منذ بدايات الحضارات القديمة، كانت بداية فصل الربيع مناسبة للاحتفال بمواسم الحصاد، حيث كانت الشعوب من الفراعنة إلى البابليين والآشوريين تحتفل بقدوم الربيع كأقدم عيد بشري مليء بالفرح والبهجة. كان الجميع يعبر عن الأمل في الخلود والنماء مع بداية الربيع، احتفالًا بمواسم الخصب المنتظرة. أطلق الفراعنة على هذا الاحتفال اسم “شمو” كرمز للحصاد، وقد اختلفت التسميات في الحضارات الأخرى، لكن جميعها كانت تدور حول مفهوم “الحياة”.
شم النسيم في مصر
احتفلت مصر بعيد شم النسيم، الذي يُعد من الأعياد المصرية القديمة، عبر تاريخها الطويل، وكان يتضمن تقاليد مثل تناول البيض الملون، الأسماك المملحة، والخس والملانة، وكل منها يحمل رمزية خاصة في الاحتفال. فالبيض كان رمزًا للخصوبة وتجديد الحياة، والخس والملانة يعبران عن اللون الأخضر الذي يزدهر على ضفاف النيل، بينما الأسماك المملحة هي طبق فرعوني موثق في المعابد ومقابر الفراعنة، أما البصل الأخضر الذي يُؤكل مع الأسماك فهو رمز للشفاء والعافية والوقاية من الأمراض.
استمر المصريون في الاحتفال بهذا العيد منذ عصر الفراعنة وحتى العصر القبطي، ثم مع الفتح الإسلامي لم تتغير العادات، بل أضاف الفاطميون طابعًا خاصًا له من خلال جعله عيدًا رسميًا للدولة، حيث كان الخليفة أو نوابه يخرجون إلى الشوارع للاحتفال بموسم الربيع، ويوزعون الهدايا على الناس، كما كان يتم توزيع شراب الليمون بأمر الخليفة. واستمر الاحتفال بهذا العيد من الفاطميين إلى الأيوبيين والمماليك. وفي كتاب المقريزي عن مصر المملوكية، ذكر أن المصريين كانوا يحتفلون بعيد “أول توت” وفقًا للتقويم القبطي، حيث كان يُسمى “يوم النيروز القبطي” ويصادف بداية سنتهم في أول شهر توت، وكان يشهد عادة في الماضي مظاهر غير مرغوب فيها، حتى وصف المقريزي الاحتفال بأنه كان يتضمن “مواكب الأكابر”.
غاب احتفال شم النسيم عن مصر خلال الحملة الفرنسية، حيث توقف المصريون عن الاحتفال في بداية شهر توت كما كانوا يفعلون عادة لمدة 3 سنوات. لكن مع قدوم محمد علي، عاد الاحتفال ليتم في يوم الاثنين الذي يلي عيد قيامة المسيح لدى الأقباط، ليحتفل المصريون بربيعهم المزدهر.
الأم الكبرى (عشتار) في سوريا
تتنوع أعياد الربيع في سوريا، لكن العيد الأكبر هو عيد “الأم الكبرى” (عشتار)، الذي يتزامن مع عيد شم النسيم في مصر. وتُظهر الأسطورة الأشورية أن عشتار كانت إلهة الخصوبة والحب في الحضارة الآشورية القديمة، حيث كان الآشوريون يرمزون إليها بشجرة الصنوبر القديمة التي تزدهر في موسم الربيع ولا يتوقف نموها أبدًا.
أما العيد الثاني الذي يحتفل به السوريون في الربيع، فهو عيد رأس السنة السورية، الذي يُحتفل به في 25 مارس/آذار، ويستمر الاحتفال الأيام العشرة الأولى من أبريل/نيسان. وفي هذا العيد، يرقص السوريون الدبكة، وهي من أقدم الرقصات التي كانت تُؤدى في الاحتفالات القديمة تكريمًا للآلهة في مواسم الخصب.
النيروز في العراق.. مهرجان تراثي في الموصل
يحتفل العراق بجميع طوائفه بعيد النيروز، وهو الاحتفال الفارسي القديم بقدوم الربيع، ويوافق آواخر مارس/آذار وأول أبريل/نيسان، وفي الموصل تقام المهرجانات الثقافية، والاحتفالات التي يبدع فيها الشعراء وأهل الفنون المختلفة، وقد شارك كبار المطربين المصريين أمثال عبدالحليم حافظ وفايزة أحمد في إحياء حفلات مهرجان الموصل. في الاحتفال بقدوم الربيع، يقدم الكعك والحلويات العراقية احتفالا بالربيع طيلة أيام أبريل/نيسان.
عطلة الربيع في المغرب وثافوست في الجزائر
يحتفل المغاربة بعطلة رسمية في أعياد الربيع، مماثلة لما يحدث في مصر، وغالبًا ما تتزامن عطلتهم مع العطلة المصرية، لكن يتم تحديدها بناءً على حسابات مختلفة حسب التقويم الزراعي. يحتفل المغاربة خلال هذه الفترة بالتنزه في الحدائق وتناول المخبوزات الخاصة بالربيع، بالإضافة إلى البيض الملون والشاي المغربي.
أما في الجزائر، فيحتفظ الجزائريون بعادتهم القديمة في إحياء عيد الربيع، الذي يُطلق عليه اسم “ثافوست” وهي كلمة أمازيغية تعني الخصوبة وعودة الحياة. يُحتفل بالعيد من خلال تناول “المبرجة” وهي معجون السميد والتمر، وتعد الفروسية العنصر الرئيسي في الاحتفالات الخاصة بالشباب في ثافوست. كما تخرج الفتيات إلى المتنزهات ويغنين: “شاو ربيع ربعاني.. كل عام تلقاني.. في العطيل الفوقاني”، وهي أغنية تعبر عن ترحيبهن بالربيع المتجدد الذي سيعود كل عام ليجدهن في المرج الأعلى.