبدع تعادل الرصاصة في بندقية المقاوم، وهي أمانة يجب أن يحرص عليها، ويتفق معه في ذلك صديقه “محمد الشاعر”، ويقول “قديما كانت الكلمة إعلان حرب، تحرك جيوشا، وتندلع بسببها الحروب”.
ويؤمن محمود على حديث صديقه، ويقول “الاحتلال يدرك قيمة الكلمة، ويحارب المبدعين الفلسطينيين في غزة بمنعهم من السفر، ويعرقل وصول كتبهم من الخارج، وهذا ما حدث معي وآخرين، عندما رفض منحنا التصاريح اللازمة للمشاركة في معرض فلسطين الدولي للكتاب في رام الله العام الماضي”.
وقال محمد وهو مدرس لغة عربية، ينحدر من أسرة “الشاعر” اللاجئة من بلدة الفالوجا، وله من اسمها نصيب لموهبته في نظم الشعر “بالكلمة والوحدة الوطنية نقترب أكثر من تحقيق حلمنا بالعودة إلى ديار الآباء والأجداد”.