مسرحية “عن بعد..” للمخرج المغربي مسعود بوحسين شأنها شأن العديد من الأعمال المسرحية المغربية، التي تميزت في السنوات الأخيرة بتوجهها التجريبي وبحثها عن أشكال جديدة لتقديم فرجة مسرحية تتماشى مع متطلبات العصر.
فهي تطرح سؤال التجريب ورهاناته وأساليبه المتنوعة التي تتجلى في توظيف التكنولوجيا المتطورة والانفتاح على مختلف الفنون، والاعتماد على المؤثرات الرقمية والتقنيات السينمائية والتلفزيونية في المسرح، مع الاهتمام بالممثل والكتابة الركحية (منصة المسرح) من خلال الورشات والمختبرات المسرحية، وغيرها من الأمور.
مما جعل المسرح المغربي يتبوأ مكانة مهمة في المشهد المسرحي العربي، ويحصد جوائز تلو الأخرى بالسنوات الأخيرة في “المهرجان العربي للمسرح”، و”مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي”، وغيرها من المظاهرات المسرحية العربية.
بيد أن هاته النتائج الإيجابية والمهمة لا ينظر إليها مجموعة من النقاد المسرحيين المغاربة بعين الرضا، بل يرون فيها مغالاة في التجريب ودراماتورجيا (الإعداد الدرامي) بصرية أكثر من كونها مسرحية لم يتم إخضاعها للنص الدرامي.
وهو ما يضر بالمسرح المغربي برأيهم، لدرجة أن هناك من اعتبر التجريب “تخريبا”، مع العلم أن المسرح المغربي كان منطلقه منذ ستينيات القرن الماضي تجريبيا مع مسرح الهواة، ومسرح الراحل الطيب الصديقي في استلهامه للتراث المغربي كالحلقة والبساط وغيره، ومع مسرحيين آخرين كالراحلين محمد تيمد ومحمد الكغاط، وغيرهما من المسرحيين، الذين كان يسكنهم هاجس التأصيل والتجريب.
لهذا أخذوا على عاتقهم تطوير المسرح المغربي والبحث له عن أشكال فرجوية مغايرة لما هو معروف في المسرح الغربي والعربي، فرجة تستجيب للوجدان المغربي وتخاطب روحه، وهو ما استمر مع المخرجين المسرحيين الشباب في السنوات الأخيرة لدرجة يمكن اعتبار التجريب في المسرح والفنون بشكل عام قضية مركزية ورهانا ثقافيا فرضته التحولات التي عرفها المجتمع المغربي.
“عن بعد..” العزلة ووضع الفنان
قامت فرقة “أثر للثقافة والفن” في الفترة الأخيرة وبمناسبة الموسم المسرحي الجديد بجولة في العديد من المدن المغربية بمسرحية “عن بعد..” المدعومة من طرف مؤسسة “المسرح الوطني محمد الخامس” بالرباط.
وتطرح المسرحية قضية الوحدة والعزلة القاتلة والخوف من المرض، ومن فيروس كورونا (كوفيد-19) ومن تبعات الحجر الصحي الذي تعرض له الإنسان جراءه، وجعله يخضع لإكراهاته الرهيبة قصرا مع ما يطرحه الإنسان من أسئلة وجودية قلقة حول الحياة والصحة والعالم والمصير المجهول.
وذلك برؤية فنية تمزج بين الواقعي والافتراضي، وتعتمد على تقنيات التواصل الحديثة، مثل توظيف الصورة الرقمية والمابينغ فيديو، وتقنيات السينما والتلفزيون، وغيرها من الوسائط والأساليب الحديثة التي فرضها موضوع المسرحية.
فمن خلال شخصية “أمل”، التي تؤديها الفنانة فريدة بوعزاوي، الوحيدة الحاضرة جسدا في المسرحية، المرأة المتزوجة والحامل في شهرها الأول، والتي ظلت حبيسة بيتها وحدها بسبب الحجر الصحي المفروض بعيدة عن زوجها الفنان الموسيقي “نوفل”، الذي يؤديه -عبر مشاهد مسجلة- الفنان أنس العاقل، العالق في عرض البحر على متن باخرة سياحية، كان يشتغل في رحلتها عازفا، والذي يعاني هو الآخر من هذا المرض والعزلة والتوقف عن العمل بسبب هذا الوباء اللعين، الذي لم يكن أحد يعرف متى سينتهي.
وكل هذه المعطيات تم التعرف عليها من خلال التواصل الهاتفي بين الزوجين إما عن طريق التسجيلات الصوتية أو مكالمات مباشرة بالكاميرا، وذلك كان أقصى ما يمكن القيام به، الشيء نفسه مع والدتها الفنانة المشهورة المصابة بألزهايمر الصعبة المراس وسجينة ذكريات الماضي، التي تؤديها عبر مشاهد مصورة ومسموعة الفنانة حسنة طمطوي، والتي ظلت بعيدة عنها برفقة قريبة لها، ولا تتواصلان معها إلا عبر الهاتف.
ومع هذه المعاناة تطفو على السطح مشاكل كثيرة من تعقيدات العلاقات الإنسانية والأسرار المتوارية مثل علاقة الزوجة أمل بزوجها نوفل وخوفهما من الإنجاب، وتحمل مسؤولية طفل لا يعرفان مصيره في هذا العالم المجهول، والتفكير في التخلص منه عبر الإجهاض، لتكتشف أمل في لحظة بوح لوالدتها من أجل أن تدلها على القرار السليم، أنها هي أيضا لم يكن مرغوبا فيها وأنها كانت نتيجة لعلاقة خارج الزواج، التي انتهت بالزواج قبل وفاة الأب إدريس، حيث ظلت الأم تعتني بابنتها الوحيدة.
ولأن الإحساس بالوحدة فظيع للغاية، فقد وجدت “أمل” الممثلة الشابة في وسائل التواصل الاجتماعي الملاذ الحي في الوقت الذي توقفت فيه الحياة على الأرض، وظل البشر معزولين ومحبوسين بين جدران بيوتهم لا يغادرونها إلا لرمي القمامة في الحاويات الكبيرة بالحي، أو بإذن من السلطات التي مارست على المواطنين كل ما لديها من قوة لتزيد من معاناتهم وتفاقم خوفهم من هذا الوباء ومن العزلة القاتلة، لأن “الوحدة هي التي تقتل أكثر من كورونا” كما قالت أمل.
وتنتهي المسرحية بإعلان وفاة السيدة “يزة” بائعة اللؤلؤ، التي كانت تؤنس وحدة “أمل”، والتي أعلنت عن غيابها عبر “الفيسبوك”، لتصلها العديد من الرسائل كان آخرها من صديقتها زوجة عون السلطة التي لا يخفى عليها شيء، والتي ساعدت “أمل” في الحصول على ترخيص بالتنقل لزيارة والدتها، بعدما قررت الاحتفاظ بجنينها، وتحمل كل الصعاب من أجله مثلما فعلت والدتها.
فمن خلال قصة حقيقية للفنانة فريدة بوعزاوي، التي تؤدي شخصية “أمل” وصممت سينوغرافيا وملابس هذا العمل المسرحي، والتي عانت من الوحدة القاتلة في وقت الحجر الصحي وكانت تلجأ للرسم والتمثيل وعرض ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمحاربة السأم والشعور بالوحدة.
واستلهم مخرج ومؤلف المسرحية مسعود بوحسين هذه الواقعة، كما يقول للجزيرة نت، وجعلها منطلقا لأحداث متخيلة تدور حول العزلة الفضائية التي فرضتها الجائحة، وهيمنة وسائل التواصل التي جعلت التواصل الافتراضي أمرا مفروضا بحكم الأمر الواقع.
ومست تلك الفترة أيضا الفن والمسرح على الخصوص، حيث كان الناس يقضون وقتهم ويعيشون عزلتهم بالفن، ولكن في الوقت نفسه يستنكر بعضهم على الفنان حقه في التعويض عن فقدانه للشغل نظرا لكون مهنته تستلزم تجمع الناس حوله، وهذا قد يساهم في انتشار الوباء.
وهذا ما دفع المخرج إلى جعل أبطال مسرحيته فنانين بغية تسليط الضوء على وضع الفنان في ظل الجائحة من وجهة نظر إنسانية، وبالتالي نظرة المجتمع للفن، والتي ما زالت للأسف تنظر إلى الفن كنشاط ثانوي وترف غير ضروري، رغم أنه لا غنى له عنه، ما دام الإنسان لا يعيش على ما هو بيولوجي أو ديني فقط.
فهذه الصورة المفارقة، كما يوضح المخرج، تعيد لأذهان كل مطلع على التاريخ الاجتماعي للفنان “صورته الاجتماعية المزدوجة التي تتراوح ما بين الدور الاجتماعي الضروري الذي نحتاجه ونغدق عليه بالعطايا ساعة اللعب والانشراح والاحتفال، وننساه ساعة الجد وينظر إليه البعض نظرة دينية متزمتة أو براغماتية ساذجة، خصوصا من قبل أولئك الذين يقولون: “لسنا في حاجة إلى فنانين، بل إلى أطباء وعلماء.. متناسين أن الأطباء والعلماء أيضا يستمتعون بالفن أيضا”.
التجريب كتابة وإخراجا
ويضيف بوحسين أن استعماله لتقنيات التواصل الحديثة في المسرحية نابع من مكانتها المهمة في حياتنا اليومية، خاصة في فترة الحجر الصحي. فهذا “الواقع الذي أصبح فيه التواصل الافتراضي المباشر بالصوت أو بالصوت والصورة أمرا جاريا، لم يعد من الواجب فقط أن يكون تقنية مسرحية، بل موضوعا لها أيضا، فوحدة الزمن والمكان في المسرح بمفهومها العام سواء كانت مسرحية كاملة أو فصلا أو لوحة أو مشهدا أصبحت ممكنة. الزمن واحد والأمكنة متعددة، ومشهد واحد على الخشبة أمام الجمهور في زمن واحد وحدث واحد يعاش في أمكنة متعددة. يكفي فقط أن يكون الحدث مبررا والحكاية التي تجسد ذلك ملائمة”.
وفي مسرحية “عن بعد..”، فعامل العزلة التي فرضها الوباء تبرر ذلك، لأنه كما يوضح المخرج مسعود بوحسين، ليست هناك أي وسيلة للتواصل بالحضور الجسدي بل بالوسائط فقط، وهذا يفتح إمكانية التواصل عن بعد ليس بين الشخصيات فقط بل مع الجمهور أيضا، الذي لا يرى سوى شخصية واحدة حية والباقي منقول (أو يمنح الانطباع لذلك) بوسائط عن بعد. وهذا يقرب المسرح أيضا من السينما مع فارق أن الصور تبدو منقولة وليست مسجلة، وحتى إن كانت مسجلة ينبغي أن تعطي الانطباع بعكس ذلك.
وبشأن انخراط المسرحية في التوجه التجريبي، يقول المخرج إن لديه “حساسية مفاهيمية” من استعمال هذا المصطلح في بعض سياقات المسرح العربي، ومنها تجربته الشخصية في أعمال أخرى قدمها. ويقر بأن “هذه المسرحية بالنسبة لي تجريبية في الكتابة والإخراج معا، وهذا ليس معناه أن اعتبارها كذلك يزيد أو ينقص من قيمتها الفنية المرتبطة بحكم المتلقي. فهي تجريبية لكونها تتطلب نوعا خاصا من الكتابة المسرحية يكون فيه ما تحكيه المسرحية يقع في أمكنة مختلفة، وهو أمر مخالف للشكل المعتاد للكتابة في مكان واحد”.
والأحداث التي تقع خارج الخشبة يمكن رؤيتها عن طريق الصورة شرط أن تكون جزءا لا يتجزأ من الحدث، وهذا يتطلب شكلا آخر لمقاربة الحبكة، حيث إن ما هو خارج الخشبة ليس فقط موازيا أو مكملا لما يقع أمام الجمهور بل جزء أساسي منه.
وخارج تقنية استعمال وسائل التواصل، كان هذا يقع بتقسيم فضاء الخشبة إلى فضاءين أو أكثر بالتزامن، مع صعوبة التواصل بين الشخصيات بالتزامن وإلا أصبح التواصل المباشر غير قابل للتصديق مسرحيا إلا في حدود.
وفي هذه الحالة يصعب تبرير هذا التزامن إلا باستعمال الإضاءة بشكل متعاقب بالانتقال من فضاء لآخر وتكرار العملية نفسها. كما أن اختيار ممثل واحد على الخشبة للعب مع شخصيات مفترضة يعد تحديا، لأنه يجب أن نضمن تناسق الفعل مع رد الفعل مع الصور وهذا ليس بالأمر الهين”.
ويؤكد بوحسين أن مسرحية “عن بعد..” مغامرة تجريبية بالنسبة إليه، و”محاولة أولى تفتح أفقا له ولغيره لدمج تقنية تسجيل وبث الصور مع الكائن الحي في المسرح، وهو ما يمكن أن يتطور كقالب تقني للإبداع المسرحي نصا وإخراجا وتمثيلا، ويمكنه أن يوسع إمكانية العرض المسرحي بتزامن حضور الأمكنة في الفضاء المسرحي الواحد أمام الجمهور. وهي منفتحة أيضا على استخدام التكنولوجيا الحديثة في المسرح، علما أن المسرحية أيضا تجريبية لأنها أنجزت بإمكانيات تقنية بسيطة وفي المتناول”.
من الكتابة النصية إلى الكتابة المسرحية
يرتبط التجريب، كما ورد في “معجم المسرح” للناقد المسرحي الفرنسي باتريس بافيس، بالمسرح المعاصر الذي هو نقيض المسرح البورجوازي والتجاري والتقليدي. وكل شكل جديد فهو تجريب بالضرورة ما دام لا يعيد إنتاج القوالب التقليدية نفسها. ويتجسد مفهوم التجريب في المسرح الغربي، وفق بافيس، في كونه عملية منظمة تهدف إلى إحداث تغيير جوهري في الإبداع المسرحي وعلاقته بالجمهور من خلال التركيز على الفضاء المسرحي وما يشمله من سينوغرافيا وممثلين، أو ما يصطلح عليه بـ”أسلبة الفضاء المسرحي”.
والمسرح المغربي كغيره من المسارح العربية، عرف في السنوات الأخيرة تحولا مهما يتجلى في انتقاله من الكتابة النصية المسرحية قبل العرض إلى الكتابة المسرحية الكوريغرافية غير المكتملة، وهي كتابات تأخذ في الاعتبار سيرورة العمل الإبداعي المسرحي.
حيث أصبح المخرجون الشباب بالمغرب، كما تقول الزهراء ماكاش، أستاذة التعليم العالي والباحثة في الدراسات والفنون المسرحية بجامعة ابن زهر بأكادير للجزيرة نت، عن حق “فنانين مسرحيين” و”كتابا على الركح”، يأخذون بالاعتبار هذه “السيرورة ويفعلونها على الركح بطريقة تأخذ فيها العلاقة بالحاضر مكانة خاصة، حيث يوجد بناء درامي للعمل ومشروع كتابة غير مكتمل، يتجدد باستمرار ويخضع للتجريب والتحول، لدرجة يضع فيها المخرج فريق العمل المسرحي (الممثلين، السينوغراف، التقني، المجموعة، الراقصين…) في ورش دائمة”.
وتضيف الباحثة أن المخرجين المسرحيين المغاربة طوروا في السنوات الأخيرة شكلا مسرحيا يمكن نعته بـ”المسرح البصري” يوظف (الضوء والفيديو والكوريغرافيا…)، مع الاحتفاظ طبعا بعمقه الدراماتورجي.
فبعض المشاريع الفنية لا تنطلق من عدم، فالمخرجون يراقبون المحيط الشعبي الذي يعيشون فيه ويشتغلون عليه حتى يتمكنوا من تحويله إلى وجوه مسرحية تستنطق الواقع بكثير من السخرية أو الحزن والرأفة، وتعبر عن الوضعية الإنسانية من دون تهكم أو موعظة أخلاقية. وأغلب تلك المشاريع الفنية تنطلق من فكرة أو موضوع ولا تأخذ في الاعتبار القواعد التقليدية للسرد (أزمة الشخصية، أزمة تبادل الحوار، غياب الحركة)، في حين تظل بعض المشاريع الفنية الأخرى خجولة ومفتقرة إلى العمق.
مسرح تجريبي داخل “منظومة تقليدية”
ومن جهته، يرى الكاتب والناقد المسرحي المغربي سعيد الناجي في كثير من الأبحاث التي قدمها وفي كتابه “التجريب في المسرح” أن المسرح المغربي كان دائما تجريبيا، لأنه “تأسس بتفاعل مع المسرح الأوروبي الذي كان هو بدوره في قمة التجريب منذ انطلاق عصر المخرجين نهاية القرن الـ19، كما أن المسرح المغربي منذ بدايته منح لنفسه دورا سياسيا واجتماعيا فرضا عليه البحث عن لغة مسرحية تناسبه وتناسب إستراتيجيات التواصل مع الجمهور”.
ويوضح الناجي في تصريح للجزيرة نت أن ما نراه اليوم من بحث تجريبي في المسرح هو استمرار لما سبق أولا، وأن ما يميز التجريب الحالي هو أن صانع الفرجة المسرحية الآن يجد أمامه تراكما مسرحيا مغربيا مهما، إذ أصبح المسرح المغربي يمتلك تاريخا للمشاهدة وذاكرة جمالية مليئة بالاقتراحات الأسلوبية والجمالية، لهذا يجد المسرح الحالي نفسه مجبرا على البحث عن لغات وأساليب جديدة.
ولعل ما يجعل ظاهرة التجريب في المسرح المغربي الآن ملحوظة أكثر برأيه، هو أنه يستفيد من انفجار رهيب في وسائط التواصل والتبادل وكثرة المنصات المسرحية من مهرجانات ومسارح وما يواكبها من منصات مواقع التواصل وغيرها. وهذا لم يكن متوفرا سابقا، حيث كانت الفرق المسرحية لا تكاد تجد غير “المهرجان الوطني لمسرح الهواة” منصة للتبادل والتواصل كل سنتين.
ويقول الناجي إن “التجريب في المسرح المغربي الحالي على أهميته لا يزال تجريبيا داخل “منظومة تقليدية”، وهي منظومة العرض المسرحي داخل القاعة. هناك تجارب في مسرح الشارع وأخرى تبحث عن فضاءات مسرحية جديدة، ولكن كل هذه المسارات استهلكها المسرح المغربي سابقا، مثل تقديم المسرح في القاعات وفي الشارع وفي المآثر التاريخية مثل ليلي وغيرها”.
معتبرا أن المسرح المغربي لم يدخل بعد غمار تجارب غير مسبوقة أو غير مستهلكة كثيرا مثل المسرح التسجيلي والمسرح الوثائقي ومسرحة التاريخ من زوايا جديدة والبحث في الفرجات الشعبية واستعادتها مسرحيا بفكر مسرحي جديد. أما من يعتبرون التجريب في المسرح تخريبا فهم، برأيه، كانوا دائما موجودين لرفض أي جديد.
وعلى الرغم من أن التجارب المسرحية الجديدة هي ذات حمولة إخراجية كبيرة وواعدة بصناعة مسرحية رائقة، فإن ما يقلق الناقد والأكاديمي المسرحي سعيد الناجي هو “هوس المخرجين بالتأليف المسرحي لأنفسهم أو المشاركة في كتابة نصوص يخرجونها”.
ويعتقد الناجي “دائما أن من صلب علو كعب الإخراج المسرحي أن يواجه المخرج نصوصا لآخرين، أو لحقب أخرى، أو من لغات أخرى، والجمع بين التأليف والإخراج في تقديري الشخصي ينبغي أن يكون ظرفيا، إنه مثل إجازة يأخذها المخرج لكي يحقق فكرة عرض لم يجد لها نصا، وإلا فمهنة المخرج تلزمه بالبحث عن “فتوحات مسرحية” والفتوحات لا تكون إلا باكتشاف أراض وجغرافيات جديدة وليس البقاء في الحدائق الشخصية”.
التجريب مفهوم ملتبس
أما المخرج مسعود بوحسين رئيس النقابة الوطنية لمهنيي الفنون الدرامية (النقابة المغربية لمحترفي المسرح سابقا)، فيقول للجزيرة نت إن “التجريب مفهوم ملتبس”، والتجريب لا يكون تجريبيا إلا إذا كان له رهان تقني بالمفهوم الفني للكلمة.
لذا فالتجريب، برأيه، “ليس تيارا ولا توجها كما يفهم في السياق العربي والمغربي أحيانا. للتجريب المسرحي نفس منطق التجريب العلمي بمجرد ما تجرب الدواء مثلا يستعمل ويتوقف اعتباره دواء تجريبيا. المسرح الذي ليس له رهان أو فرضية أو احتمال أو إمكانية مسبقة ليس سوى التماس عذر مسبق لفشل فني. في حالة التجريب الحقيقي حتى في حالة تواضع النتيجة فنيا، هناك قوة للفكرة التقنية، لأن الرهان هو تقديم قالب قابل لإعادة الاستعمال بأشكال فردية مختلفة حتى من قبل المجرب نفسه”.
ويؤكد بوحسين أن من خصائص المسرح المغربي المهمة أنه متعدد ومنفتح، حتى فيما يتعلق بفنان مسرحي واحد. لهذا، فنحن، كما يقول: “لسنا في حاجة إلى إعادة نفس النسق التاريخي للمسرح الغربي بشكل مفتعل كما يذهب لذلك بعض منظرينا.
المسرح المغربي والعربي لم يعرف الكلاسيكية ولا الرومانسية ولا الواقعية ولا الطبيعية ولا غيرها، فالمسرح المغربي ولد في زمن تلاشت فيه المعيارية في المسرح الغربي نفسه. ولذا فاستعمال التقنيات الحديثة في المسرح ليس بديلا عن إمكانيات أخرى.
كما أن فكرة أن توجها ما يلغي ما سبق ما هو إلا مجرد وهم فهم للمسرح الغربي نفسه، ووهم في ذهن الناقد أو الباحث المسرحي أو الفنان الذي يعتقد ذلك، لأن التجديد إضافة وليس بديلا، وللفن منطق تراكمي للقيم الفنية وليس تجاوزيا، ومثلما يتقدم المسرح نحو التكنلوجيا هناك مسرح آخر يعود لأصل الإنسان أيضا (المسرح الفقير مثلا). لذا فالمسرح في جدال وتنوع، وآفاقه مفتوحة على فردانية المبدع ومزاجه، والشيء بالنسبة إلى جمهور المسرح. والحمد لله أن المسرح المغربي له هذا المعتقد الصامت”.
الميديا قدر يهدد المسرح
وعن توظيف التقنيات الحديثة الأقرب من السينما والتلفزيون والمؤثرات والانفتاح على الفنون الأخرى في المسرح، يقول سعيد الناجي للجزيرة نت إن الميديا أصبحت قدرا للمسرح، إذا أراد أن يؤسس للغة وأسلوب جديدين، وأهميتها الآن تكمن في كونها تسمح بالانزياح عن المنجز المسرحي السابق وابتكار منجزات إخراجية جديدة، مشيرا إلى أن “المسرح الجامعي في المغرب بما استضافه من مسارح عالمية فتح وعي الشباب المسرحي على ضرورة تجديد لغته المسرحية واكتشاف غواية الميديا والوسائط.
ولكنها تتضمن تحديا كبيرا يهدد المسرح في العمق. فبقدر ما أن استثمارها في المسرح ضرورة، فإن الميديا بكل أشكالها هي من الوسائط القاتلة للمسرح، ولا بد من هضمها على خشبة المسرح من أجل الانتصار عليها. ولكنها مع التكرار والتمكن منها واستسهال استعمالها قد تهيمن على المسرح وتحوله إلى إنجاز رقمي لا غير.
ولقد شاهدت مسرحيات أغرقت في التأثيرات الرقمية والضوئية حتى تحولت إلى ما يشبه المسرح وليس المسرح نفسه، والخطير أن الإنجاز الرقمي على المسرح يبهر ويسحب الجمهور عنده (لأنه جمهور وسائط وشاشات أصلا) حتى يعتقد المسرحي أنه بصدد تحقيق إنجازات مسرحية حقيقية فيما هو يدور في حلقة مفرغة”.
ومن جهتها، تفيد الباحثة المسرحية الزهراء ماكاش أن الكتابة المسرحية المغربية (باللغتين العربية والأمازيغية) بدأت الآن في العودة إلى الركح واللعب والعروض الفنية فوق الخشية، حيث أصبح النص، الذي كان يحتل إلى وقت قريب مكانة مركزية في العملية المسرحية، مجرد عنصر من ضمن عناصر أخرى تصنع الفرجة، حيث استوعب بعض الكتاب المسرحيين الشباب أن الكتابة الدرامية يجب أن تكون قبل كل شيء “لغة لعب” أو لغة “مسرح”، وهو ما يبعدهم عن النمطية ويجعلهم منفتحين على الأشكال الفنية الأخرى، كالفنون التشكيلية والبصرية والموسيقية والكوريغرافية والتكنولوجية، ويفضلون العمل المسرحي على شكل ورشة أو مختبر، وهو ما يجد مبررا له في الطريقة التي تصنع بها النصوص المسرحية.
وتخلص ماكاش إلى أن “المسرح التجريبي أو “المسرح الفني” هو إحدى نقاط قوة المسرح المغربي في السنوات الأخيرة، لأن مجموعة من المخرجين المسرحيين المغاربة مقتنعون بأن الإخراج المسرحي هو الكتابة، وأن تكون مخرجا مسرحيا هو أن تكون في قلب الكتابة: كتابة المعنى وكتابة المسرحية. إنهم لا يكتبون فقط من أجل الركح، بل يكتبون بالركح نفسه وبالأجساد وبالفضاء الزمكاني، وما تفعله الأجساد في هذا الفضاء. فمع هذا الجيل الجديد نشهد بحثا عن لغة مسرحية جديدة، وعن مسرحة مختلفة للعمل وعن تفكير حقيقي وفعلي في الممارسة المسرحية”.
التجريب والدعم المسرحي
ولأن المسرح المغربي ظل رهين الدعم المسرحي الذي شرعت فيه وزارة الثقافة المغربية منذ عام 1998، والذي رغم إيجابياته في ضمان وتيرة إنتاجية مسرحية خلال السنة، فإن الفرق المسرحية لم تتمكن بعد من خلق مؤسسات مسرحية بعيدة عن سياسة الدعم وآليته، مما يجعل هذا الدعم “عبئا على المسرحيين المجتهدين والجادين، وفرصة بالنسبة إلى الكسالى”، كما يقول سعيد الناجي.
لهذا دعا، باعتباره أحد أكثر متابعي المسرح المغربي منذ انطلاق الدعم المسرحي مع وزير الثقافة محمد الأشعري، إلى تجريب صيغ إنتاج جديدة، منها الإنتاج المسرحي والإنتاج المشترك عبر وزارة الثقافة أو عبر مسارح أو فرق جهوية أو مسارح وطنية.
وهذا بالطبع، كما يوضح، “لا يبخس الدعم المسرحي الحالي حقه، فهو إنجاز ضخم ومهم وينبغي أن يستمر، ولكن من خلال مستويات متعددة تترك الدعم الحالي للشباب والفرق الجديدة، وتقترح صيغا جديدة تحترم الفنان المسرحي وتجربته وسنه ومساهماته وتاريخه”.
ويتساءل المخرج مسعود بوحسين: هل هناك مسرح لا يرتهن ولو جزئيا للدعم؟ ويقول إن الإغريق أنفسهم الذين اكتشفوه كانوا يدعمونه، كما أن كل الدول تدعم المسرح والفن عموما بأشكال مختلفة وحسب أنظمتها الاقتصادية، وهناك اتفاقيات أممية حول هذا الشأن، غير أن السؤال الأهم هو: كيف يقدم هذا الدعم؟ ومن المستهدف منه؟ وما المردودية الثقافية على المستوى الاجتماعي والتنموي وليس الاقتصادي حصرا؟
ويخلص بوحسين إلى أن “المسرح المغربي يتطور ولكن في أفق محدود، أي في دائرة المسرح نفسه ولكن ليس في إطار ثقافي اجتماعي واسع، وهذا هو أحد الأدوار التي ينبغي أن يلعبها الدعم حينما يُنظر إليه على أنه موجه للجمهور وليس للمسرحيين أنفسهم. فمجرد فهم وتمثل الفكرة والإيمان بها ستجعلنا نمزق كل القوانين ودفاتر التحملات ونستبدلها بأخرى تجعل المواطن هو محور السياسات الثقافية للدولة وليس الفنان والمثقف في حد ذاته”.