في قاعة هادئة بمباني الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك في 16 يوليو/تموز 1963، اعتلت المنصة امرأة أفريقية صغيرة الجسد، وقفت تتأمل الحضور للحظات قبل أن تبتدر حديثها قائلة:

يقول الناس إنني أغني سياسة، لكن ما أغنيه ليس سياسة، بل هو الحقيقة

وبصوت هادئ، مع توقفات متكررة متوترة، قالت “في الأشهر الأخيرة سُجن حوالي 5 آلاف شخص في بلادي، جنوب أفريقيا. من بين الذين سُجنوا واحتجزوا العديد من قادتنا البارزين، بمن فيهم الزعيم أ. ج. لوتولي، وروبرت سوبوكوي، ونيلسون مانديلا، والسيدة ليليان نغويي، وفي الأسبوع الماضي فقط، السيد والتر سيسولو. يجب إطلاق سراح هؤلاء الأشخاص فورا. أنا على يقين من أن أحدا لا يستطيع تحرير شعبه وهو في زنزانة سجن أو معسكر اعتقال”.

Miriam Makeba Addresses the UN Special Committee on Apartheid | March 1964

ثم نظرت في أعين مندوبي الدول وكررت بصوت مملوء بالوجع : “أنا لست سياسية، أنا مجرد إنسانة، لكنني لا أستطيع أن أبقى صامتة حين أرى الظلم”.

وأضافت “لقد حوّلت حكومة هندريك فيروورد بلدي إلى سجن ضخم. أنا على يقين من أن الوقت قد حان للبشرية جمعاء أن تهتف: قفوا، وأن تتحرك بحزم لمنع هؤلاء الحكام المجانين من جرّ بلدنا إلى كارثة مروعة”.

كانت تلك ميريام ماكيبا، حضرت إلى مباني الجمعية العامة للأمم المتحدة بدعوة رسمية لتقديم شهادتها كفنانة من جنوب أفريقيا مناهضة لسياسة الفصل العنصري، ولتقديم شهادتها حول معاناة الشعب الجنوب أفريقي تحت نظام الأبارتايد.

حكت بعد ذلك عن وطنها، حيث القوانين العنصرية تسلب السود أبسط حقوقهم، مثل حق التنقل والتعليم والعيش بكرامة. قالت: “لا أستطيع أن أغني عن الحب، بينما شعبي يُقتل فقط لأن بشرته سوداء”.

بكلماتها الصادقة، مزّقت صمت جدران قاعة الجمعية العامة، لم تتحدث عن نفسها، تحدثت عن شعبها الذي كان يُجلد كل يوم بسياط العنصرية. لم تطلب تعاطفا، بل طالبت بالعدل. ناشدت العالم أن يقاطع النظام العنصري، أن يفرض عقوبات على حكومة تسرق الحرية من ملايين الناس، قالت: “الأبارتايد ليس جرحا في جنوب أفريقيا فقط، بل وصمة على جبين الإنسانية كلها”.

إعلان

كان خطابها لحظة فارقة، لم تكن مجرد شهادة فنانة، بل صرخة ضمير جعلت التصفيق لها يعلو في جنبات مبنى الجمعية العامة للأمم المتحدة على نحو متكرر.

بعد انتفاضة سويتو عام 1976، خاطبت ماكيبا الأمم المتحدة مرتين أخريين. وهذا أمرٌ لافتٌ لشخصٍ ادّعى ذات مرة أنه لا “يُغني السياسة”.

من تلك الجلسة، بدأت موجة جديدة من التضامن العالمي، نجحت دعوة ماكيبا التي كانت امتدادا لدعوة الأسقف الإنجليزي الأنجليكاني تريفور هدليستون عام 1954 لمقاطعة نظام الفصل العنصري ثقافيا، لتصدر الأمم المتحدة بعد 5 أعوام من خطاب ماكيبا، قرارا يدعو الدول الأعضاء إلى قطع جميع “الروابط الثقافية أو التعليمية أو الرياضية” مع حكومة بريتوريا.

شكل نجاح المقاطعة دوليا ضغطا متزايدا على الفنانين والموسيقيين العالميين بعدم التعامل مع مؤسسات النظام العنصري أو المشاركة في فعاليات تقام على أراضيه. وبحلول عام 1980، دعمت الأمم المتحدة بشكل رسمي مبدأ المقاطعة الثقافية، مانحة شرعية دولية لأي مقاطعة تُفرض على النظام باعتبارها أداة مقاومة سلمية في وجه التمييز العنصري.

الأشهر الستة الأولى من حياتها في السجن

في عام 1932 وسط أنين شعوب جنوب أفريقيا تحت نير الاستعمار وقيود الفصل العنصري، ولدت فتاة سوداء تُدعى أوزنزيل أو زينزي ويعني في لغة الزولو “لا تلومن إلا نفسك”، في مدينة جوهانسبورغ بجنوب أفريقيا، لعائلة بسيطة تنتمي إلى قبائل الهوسا المعروفة. طفولتها لم تكن سهلة، فعندما وُلدت كانت مريضة للغاية لدرجة أن والدها قضى أول يومين من حياتها يدعو لها بالشفاء، وما إن شُفيت حتى سُجنت والدتها بتهمة تخمير البيرة التقليدية، وهكذا أمضت ميريام ماكيبا الأشهر الستة الأولى من حياتها في السجن مع والدتها.

لكنها قدمت للعالم صوتا مختلفا، صوتا يأتي من قلب سليم، صوتا قادما من باطن الأرض الأفريقية ليتحوّل إلى نشيد أممي للنضال، والحب، والانتماء، كانت تلك الطفلة “زينزي” المغنية الأسطورة ميريام ماكيبا أو “ماما أفريكا” أيقونة النضال ضد سياسات الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

البداية وأشهر الأغنيات

بدأت ماكيبا الغناء في الخمسينيات ضمن فرقة “الأخوة مانهاتن” التي مزجت بين الجاز الأميركي والموسيقى الأفريقية التقليدية، قبل أن تؤسس لاحقا فرقتها الخاصة، لكن صوتها الحقيقي وُلد مع أغنيتها الشهيرة “باتا باتا” التي تحوّلت لاحقا إلى أنشودة عالمية رغم أنها بلهجة الهوسا المحلية.

غنت ماكيبا بلغات محلية وعالمية مثل الزولو والهوسا والسوتو والسواحلية والإنجليزية والفرنسية، لكن الأهم أنها كانت تُغني من قلب مفعم بقضية بلادها وشعبها.

أشهر أغنياتها المرتبطة بمقاومة الأبارتايد أغنية “سويتو بلوز” التي كتبها زوجها الموسيقي الجنوب أفريقي الشهير هيو ماسيكيلا، بعد مجزرة سويتو عام 1976 التي تحكي عن قمع الشرطة لطلاب سويتو الذين خرجوا يحتجون على فرض اللغة الأفريكانية في التعليم.

“Qongqothwane” من أغاني قبائل الهوسا التقليدية التي تُغنى بطريقة نقرات اللسان في أعلى وأسفل التجويف الفمي، والأغنية في الأصل أغنية زفاف وغنتها ماكيبا للفت الانتباه للثقافة الأفريقية وقمع السلطة لها.

إعلان

“نكوسي سيكليل أفريكا”، الترنيمة الدينية الشهيرة للقس إينوك سونتونغا التي تعني يارب بارك أفريقيا، غنتها ماكيبا وأصبحت لاحقا نشيدا وطنيا لحركات التحرر في أفريقيا الجنوبية وحظرته سلطات الأبارتايد.

أغنية “A Luta Continua” وتعني النضال مستمرا باللغة البرتغالية وغنتها دعما لحركات التحرر في موزمبيق وأنغولا.

“Malaika”أغنية رومانسية سواحيلية، ليست سياسية مباشرة، لكنها أصبحت رمزا للهوية الثقافية الأفريقية في وجه الاستعمار وتعتبر من أشهر أغنياتها.

شاركت ماكيبا ضمن المقاومة الثقافية في جنوب أفريقيا في إحياء التظاهرات الثقافية ضد سياسات الفصل العنصري منذ قانون المناطق المقفولة وتدمير مستوطنة صوفيا تاون التي غنت لها “صوفياتاون إز غون”. غنت أيضا من ألحان المغنية الجنوب أفريقية دوروثي ماسوكا أغنية “لومومبا”، في إشارة إلى اغتيال الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا.

أيضا غنت احتجاجا على مذبحة شاربفيل عندما فتحت الشرطة النار على حشد سلمي يضم نحو 5 آلاف مواطن تجمعوا أمام مركز الشرطة في بلدة شاربفيل، استجابة لدعوة من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وكانت النتيجة نفيها من البلاد مع عدد من الموسيقيين، منهم هيو ماسيكيلا، وعبد الله إبراهيم، وجوناس غوانغوا وآخرون.

ماكيبا والشهرة في بلاد الأحلام

عندما وصلت ماكيبا إلى الولايات المتحدة، ابتعدت عن السياسة. انطلقت مسيرتها الموسيقية، وكوّنت علاقات وطيدة ودائمة مع شخصيات مثل بواتييه ومارلون براندو ومارتن لوثر كينغ. كانت علاقتها بنينا سيمون وثيقة للغاية.

بعد أقل من يومين، وجدت ماكيبا نفسها في إستوديوهات “إن بي سي” في لوس أنجلوس تحاول مواكبة ثرثرة خبيرة التجميل المتواصلة في برنامج ستيف ألين: “لا تقلقي بشأن أي شيء يا عزيزتي، ستكونين رائعة. لا تفكري حتى في هؤلاء الـ 60 مليون شخص الذين سيشاهدونك”.

“كم عددهم؟” سألت ماكيبا بدهشة.

وعندما قدّمها ألين، تقول ماكيبا إن المذيع “رفعني عاليا حتى لا أسقط من الخوف، لحسن الحظ، منعتني الأضواء الساطعة من رؤية الجمهور، فتخيلت أنني أغني لوالدتي كريستينا وابنتي بونجي في جنوب أفريقيا”.

يقول نيك دال الصحفي والمؤلف المقيم بجنوب أفريقيا “بعد بضعة أيام، بدأت ماكيبا جولة موسيقية لمدة 4 أسابيع في نادي الجاز العريق في نيويورك، فيليج فانغارد. قبل أول عرض لها، رتب لها بيلافونتي تصفيف شعرها في هارلم. بعد أن أمضى مصفف الشعر ساعات في فرد شعرها، أصبحت ماكيبا “تخشى النظر في المرآة”.

عندما عادت إلى فندقها وشاهدت ما حدث لها، انفجرت بالبكاء. وكما كتبت في سيرتها الذاتية الأولى: “هذه ليست أنا. أضع رأسي في الماء الساخن وأغسله باستمرار. لستُ من محبي الأناقة. أنا فقط على طبيعتي”.

انتقلت ماكيبا في عام 1960 إلى نيويورك وحين حاولت العودة إلى حضور جنازة والدتها، وجدت أن جواز سفرها قد أُلغي ومنعت من دخول البلاد، لذلك أصبحت في حال نفي رسمي من قبل حكومة الفصل العنصري.

لاحقا وفي 1968 وبعد زواجها بالناشط الأميركي الراديكالي ستوكلي كارمايكل (القائد في حركة البانثرز السود)، واجهت مشاكل في الحصول على تأشيرة دخول للولايات المتحدة، فانتقلت مع زوجها إلى غينيا حيث استقرّا هناك. عاشت ماكيبا في غينيا ما يقرب من 14 عاما، وخلال هذه الفترة بنت مسيرة فنية ثالثة في جميع أنحاء أفريقيا (باستثناء موطنها جنوب أفريقيا) وأوروبا.

بعد وفاة الرئيس الغيني سيكوي توريه أواخر الثمانينات ومع حالة عدم الاستقرار في غينيا منتصف ثمانينيات القرن الـ20، انتقلت إلى الإقامة في ضاحية ببروكسل في بلجيكا، وتابعت نشاطها الفني والسياسي من أوروبا.

إعلان

عاشت ماكيبا في الخارج منفية أكثر من 30 عاما حتى عادت أخيرا بعد الاستقلال في العاشر من يونيو/حزيران 1990، بعد أن رفع الرئيس نيلسون مانديلا الحظر عن اسمها وطلب منها الحضور للبلاد والغناء لشعبها.

يستطرد الصحفي نيك دال “بعد أن شقت ماكيبا طريقها وسط الحشود المُعجبة في المطار، توجهت مباشرة إلى مقبرة نانسفيلد في سويتو. توفيت والدتها عام 1960، بينما كانت ماكيبا في نيويورك. لم تتمكن من العودة إلى الوطن لأن حكومة جنوب أفريقيا ألغت جواز سفرها”.

تقول ماكيبا “جلست على قبر أمي وبكيت. كنت كطفل رضيع يجلس في حضن أمه يطلب المغفرة. قلت: آسفة يا أمي. لم أتمكن من رؤيتك عندما نقلوك إلى مثواك الأخير. أنا آسفة لأنني لم أرك عندما مت. لكن الآن يا أمي، أنا هنا. لقد عدتُ إلى الوطن”.

ميريام ماكيبا حرة في الجزائر

بصوتها الرافض للعنصرية وسياسات الأبارتايد، وبسبب نشاطها الفني والسياسي ذلك، تعرضت للحظر في جنوب أفريقيا، حيث حُرمت من جنسيتها، ونُفيت خارج البلاد، ومنعت من العودة إليها.

في المقابل، فتحت العديد من الدول ذراعيها لميريام ماكيبا، منها غينيا وغانا والجزائر وبلجيكا، التي منحتها جنسيتها وحقوق المواطنة كاملة. وكانت الجزائر واحدة من تلك الدول التي دعمتها على نحو خاص، حيث دعاها الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين في عام 1972 لإحياء احتفالات استقلال الجزائر.

خلال هذه الاحتفالات، أنشدت ماكيبا أول أغنية لها باللغة العربية من كلمات الفنان الجزائري مصطفى تومي بعنوان “أنا حرة في الجزائر” تعبيرا عن تضامنها مع نضال الشعب الجزائري:

أنا حرة في الجزائر انتهى عصر العبيد

أنا حرة في الجزائر وطني الأم السعيد

وطني المفدى الطاهر أنا حرة في الجزائر

كان هذا الأداء شهادة على امتداد صوتها الحر من جنوب أفريقيا إلى قلب القارة الأفريقية، مجسدة روح المقاومة والتحرر.

الرقصة مستمرة وإن غابت صاحبتها

في ليلة التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني 2008، وعلى خشبة مسرح صغير في مدينة كاسيرتا الإيطالية، وقف الزمن يشهد آخر همسة من قلب أفريقي ظل يخفق بالحرية والنضال طوال عمره، كانت ميريام ماكيبا، سيدة الطرب الأفريقي وصوت المقاومة في وجه الفصل العنصري، هناك ليست ضيفة شرف، بل امرأة جاءت لتغني من أجل الحياة ضد الموت، في حفلٍ خيريٍ مخصص لمحاربة الجريمة المنظمة في إيطاليا.

كانت المسرح يضج بالتصفيق، وهي تمسك الميكروفون كما تمسكت بقضية وطنها لعقود، وتبتسم تلك الابتسامة التي خبأت خلفها مرارة النفي وحنين الأعوام الـ30 خارج جنوب أفريقيا.

تتمايل بخفة برغم سنواتها الـ76 وترفع يدها كأنها تودع كل من غنت لأجلهم في السجون والمنافي، غنت لهم تلك الأغنية التي غنتها أول مرة وهي صبية يافعة، كأنشودة فرح وحرية، تنطلق من قلب سويتو إلى كل أصقاع الأرض. وحين وصلت إلى المقطع الأخير، من أغنيتها “باتا باتا” (لمسة لمسة) بدا أن الروح نفسها كانت تستعدّ لرقصتها الأخيرة. خطواتها تباطأت، أنفاسها ارتبكت، لكنها أكملت رغم كل شيء ليخرج صوتها صاخبا كما إيقاعات الطبول الأفريقية:

هذا كل شيء يا سيدتي

هذه باتا باتا

باتا باتا هو اسم الرقصة

نؤديها في طريق جوهانسبورغ

ثم، وكما يليق بأسطورة، سقطت بهدوء، بين الكلمات والموسيقى، كما لو أن جسدها قرر أن تكون كلمة جوهانسبورغ المقطع الختامي، ماتت ميريام ماكيبا وهي تغني لتظل الرقصة مستمرة، وإن غابت صاحبتها.

شاركها.
Exit mobile version