في خطوة اعتُبرت الأشدّ منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، شرعت إدارته في تنفيذ خطة لتسريح آلاف الموظفين الفيدراليين، مستغلة استمرار الإغلاق الحكومي الذي دخل أسبوعه الثالث.
ووفق إخطار قدّمته الحكومة إلى المحكمة الفيدرالية مساء الاثنين، فإن أكثر من 4100 موظف في 7 وكالات رئيسية جرى فصلهم ضمن ما وصفه البيت الأبيض بأنه «إعادة هيكلة ضرورية للقطاع العام».
وقال راسل فوت، مدير مكتب الإدارة والميزانية، إن «عمليات التسريح بدأت، وهي جزء من خطة طويلة لإعادة بناء جهاز حكومي أكثر انضباطاً وفاعلية».
وتشمل الدفعة الأولى وزارات التجارة، والتعليم، والطاقة، والصحة، والخدمات الإنسانية، والإسكان، والتنمية الحضرية، والأمن الداخلي، والخزانة، إضافة إلى وكالة حماية البيئة التي شهدت تخفيضات محدودة.
أكبر عملية تقليص منذ عقود
تؤكد وثائق حكومية أن وزارة الخزانة تكبّدت أكبر نسبة من الإقالات، إذ فقدت نحو 1446 موظفاً، معظمهم في مصلحة الضرائب. تليها وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، التي خسرت أكثر من 1100 موظف، بينهم مئات من وكالة السيطرة على الأمراض والوقاية منها.
وشهدت الوكالة الأخيرة اضطراباً كبيراً، إذ صدرت إشعارات بفصل نحو 1300 موظف، لكن الإدارة تراجعت لاحقاً عن أكثر من نصفها بعد احتجاجات قوية من النقابات والمجتمع العلمي، ليبقى نحو 600 موظف مهددين بالفصل. وأشارت وكالة «رويترز» إلى أن بعض الإشعارات أُلغيت بسبب «أخطاء إدارية»، أو تصنيف غير دقيق للوظائف.
وشملت التسريحات أيضاً وحدات أساسية في وزارة التعليم، بينها مكاتب الحقوق المدنية والتعليم الخاص، وبرامج دعم الطلاب من ذوي الدخل المحدود، إلى جانب قسم «الإسكان العادل» في وزارة الإسكان والتنمية الحضرية. كما طالت موجة الإقالات وكالة الأمن السيبراني والبنية التحتية التابعة لوزارة الأمن الداخلي، حيث سُرّح نحو 176 موظفاً في إطار ما وصفته الإدارة بـ«إعادة توزيع الموارد»، بحسب موقع «أكسيوس».
«مشروع 2025» في قلب الاتهامات
يرى مراقبون في واشنطن أن اختيار الإدارات والبرامج التي شملتها القرارات لم يكن عشوائياً. فغالبية المكاتب المستهدفة ترتبط بسياسات اجتماعية وصحية وتعليمية يُنظر إليها داخل اليمين الجمهوري بوصفها «مخلفات من عهد الديمقراطيين».
وقال ترمب للصحافيين في المكتب البيضاوي، إن عمليات التسريح «تُوجَّه نحو الأشخاص الذين يريدهم الديمقراطيون»، مضيفاً أن الإغلاق الحكومي «أتاح فرصة لتصحيح المسار داخل الدولة».
وتشير مصادر في الإدارة إلى أن هذه الخطوات تمثّل التطبيق العملي لأفكار راسل فوت، الذي أصبح يُعرف إعلامياً بمهندس «مشروع 2025»، الذي يهدف إلى بناء جهاز حكومي «أكثر ولاءً وتناغماً» مع توجهات البيت الأبيض، عبر تقليص نفوذ البيروقراطية الفيدرالية التي يصفها ترمب منذ سنوات بأنها «الدولة العميقة».
اعتراضات في الكونغرس
لم تمرّ الخطوة من دون ردود فعل غاضبة داخل الكونغرس. فقد حذّرت السيناتورة الجمهورية سوزان كولينز، رئيسة لجنة المخصصات في مجلس الشيوخ، من أن «تسريح الموظفين أثناء الإغلاق إجراء تعسفي يضرب في عمق أداء الحكومة»، مشيرة إلى أن بعض الوكالات المشمولة تقدم خدمات حيوية للمواطنين.
من جانبها، عدت السيناتورة الديمقراطية باتي موراي، نائبة رئيس لجنة المخصصات، قرارات التسريح بأنها «قاسية وغير قانونية»، متهمة الإدارة بأنها «تستخدم الإغلاق ذريعة لتصفية حسابات سياسية».
في المقابل، أعلن الاتحاد الأميركي لموظفي الحكومة، وهو أكبر نقابة تمثل العمال الفيدراليين، أنه رفع دعوى قضائية عاجلة لوقف الإقالات، مؤكداً أن ما يجري «يخالف قانون مكافحة العجز المالي» الذي يمنع أي عمليات إنفاق أو إعادة هيكلة خلال فترات غياب التمويل. وقد أمر قاضٍ فيدرالي بولاية كاليفورنيا الحكومة بتقديم تفاصيل إضافية حول الأسس القانونية لقراراتها، في خطوة قد تمهّد لتجميد جزئي لبعض الإشعارات.
تداعيات اقتصادية وإدارية
يُحذّر مُحلّلون من أن توسيع دائرة التسريح سيترك آثاراً مباشرة على أداء مؤسسات رئيسية تُشرف على ملفات حساسة، مثل برامج الرعاية الصحية «ميديكير» و«ميديكيد»، والسياسات التعليمية، وإدارة الضرائب، والخدمات الإسكانية.
وتقول تقارير إن مراكز السيطرة على الأمراض تواجه حالياً «انكماشاً وظيفياً» قد يؤثر على برامج المراقبة الوبائية والاستجابة السريعة في حالات الطوارئ. كما حذّر خبراء من أن فقدان موظفين ذوي خبرة في مصلحة الضرائب سيؤدي إلى تأخيرات واسعة في موسم الضرائب المقبل، وربما تراجع في مستوى التحصيل.
اقتصادياً، حذّرت مؤسسات بحثية مثل «إيفركور آي إس آي» من أن استخدام الإغلاق وسيلة ضغط سياسي «قد يؤدي إلى ارتباك إداري واسع وتكاليف قانونية مرتفعة»، فيما أكّد خبراء ماليون أن استمرار التعطيل يهدد ثقة الأسواق بقدرة الحكومة على إدارة التزاماتها التشغيلية.
أمّا البيت الأبيض، فيُصرّ على أن ما يجري «خطوة ضرورية لتحقيق الانضباط المالي وإنهاء التكرار الإداري»، مؤكداً أن الإغلاق «أتاح فرصة لتطهير المؤسسات من البيروقراطية الزائدة».
ويرى خبراء قانونيون أن مسؤولي الوكالات الذين نفذوا هذه الإشعارات قد يواجهون عقوبات بموجب قانون مكافحة العجز «إذا ثبت تجاوزهم حدود الصلاحيات القانونية أثناء الإغلاق». كما حثّ نواب ديمقراطيون في لجنة الرقابة بمجلس النواب، الموظفين الذين تم فصلهم «بشكل غير قانوني» على التواصل مع خط الإبلاغ عن المخالفات المخصص للعاملين الفيدراليين.
وبينما تترقب الأوساط القانونية نتائج الطعون المقدمة أمام المحاكم، يرى مراقبون أن الأزمة الراهنة تجاوزت بُعدها الإداري لتتحول إلى اختبار سياسي حول حدود السلطة التنفيذية في زمن الإغلاق. ويقول هؤلاء إن ما بدا كخطة لإعادة هيكلة مؤقتة، قد يتحول إلى تغيير هيكلي أعمق في مؤسسات الدولة الفيدرالية إذا نجحت إدارة ترمب في تثبيت هذه السياسات.