حسام أبو صفية “بطل برداء أبيض”، يمشي بتثاقل، وتواكبه كاميرا القناة 13 الإسرائيلية، وهو مقيّد اليدين، في مشهد يبدو مُستلًا من الدعايات النازية، حيث على الآخر أن يُشيطن ويُهان، ثم يظهر على الإعلام ليعترف.
هذا ما فعلته إسرائيل عندما نشرت وسائل إعلامها الأربعاء الماضي، فيديو يظهر فيه الطبيب حسام أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان الذي دمرته نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وهو مقيّد اليدين ويمشي بتثاقل بين جنود يرافقونه، ومصور تلفزيوني يواكب بالصورة أول ظهور للرجل منذ اعتقاله نهاية العام الماضي.
لكن ما لا يظهر في الصورة أن الرجل طبيب أطفال، وأنه اُعتقل خلال قيامه بعمله، واقتيد إلى سجن سدي تيمان العسكري سيئ السمعة، بعد أن صنّفته إسرائيل مقاتلًا غير شرعي، لنزع الصفة المدنية عنه وتسويغ أي تنكيل به أو أي حُكم قد يصدر بحقه، وأنه تعرّض لتعذيب شديد لرفضه التخلي عن مرضاه في مستشفى كمال عدوان الذي كان يديره، وبسبب ذلك تعرّض للاستهداف بشكل شخصي بمحاولة اغتيال من طائرة كواد كابتر.
فهل تنجح الدعاية الإسرائيلية في شيطنته وتبرير إذلاله بعرض صوره على شاشات التلفزة باعتباره عدوًا ومجرمًا؟
تقدّم الروائية الأميركية سوزان سونتاج (1933-2004) قراءات وتأملات في مفهوم الصورة وجمالياتها، وتخلص إلى أن للصورة لا وعيًا منفصلًا “مستقلًا” يجر وراءه تاريخًا شائكًا ومعقدًا، ما يمنح المتلقي تأويلات متعددة حين ينظر إليها.
ذلك ما تصر الدعاية الإسرائيلية على تغافله المرة تلو الأخرى، ذلك أن الأبطال من أجل حرية شعوبهم يظلون كذلك، وأن الصور التي تلتقط لهم تحت الضغط والترهيب لا تعني انتصار الجلاد بل ضحيته، إذ تعكس حقيقة الصراع الذي كلما ازداد تعقيدًا عاد إلى بداياته وبديهياته الكبرى.
فثمة محتل هنا، مدجج بترسانة عسكرية هي الأحدث في العالم، يقتاد ضحيته وهو طبيب، من زنزانته ليعرضه على جمهوره باعتباره مجرمًا، متجاهلًا أن تأثير الصورة التي صنعها تكشف طبيعته هو، قوة احتلال باطشة تمارس فتكها لا بالعمران وحسب بل الإنسان، فتعيده أو تكاد إلى بدائيته، بإمعانها في إضعافه وانتهاك إنسانيته.
ألم يفعل هتلر ذلك بالضبط، بإعادة اليهود في معسكرات اعتقالهم إلى “حيوانهم”، حين كان يجرّدهم من ثيابهم ويتعامل معهم كوباء، في سلسلة من الإجراءات التي تبرّر إبادتهم؟
حسام أبو صفية.. طبيب في مواجهة دبابة
يُضاف فيديو الطبيب حسام أبو صفية وهو مقيّد اليدين، إلى صورة أخرى اُلتقطت لدى اعتقاله في 27 ديسمبر/ كانون الأول، ويظهر فيها برداء الأطباء الأبيض وهو يتوجه إلى دبابة ميركافا، بينما يحيط به الدمار في كل جانب، وبينهما تتكرّس صورته المضادة لما كانت تسعى إسرائيل لإشاعته، بهدف شيطنته وتفريغ صموده من معناه بإظهاره ضعيفًا، عديم الحيلة أمام “جبروت قوتها”، فللصورة لا وعي آخر ورسائل من نوع مختلف.
فهي لمدني مهمته إنقاذ حيوات الناس، في مواجهة دبابة يقوم عملها على قتلهم، فأي دعاية أخرى يمكنها أن تمحو هذه الحقيقة التي تدين الاحتلال مهما فعل وسعى؟
أبو صفية يتجه لدبابة ميركافا إسرائيلية في نهاية ديسمبر الماضي-وسائل تواصل
ولد أبو صفية في مخيم جباليا عام 1973، لعائلة هجّرها الاحتلال من قريته- الأم “حمامة” في قضاء مدينة عسقلان الساحلية عام 1948، ونال شهادتي البورد الفلسطيني والماجستير في طب الأطفال وحديثي الولادة، وخلال دراسته تعرّف إلى الكازاخستانية إلبينا وعادا إلى غزة عام 1996 ليعيشا وليخدم أبناء شعبه في قطاع غزة.
وخلال شهور القصف والقتل والدمار رفض أبو صفية الخروج من قطاع غزة، رغم حمله وأفراد أسرته جنسية أجنبية بل واصل الليل بالنهار في مستشفى كمال عدوان الذي كان يديره.
وفي الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فرضت إسرائيل حصارًا محكمًا على محافظة شمال قطاع غزة التي تضم مدينة جباليا ومخيمها وبيت لاهيا وبيت حانون، بهدف عزل المنطقة وإجبار سكانها على النزوح منها، وإنشاء منطقة عازلة.
ولإنفاذ مخططها هذا، شهدت المنطقة أسوأ عمليات قصف وتدمير خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، حيث مُسحت نحو 70% من بيوت سكانها، وخصوصًا في جباليا، عن وجه الأرض تمامًا.
رفض التخلي عن المرضى والجرحى
وفي موازاة ذلك، أحكمت قوات الاحتلال حصارها على مستشفى كمال عدوان الحكومي في بيت لاهيا، الذي يعتبر أحد أكبر المستشفيات في القطاع.
سُمّي المستشفى على اسم أحد قادة منظمة التحرير الفلسطينية الذي اغتالته إسرائيل في لبنان، في عملية كوماندوس معقدة، بالإضافة إلى رفيقيه محمد يوسف النجار وكمال ناصر عام 1973، في عملية عرفت باسم الفردان وشارك فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أيهود باراك متنكرًا بزي نسائي.
ولعل أبو صفية استحضر إرث سابقيه في النضال حين رفض أوامر إسرائيل بإخلاء مستشفى كمال عدوان الذي يديره، وظهر في مقابلات تلفزيونية عدة مفنّدًا الرواية الإسرائيلية التي كانت تمهّد لتدمير المستشفى، بالادّعاء أن مسلحين من حركة المقاومة الإسلامية يتحصنون فيه، وهي الذريعة نفسها التي لجأت إليها إسرائيل لدى تدميرها مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، واعتقلت مديره محمد أبو سلمية آنذاك.
يُضاف فيديو الطبيب حسام أبو صفية وهو مقيّد اليدين، إلى صورة أخرى اُلتقطت لدى اعتقاله، ويظهر فيها برداء الأطباء الأبيض وهو يتوجه إلى دبابة ميركافا، بينما يحيط به الدمار في كل جانب، وبينهما تتكرّس صورته المضادة لما كانت تسعى إسرائيل لإشاعته، بهدف شيطنته وتفريغ صموده من معناه بإظهاره ضعيفًا وعديم الحيلة
واقتحمت قوات الاحتلال مستشفى كمال عدوان في أكتوبر الماضي، بعد حصار مشدّد وقصف عنيف على مرافقه وفي محيطه، وخلال تلك الفترة واجه أبو صفية مصابه الشخصي الأول والأكبر، فقد استشهد نجله إبراهيم في الـ26 من الشهر نفسه في قصف إسرائيلي، فصلّى عليه في محيط المستشفى حيث دفنه، وأمّ المصلين قبل أن يعود إلى عمله ثانية، وإلى عناده برفض إخلاء المستشفى والتخلي عن المصابين والجرحى، فليس ثمة وقت للاستسلام للحزن الشخصي، والقطاع كله يتعرّض لحرب إبادة معلنة.
محاولة اغتيال قبل الاعتقال
جعله ذلك في دائرة الاستهداف الشخصي، حيث نجا من موت كاد يكون محققًا بعد ذلك بأقل من شهر، عندما قصفته طائرة كواد كابتر في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني خلال عمله، فأصابته ست شظايا في منطقة الفخذ، تسبّبت في تمزّق في الأوردة والشرايين، لكن ذلك لم يفتّ في عضده بل زاده إصرارًا على عدم إخلاء المستشفى.
زملاء أبو صفية يقدمون له العلاج بعد قصف طاله بطائرة كواد قبل اعتقاله-غيتي
وفي 27 ديسمبر/ كانون الأول اقتحم الجيش الإسرائيلي المستشفى بعد يوم طويل من القصف وإضرام النيران في أقسامه وإخراجه عن الخدمة، واعتقل أبو صفية ونحو 350 مريضًا ومصابًا كانوا في داخله ومحيطه.
وآنذاك انتشرت صورة أبو صفية بردائه الأبيض، وهو يتوجه إلى دبابة الميركافا، لتجنيب المستشفى تدميرًا أكبر، وكانت من الصور القليلة للرجل الذي انقطعت الأخبار عنه بعد ذلك قبل أن تعترف إسرائيل بأنه معتقل لديها، وتصنّفه باعتباره مقاتلًا غير شرعي لتبرير أي تعامل بالغ الخشونة ضده في معتقل سدي تيمان العسكري.
وكما فقد نجله فقد فجع برحيل والدته الشهر الماضي وهو في المعتقل، في سيرة من الفقد والصبر والصمود ميّزت الكادر الصحي في قطاع غزة خلال العدوان على قطاع غزة الذي تواصل على مدار 15 شهرًا.
حرب على المستشفيات
بعد اعتقال أبو صفية، ذكر تقرير أصدرته مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أن الدمار المروّع الذي أحدثته الهجمات العسكرية الإسرائيلية على مستشفى كمال عدوان ترك سكان شمال غزة تقريبًا بلا أي إمكانية للحصول على الرعاية الصحية الكافية، كما أنه يعكس نمط الهجمات الموثقة في التقرير، حيث أُجبر الموظفون والمرضى على الفرار أو تعرضوا للاعتقال، مع وجود تقارير تتحدث عن تعرضهم للتعذيب وسوء المعاملة.
شنت اسرائيل حربا لا هوادة فيها على المستشفيات منذ بداية عدوانها على قطاع غزة-غيتي
وأوضح التقرير أنه خلال الفترة المشمولة بالتقرير، وقع ما لا يقل عن 136 غارة على ما لا يقل عن 27 مستشفى و12 مرفقًا طبيًا آخر في قطاع غزة، ما أدى إلى خسائر فادحة في صفوف الأطباء والممرضين والمسعفين وغيرهم من المدنيين، وتسبب في أضرار جسيمة في البنية التحتية المدنية أو تدميرها بالكامل.
وأضاف أنه في ظل ظروف معينة، قد يرقى التدمير المتعمد لمرافق الرعاية الصحية إلى شكل من أشكال العقاب الجماعي، ما قد يشكل بدوره جريمة حرب.
من جهته، قال مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك: “وكأن القصف المتواصل والوضع الإنساني المتردي في غزة لم يكونا كافيَيْن، فأمسى الملاذ الوحيد الذي يجدر أن يشعر فيه الفلسطينيون بالأمان، مصيدة للموت”، مضيفًا: “إن حماية المستشفيات أثناء الحرب أمر بالغ الأهمية، وعلى جميع الأطراف أن تحترم هذا المبدأ في جميع الأوقات”.
هذا في حين أفاد الجهاز المركزي للإحصاء أن 1068 عاملًا في القطاع الصحي في قطاع غزة استشهدوا خلال العدوان الإسرائيلي الأخير.
والشهر الماضي حذّر المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس من أن إعادة بناء النظام الصحي في قطاع غزة ستكون “مهمة معقدة وصعبة”، نظرًا إلى حجم الدمار والتعقيدات التشغيلية والقيود الموجودة”.
وقدّرت منظمة الصحة العالمية أن ثمة حاجة إلى أكثر من 10 مليارات دولار لإعادة بناء النظام الصحي في القطاع الذي تعرض لعدوان إسرائيلي لا هوادة فيه منذ 7 أكتوبر 2023.