تعتبر العربية أول لغة مكتوبة عرفتها منطقة غرب أفريقيا التي تضم حاليا 15 دولة، وقد سعى الاستعمار جاهدا لطمس العربية وإحلال لغاته مكانها ونشر المسيحية مستغلا القوة العسكرية، ورغم ذلك ظلت حاضرة وهي اليوم تسعى لاستعادة مكانتها شيئا فشيئا.
وتُعرف منطقة غرب أفريقيا قديما بأرض السودان الغربي أو بلاد جنوب الصحراء، ومنذ العهد الاستعماري عرفت أيضا باسم أفريقيا الغربية الفرنسية نظرا لهيمنة الاستعمار الفرنسي عليها.
وتضم المنطقة 15 دولة؛ وهي السنغال والرأس الأخضر وغينيا كوناكري وغينيا بيساو وغامبيا ومالي وبوركينافاسو والنيجر ونيجيريا وساحل العاج والتوغو وسيراليون وليبيريا وغانا، وتحدها من الشمال دول المغرب العربي موريتانيا والجزائر وليبيا، ومن الغرب المحيط الأطلسي، ومن الجنوب خليج غينيا، ومن الشرق الكاميرون وتشاد.
دخول عربي مبكر
دخلت اللغة العربية غرب أفريقيا من الشمال وتحديدا من منطقة المغرب العربي المجاورة لها مع دخول الإسلام في منتصف القرن الهجري الأول، كما يقول مصطفى أنجاي الدكتور في الدراسات الإسلامية والأستاذ بجامعة الساحل وهي أول جامعة عربية في مالي.
ويضيف أنجاي في حديثه للجزيرة نت أن المصادر التاريخية تشير إلى أن القائد المسلم عقبة بن نافع الفهري فاتح أفريقيا بعد تأسيسه لمدينة القيروان سنة 50 من الهجرة، اتجه جنوبا حتى دخل منطقة الساحل، فكانت تلك بداية دخول الإسلام واللغة العربية إلى منطقة غرب أفريقيا.
أما الدكتور كبا عمران أستاذ الحضارة العربية وعميد كلية الآداب وعلوم اللغة في جامعة لانسانا كونتي بغينيا، فاعتبر في معلومات أدلى بها للجزيرة نت أن قبائل صنهاجة مثلوا نواة حملة الإسلام إلى غرب أفريقيا، حيث إن 12 ألفا منهم أسلموا على يد الفاتح موسى بن نصير مطلع القرن الثاني الهجري.
وكانت تلك القبائل تنتشر من أقصى شمال الصحراء إلى قرب “نهر صنهاجة” الذي حرفه الأوروبيون في القرن الـ15 الميلادي إلى نهر السنغال، بحسب عمران.
وبدوره، يقول البروفيسور دوكوري ماسيري منصور الرئيس المكلف بقسم اللغة العربية في جامعة بونودكو في ساحل العاج، في تصريحات خاصة بالجزيرة نت، إن العربية دخلت شمال ساحل العاج من غينيا ومالي، إذ كانت تلك المنطقة كلها تحت حكم إمبراطورية الماندينغ، وبلغت اللغة حينها أوج تطورها ومكانتها في المنطقة.
تجار ينشرون العربية
ويقول الدكتور وليلاي كندو عميد كلية علوم التربية وأستاذ الدراسات العربية واللغات الشرقية بجامعة جوزيف كي- زربو في واغادوغو، إن انتشار اللغة العربية في بوركينا فاسو كان على يد بعض التجار المتأسّين بالمرابطين.
ويضيف أن تجارا من مالي وغانا وبوركينا فاسو نشروا اللغة العربية وتعاليم الإسلام بين السكان الأصليين الذين كانوا يدينون بالوثنية، علّموهم بعض الأدعية الخاصة، كما أخذوا يطلعون ملوك المنطقة على أهمية الإسلام من حيث هو نظام حياة ومصدر قوة يمكن أن تساعدهم في دعم نفوذهم السياسي.
أما إدريس منتاري أستاذ اللغة العربية في غانا فيرى أن العربية دخلت غانا مبكرا، لكن انتشارها كان بفضل التجار والعلماء المهاجرين إلى البلاد بعد تفكك دولتي مالي وصنغاي.
ويقول رئيس اتحاد مسلمي التوغو أوكيبغو سيد محمد إن العربية وصلت بلاد التوغو عبر تجار ودعاة من مالي وبنين وغانا، وكانت لغة الثقافة والمعاملات، لكن الاستعمار حاربها فأصبحت لغة الدين فحسب.
ويعتبر الدكتور كبا عمران، أن الهجرات العربية إلى منطقة غرب أفريقيا لعبت دورا كبيرا في نشر اللغة العربية، حيث هاجرت قبائل بني هلال من شمال أفريقيا إلى صحراء النيجر ومالي كما هاجر العرب البرابيش إلى “تاودني” على حدود مالي بموريتانيا، في القرن الثامن الهجري.
وفي تاريخ العبيديين أن أبا يزيد الخارجي ولد في “غاو” شمال مالي سنة 272هـ، وخلال عودته من رحلة الحج، اصطحب ملك مملكة منسا موسى معه كثيرا من العلماء العرب كأبي إسحاق إبراهيم الساحلي وعبد الرحمن التميمي وغيرهما، فأقاموا في مـالي حتـى الوفاة.
وأشار ابن بطوطة في رحلته للمنطقة إلى وجود عرب في مالي، وقد لاحظ الرحالة الأوروبيون سنة (1455م- 860هـ) شـيوخا برابـرة وعربا من تلمسان في قصور ملوك كاجور وغولوف وسالوم، يصحبون الأمراء ويعلمونهم.
لغة الدين والسياسة
ويعتبر كندو أن العامل الديني يعد أهم الحوافز على العناية بالعربية لدى المسلمين في أفريقيا الغربية، فالعربية بالنسبة لهم لغة مقدسة لكونها لغة القرآن الكريم ولغة الشعائر الإسلامية، فتؤدى بها الصلاة، وهي في نظرهم لغة الفكر والحضارة، وليست خاصة بجنس أو شعب معّين، وإنما بالأمة الإسلامية على اختلاف شعوبها.
ويؤكد أنه لا سبيل للتعمق في الفقه الإسلامي والاطلاع على المصنفات والمسانيد والمتون الإسلامية الكبرى إلا بمعرفة العربية، لكنه يرى أن العامل الديني ليس العامل الوحيد في المنطقة للاهتمام باللغة العربية، بل إنها مثلت عامل تلاحم وتضامن بين المسلمين في منطقة السودان الغربي.
كما يوجد أيضا عامل سياسي للاهتمام بالعربية؛ إذ اعتنى بها ملوك غرب أفريقيا لكونها أّول لغة مكتوبة شائعة الانتشار في المنطقة، فكانت وسيلة المراسلات والوثائق الإدارية، وقد أدى ذلك إلى اعتناق كثير من هؤلاء الملوك للإسلام للاستفادة مما كان يمتاز به فقهاء المسلمين من سلطة روحية على عامة المسلمين.
ويقول أنجاي إن الرحالة الفرنسي رينيه كاييه الذي زار المنطقة في النصف الأول من القرن الـ19 وثّق أن كل أطفال المدن التي زارها يستطيعون القراءة والكتابة باللغة العربيّة.
واستطاع الدكتور كبا عمران مؤلف كتاب “الشعر العربي في الغرب الأفريقي” وأحد المشاركين في تأليف معجم البابطين لشعراء العربية إحصاء 336 شاعرا عربيا في منطقة غرب أفريقيا.
الاستعمار والحرب على العربية
وظلت اللغة العربية تحتل مكانة مرموقة في غرب أفريقيا حتى دخول الاستعمار الفرنسي، الذي سعى إلى طمسها وتعطيل مضمونها الحضاري الإسلامي في المنطقة بغية إحلال الفرنسية ومضمونها الحضاري الغربي محلها.
ومن المهم ذكره، أن حاملي الثّقافة الإسلاميّة في غرب أفريقيا كانوا أول من وقف في وجه الاستعمار مثل الشيخ عمر الفوتي والإمام ساموري تورى والإمام محمد الأمين درامي، وقد حمل ذلك الإدارة الاستعماريّة على محاربة اللغة العربية.
ويوضح الدكتور أنجاي أنه يمكن الاستدلال على حالة الصراع الثقافي الذي خاضه المستعمر مع الإسلام واللغة العربيّة بما قاله الحاكم العام للمستعمرات الفرنسيّة في أفريقيا الغربية فيديرب، في إحدى رسائله إلى وزير البحرية الفرنسي “نحن مقهورون من كل جانب بسبب الإسلام”.
واعتبر هذا الحاكم التعليم والتربية أهم وسيلة تمكين للمستعمر، واستصدر بتاريخ 22 يونيو/حزيران 1857 قرارا يتضمن بنودا لمضايقة التعليم العربي الإسلامي.
ويعتبر منصور أن هناك أسبابا اقتصادية وراء حرب الاستعمار على العربية؛ فقد أراد قطع العلاقات التجارية بين أفريقيا والمشرق العربي وتوجيه الأفارقة للتجارة مع الغرب، ولأن العربية كانت تربط بين التجار الأفارقة والشرق حاربها المستعمرون بكل ما أوتوا من قوة، وقتلوا المدرسين العربيين ونفوا بعضهم لبلدان أخرى غير مسلمة كالغابون والكونغو.
العربية سلاح مقاومة
يرى الدكتور كندو أن اللغة العربية مثلت في غرب أفريقيا سلاحا لمحاربة الاستعمار الغربي، الذي اعتبر -من جانبه- العربية والإسلام عدوه الأول في المنطقة، لذلك مهّد لدخوله بحملات التبشير بالمسيحية، بل إن بعض منظّري الاستعمار الغربي طالب بدعم الوثنية في المنطقة للتصدي بها للغة العربية والمشتغلين بها.
ويقول منصور إن ساحل العاج أخذت قسطا وافرا من الحرب على العربية وأهلها، حيث قام المستعمر بتعليم وتكوين غير المسلمين ومكّنهم من زمام الأمور في البلاد وأعطاهم الأفضلية، بهدف طمس اللغة ومحو وجودها في البلاد، لكن المسلمين في ساحل العاج صمدوا وأفتوا بتحريم تعلم اللغة الفرنسية.
ويوضح منتاري أن الاستعمار في غانا حاول تدمير العربية والإسلام في المنطقة من خلال فتح المدارس التنصيرية وفرض التعلم فيها على الناس، لكنه لم ينجح أبدا في شمال البلاد، الأمر الذي سبّب تخلّف منطقة الشمال مقارنة مع الجنوب حيث يكثر المرتبطون بالاستعمار دينًا وثقافة.
فرض الفرنسية
وأمام حالة الاستعصاء والمقاطعة التي واجه بها السكان الثقافة الاستعمارية، يقول الدارسون إن الفرنسيين احتالوا على السكان بإنشاء مدارس تدرس اللغة العربية والفرنسية معًا، غير أنه ما أن انتظم أبناء المنطقة في تلك المدارس حتى تقلصت فيها العربية شيئا فشيئا لتختفي في النهاية، فاسحة المجال لهيمنة الفرنسية تكريسا للاستعمار وتمكينا له.
لكن، لكون العربية لغة القرآن المقدسة كان محالا القضاء عليها، بل كانت كل خطوة للحرب عليها تثير ردة فعل عنيفة من المسلمين، وهو ما اضطر الإدارة الاستعمارية إلى الحفاظ على مدارس ودور القرآن، وفقا لكندو.
غير أن الدارسين يتفقون أن السياسات الاستعمارية نجحت إلى حد بعيد في حصر العربية في وظيفتها الدينية وفرضت الفرنسية لغة رسمية في المنطقة، مستأثرة بالسيادة الوطنية والتعامل الإداري وشرطا للحصول على الوظائف والامتيازات.
حكومات على درب الاستعمار
وسارت حكومات ما بعد الاستقلال على الخط الذي رسمته الإدارة الاستعماريّة في إقصاء اللغة العربية، فبحسب أنجاي فإن حكومات مالي واصلت سياسة تهميش التعليم العربي الإسلامي حتى العام 1985.
ومن وقتها، تم إدراج المدارس العربيّة الإسلاميّة في النّظام التّربوي الرسمي، وسُمح لتلاميذ هذه المدارس بالمشاركة في الامتحانات الوطنيّة، وتمّ افتتاح قسم للغة العربيّة في كلية الآداب واللغات والعلوم الإنسانيّة، وأيضا في المدرسة العليا للمعلمين، ومعهد خاص لإعداد معلمي المدارس العربيّة الإسلامية بمدينة تنبكتو، كما تم إنشاء معهد زايد للعلوم الاقتصاديّة والقانونيّة، وهو معهد جامعي يستقبل خصّيصا خرّيجي المدارس العربيّة الإسلاميّة.
وقد نص الدّستور الذي أصدره المجلس العسكري الحاكم في يونيو/حزيران 2023 أن اللّغات الوطنيّة ومن ضمنها اللغة العربية هي اللّغات الرّسمية في مالي، وأنّ اللّغة الفرنسيّة لغة عمل فقط.
وأما في ساحل العاج، فيقول منصور إن حكومات ما بعد الاستقلال واصلت سياسة الاستعمار في العداء للعربية بل كانت أسوأ، لأن العدو كان خارجيا وأصبح داخليا.
ويضيف أنه في عهد الرئيس الحالي الحسن واتارا وباعتباره مسلما سعى المسلمون بقيادة المجلس الأعلى للأئمة والشؤون الإسلامية إلى إعادة الاعتبار للغة العربية ونقل المدارس العربية من وصاية الداخلية كما كانت منذ عهد الاستعمار إلى وزارة التربية والتعليم، كما تقرر إنشاء قسم للعربية في جامعة حكومية وسيبدأ استقبال الطلاب العام المقبل.
وفي بوركينا فاسو، يقول الدكتور كندو إن الرئيس الأّول موريس ياميوغو أثبت انحيازه للفرنسّية وللعالم الغربي المسيحي، بل كان يعتبر أن بوركينا ابنة الكنيسة المدللة، لكن عهد الجنرال أبوبكر سانغولي امتاز بنوع من الانفتاح على العربية تطور في عهد الرئيس توماس سانكارا عبر توظيف المعرَّبين في هياكل الحكومة، لكن مستوى تشغيلهم تراجع في عهد الحكومات اللاحقة
حالات انفتاح على العربية
مثّلت الحكومة الأولى بعد الاستعمار في غينيا بقيادة أحمد سيكو توري الاستثناء بالنسبة لجاراتها، فقد عملت، بحسب الدكتور عمران، على أن تستعيد اللغة العربية مكانتها وحسنت علاقاتها مع الدول العربية ووظفت المعرَّبين وأدرجت التعليم العربي في النظام التربوي الرسمي.
كما أنها أنشأت أقساما للغة العربية في جامعات كوناكري وكنكان ولابي الحكومية، مما مهد لإنشاء قسمي الماجستير والدكتوراه في جامعة الجنرال لانسانا كونتي في كوناكري.
وعلى درب الانفتاح على العربية، سارت غانا في عهد رئيسها الأول كوامي أنكروما، إذ تم افتتاح قسم للغة في جامعة أكرا، ومع بدايات الثمانينيات أصبحت تُدرس في المدراس الحكومية وخرجت من زاوية الكتاتيب.
ولاحقا، أنشئ قسم لإعداد معلمي اللغة العربية في جامعة وَيْنِبَا، وأنشئت كلية الفاروق الجامعية للمعلمين بمدينة وَانْشِي، وخلال العام الجاري انطلقت دراسة الدكتوراه فيها بجامعة أكرا.
فهل تستفيد اللغة العربية من النقمة الشعبية المتزايدة في المنطقة على الغرب وثقافته ولغاته وتستعيد مكانتها كما كانت قبل الاستعمار سيدة مهيمنة في منطقة غرب أفريقيا؟