ميريام أديلسون… «سيدة المال والنفوذ» ورمز حلف اليمينين الأميركي والإسرائيلي

حين طلب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من ميريام أديلسون أن تقف في قاعة الكنيست الإسرائيلي أثناء كلمته قبيل توجّهه إلى شرم الشيخ لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، بدا المشهد في ظاهره تحية شخصية. لكنه في عمقه كان تعبيراً عن شبكة مصالح وتحالفات تمتدّ من تل أبيب إلى واشنطن، ومن الحزب الجمهوري إلى حركة اليمين الشعبوي العالمي. في تلك اللحظة، لم يكن ترمب يشكر امرأة ثرية فحسب، بل كان يُقرّ علناً بالدور الذي لعبته ولا تزال تلعبه ميريام أديلسون، وريثة الإمبراطورية التي بناها زوجها الراحل شيلدون أديلسون، في تمويل مشاريع سياسية وإعلامية شكلت أحد أعمدة العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل خلال العقدين الأخيرين. ذلك المشهد، بكل رمزيته، لم يكن مجرد لفتة بروتوكولية، بل إعلاناً متجدداً عن تحالف المال والعقيدة والهوية، الذي بات يحدد ملامح اليمين الأميركي في عصر ما بعد ترمب.

وُلدت ميريام فربشتاين (الاسم الأصلي لعائلتها) في تل أبيب عام 1945 لأبوين يهوديين نجيا من أهوال «المحرقة النازية» بعدما فرّا من بولندا قبل الحرب العالمية الثانية. ونشأت في مدينة حيفا، حيث كان والدها – اليساري الميول – يملك عدة دور سينما، وتلقت تعليمها في المدرسة الريالية العبرية.

وبعدما درست العلوم الدقيقة في الجامعة العبرية في القدس، حصلت على درجة دكتوراه الطب من جامعة تل أبيب بتفوّق، قبل أن تعمل طبيبة في مستشفى «روكاح» (هداسا) في تل أبيب، وتصبح لاحقاً رئيسة قسم الطوارئ فيه. وفي منتصف الثمانينات، انتقلت ميريام إلى جامعة روكفلر في مدينة نيويورك طبيبة باحثة متخصصة في علاج الإدمان، وهناك عملت مع العالمة الشهيرة ماري جين كريك، الرائدة في تطوير علاج الميثادون لمدمني الهيرويين.

اللقاء… والزواج والعمل المشترك

بعد طلاقها من زوجها الأول، التقت ميريام عام 1989 بشيلدون أديلسون، رجل الأعمال اليهودي الثري – الذي حملت اسم عائلته – وصاحب إمبراطورية «لاس فيغاس ساندز» التي تُعد من أكبر شركات الكازينوهات والفنادق في العالم.

ومن ثم، تزوّجا عام 1991 وأنجبا ولدين (آدم وماتان). وفي 1993 افتتحا «عيادة أديلسون» لعلاج الإدمان في تل أبيب، ثم أسّسا فرعاً آخر في لاس فيغاس عام 2000.

كانت تلك البداية لمسيرة تمزج بين العمل الإنساني والتمويل السياسي، ليتحوّل «الزوجان أدلسون» إلى أيقونة النفوذ المالي – السياسي في واشنطن وتل أبيب. وبفضل ثروتهما والتزامهما السياسي اليميني المتشدّد، قدّما مئات ملايين الدولارات للحزب الجمهوري الأميركي، دعماً لمرشحين يتبنون خطاباً مؤيداً لإسرائيل بلا تحفظ. وكانا من أبرز مموّلي حملة ترمب الانتخابية عام 2016، ثم حملة إعادة انتخابه عام 2020. ولقد مُنحت ميريام وسام الحرية الرئاسي عام 2018، في تكريم اعتُبر اعترافاً علنياً بدورها في دعم التحالف الأميركي – الإسرائيلي المحافظ.

جدير بالذكر أن شيلدون أديلسون كان أبرز مموّلي حملة جورج بوش الابن، ثم جون ماكين، قبل أن يجد في دونالد ترمب تجسيداً مثالياً للتحالف الجديد بين اليمين القومي الأميركي واليمين الديني الإسرائيلي. وبعد وفاته عام 2021، ورثت ميريام الحصة الكبرى في شركة «لاس فيغاس ساندز»، إلى جانب ملكيتها لصحيفتي «إسرائيل هايوم» (الأوسع انتشاراً في إسرائيل) و«لاس فيغاس ريفيو – جورنال» في الولايات المتحدة. ووفق تقديرات «بلومبرغ» في أغسطس (آب) 2025، تبلغ ثروتها نحو 40.5 مليار دولار، ما يجعلها المرأة الـ48 الأكثر ثراءً في العالم.

أيضاً، اشترت ميريام نادي «دالاس مافريكس» لكرة السلة، ما عزّز حضورها في المشهد الاقتصادي الأميركي. بيد أنها لم تكتفِ بإدارة الثروة، بل سخّرتها لبناء نفوذ سياسي ضخم داخل الحزب الجمهوري، وواصلت تمويل المؤسسات والمنظمات التي ترى أن «إسرائيل ليست حليفاً فقط، بل جزء من هوية أميركا المسيحية – اليهودية»، كما قالت في أكثر من مناسبة.

«أيباك» و«جي ستريت»

حين يُذكر مصطلح «اللوبي اليهودي» في واشنطن، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو منظمة «أيباك»، التي تأسست في خمسينات القرن الماضي لتكون الصوت السياسي الرسمي المؤيد لإسرائيل بلا تحفظ، والقوة الضاغطة القادرة على ترجيح كفة الأصوات داخل الكونغرس لمصلحة أي تشريع يخدم تل أبيب.

لكن المشهد اليوم أكثر تعقيداً. إذ ظهرت خلال العقدين الأخيرين تنظيمات يهودية ليبرالية مثل «جي ستريت»، التي تنتقد سياسات الاحتلال وتدعو إلى حل الدولتين. ورغم اتساع نفوذها داخل صفوف الديمقراطيين، فإنها ما زالت تواجه مقاومة قوية من «اللوبي» التقليدي الذي يميل إلى التحالف مع الجمهوريين واليمين الإيفانجيلي الأميركي. وهو ما يعكس انقساماً داخل المجتمع اليهودي الأميركي نفسه بين تيارين؛ الأول محافظ يرى في دعم إسرائيل واجباً دينياً وتاريخياً، والثاني يساري يرى أن سياسات نتنياهو وحلفائه تهدد القيم الليبرالية الأميركية.

ميريام أديلسون تقف بوضوح في الضفة الأولى، حيث يتلاقى المال المحافظ اليهودي مع اليمين الإيفانجيلي الأميركي، في حلف يغلّف نفسه بخطاب لاهوتي وسياسي في آنٍ. فهي لا تموّل «أيباك» فحسب، بل أيضاً وسائل إعلام ومؤسّسات بحثية تروّج لفكرة أن دعم إسرائيل دفاعٌ عن «قِيَم الغرب في مواجهة الإسلام السياسي وإيران»، وهو منطق يتردّد صداه في خطاب ترمب وحلفائه الجمهوريين.

المال السياسي وصناعة القرار

في النظام السياسي الأميركي، المال ليس مجرّد أداة دعم، بل عنصر حاسم في تشكيل القرار. إذ تسمح قوانين تمويل الحملات بإنشاء «لجان عمل سياسي» ضخمة قادرة على ضخّ ملايين الدولارات لصالح مرشحين محدّدين. وفي هذا الإطار، برزت عائلة أديلسون كإحدى أقوى الجهات المانحة، ليس على مستوى الحزب الجمهوري فقط، بل في توجيه السياسات الخارجية، خصوصاً تجاه الشرق الأوسط.

إبّان إدارة ترمب الأولى، كان دعم آل أديلسون عاملاً حاسماً في قرارات مثل نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بضم الجولان السوري المحتل لإسرائيل. ومارس الزوجان نفوذاً مباشراً داخل الدائرة الضيقة لصنع القرار، عبر علاقات شخصية ومساهمات مالية في مؤسسات الحزب الجمهوري.

وصحيفة «واشنطن بوست» عدّت عائلة أديلسون «العصب المالي للسياسة الإسرائيلية في واشنطن»، معتبرة أن دعمها لم يكن مجرّد تبرع، بل «استثمار استراتيجي في هوية الحزب الجمهوري الجديد».

وحقاً، وصف أحد المسؤولين السابقين في الإدارة ذلك بقوله: «حين يتكلّم آل أديلسون، يصغي الجميع. إنهم لا يشترون الولاء، بل يخلقون بيئة سياسية حيث يصبح الولاء لإسرائيل مصلحة انتخابية بحد ذاته». وأردف: «البيت الأبيض كان يعرف جيداً ما الذي يعنيه دعم شيلدون وميريام؛ دعم كامل من شبكة المموّلين المحافظين الموالين لإسرائيل».

تحوّلات في مشهد اليمين الأميركي

لكن مشهد الإجماع التقليدي حول إسرائيل بدأ يتصدّع. ففي السنوات الأخيرة، ظهرت أصوات داخل اليمين الأميركي نفسه تنتقد العلاقة غير المتكافئة مع تل أبيب. من هؤلاء الإعلامي الشهير تاكر كارلسون، الذي حذّر مراراً من أن «سياسات واشنطن في الشرق الأوسط تُدار وفق حسابات اللوبيات، لا وفق المصلحة الوطنية».

كذلك برزت النائبة الجمهورية مارجوري تايلور غرين بانتقادات حادة للمساعدات العسكرية لإسرائيل، معتبرة أنها تأتي على حساب دافعي الضرائب الأميركيين.

هذه الأصوات، وإن ما زالت أقلية، تعبّر عن تحول ثقافي أعمق داخل القاعدة الشعبوية الجمهورية التي ترى أن الأولوية يجب أن تكون «أميركا أولاً»، وأنّ التحالف مع إسرائيل يجب أن يخضع لمعادلة مصالح متبادلة، لا لالتزام عقائدي مطلق.

ويرى محللون أن هذا الاتجاه يشكل تحدياً استراتيجياً للنفوذ اليهودي التقليدي في الحزب الجمهوري، إذ للمرة الأولى منذ عقود، يُطرح سؤال جوهري حول حدود هذا النفوذ ومشروعيته السياسية.

بين المال والرسالة

بعد وفاة زوجها، لم تكتفِ ميريام بالاستمرار في نهج التمويل السياسي، بل أعادت تشكيله بأسلوب شخصي أكثر آيديولوجية.

فهي تقدّم نفسها على أنها «مدافعة عن إسرائيل وعن القيم الأميركية معاً»، وتواصل تمويل برامج مثل «بيرثرايت (حق الولادة) إسرائيل» التي أتاحت لأكثر من 750 ألف شاب يهودي زيارة إسرائيل مجاناً، وقدّمت لها مع زوجها أكثر من 250 مليون دولار.

واستثمرت في أبحاث مكافحة الإدمان، لكنها في الوقت ذاته موّلت مؤسسات فكرية يمينية مثل «هيريتيج فاونديشن» (مؤسّسة التراث) التي ينسب إليها «مشروع 2025» الذي يعدّ بمثابة خطة عمل ترمب في ولايته الثانية، و«فري بيكون»، التي تروّج لرؤية محافظة في السياسة الخارجية.

صحيفة «نيويورك تايمز» عدّتها «الوريثة الروحية لشيلدون، والأمّ السياسية للجيل الجديد من الجمهوريين المؤيدين لإسرائيل»، وهو وصف يعكس مكانتها الفريدة كصاحبة قرار لا مجرّد مموّلة.

تبدّل في العلاقة

يؤكد باحثون في الشأن الأميركي أن التحالف بين واشنطن وتل أبيب تجاوز منذ سنوات حدود المصالح الاستراتيجية إلى ما يمكن وصفه بـ«الشراكة العقائدية». ففي خطاب ترمب، كما في مواقف مستشاريه، نجد حضوراً قوياً لفكرة «القدر المشترك بين إسرائيل وأميركا»، باعتبارهما دولتين أنشئتا على أسس دينية أخلاقية لمقاومة «الشرّ العالمي».

هذا الخطاب يتلاقى مع رؤية ميريام أديلسون، التي ترى أن الدفاع عن إسرائيل ليس خياراً سياسياً، بل واجب أخلاقي يعبّر عن روح الغرب الحديثة.

لكن هذه الرؤية تواجه اليوم تحديات متعددة؛ من تحولات الرأي العام الأميركي بين الشباب، حيث تتراجع صورة إسرائيل، إلى تنامي النزعة الانعزالية في الداخل الأميركي التي ترى أن التحالفات الخارجية باتت عبئاً اقتصادياً وسياسياً.

في ظل هذه التحولات، يجد المموّلون اليهود أنفسهم أمام معادلة جديدة؛ كيف يحافظون على نفوذهم في نظام سياسي بات أكثر انقساماً، وفي مجتمع يعيد تعريف أولوياته القومية؟

لقد كان النفوذ اليهودي في واشنطن لعقود يقوم على تحالف ثابت بين الحزبين، لكن الاستقطاب الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين، وتحوّل الحزب الأخير نحو قاعدة شبابية ليبرالية أقل حماسة لإسرائيل، جعل هذا النفوذ موضع مراجعة. فجماعة «جي ستريت»، التي تمثل الصوت اليهودي الليبرالي، تزداد نفوذاً داخل دوائر الحزب الديمقراطي، فيما يواجه التيار المحافظ الموالي لإسرائيل صراعاً داخلياً مع أصوات اليمين الشعبوي.وسط هذه المعادلة، تبرز ميريام أديلسون كصوت مقاوم لهذا التبدّل، تسعى إلى ترسيخ إرث زوجها بوصفه «المموّل الذي غيّر وجه السياسة الأميركية تجاه إسرائيل»، لكنها تواجه تحدّياً؛ هل يمكن للمال وحده أن يواجه تغيّر الثقافة السياسية الأميركية؟ وإلى أي مدى يمكن لتحالف المال والآيديولوجيا أن يصمد أمام تحولات الديمقراطية الأميركية، وأمام رأي عام بدأ يطالب بمساءلة حلفائه التاريخيين؟ وفي هذا التناقض، تتكثّف قصة علاقةٍ عمرها 7 عقود، بين أقوى ديمقراطية في العالم، وأشدّ حلفائها إثارة للجدل.

شاركها.
Exit mobile version