في الأسبوع الماضي، وفيما عُدّ صدمة جيوسياسية كبرى، قدّمت الهند أدفأ استقبال على الإطلاق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كسر رئيس الوزراء، ناريندرا مودي، البروتوكول الدبلوماسي، واستقبل ضيفه الروسي على سجادة حمراء في مطار نيودلهي، ثم رافقه في السيارة نفسها إلى مقر إقامته لتناول عشاء خاص. جاء بوتين إلى نيودلهي لحضور القمة السنوية الثالثة والعشرين بين روسيا والهند. تُعقد هذه القمم سنوياً منذ عام 2000 حين أعلن البلدان شراكتهما الاستراتيجية، ولم تتوقف إلا خلال عامي جائحة كورونا. لكن زيارة بوتين الحالية جاءت في وقت تصعّد فيه الولايات المتحدة ضغوطها على الهند لتخفيف علاقتها التقليدية مع روسيا.
زيارة بوتين لنيودلهي هي الأولى منذ الغزو الروسي لأوكرانيا مطلع عام 2022، والأولى منذ ديسمبر (كانون الأول) 2021. والمفارقة أنها جاءت عقب نزاع عسكري كبير بين الهند وباكستان هذا العام، وفي ظل تدهور للعلاقات الهندية – الأميركية، وتقارب «غير مسبوق» بين روسيا والصين، ووسط مفاوضات مكثّفة بشأن مقترح سلام تقوده الولايات المتحدة لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
يقول محللون هنود إن «بوتين ومودي تجرّآ على تحدي النفوذ العالمي للولايات المتحدة، خصوصاً الرئيس دونالد ترمب». ويقول المحلل السياسي سوشانت سارين: «الدفء غير المعتاد في قمة مودي – بوتين وجّه رسالة واضحة إلى ترمب: نفوذك العالمي له حدود». ويرى أن الزيارة تكرّس انتقال النظام الدولي من أحادية أو ثنائية القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب أكثر مرونة، تقود فيه دول متوسطة، مثل الهند، إعادة تشكيل معادلات القوة.
وتشير مصادر في الخارجية الهندية إلى أن نيودلهي تعمل على استضافة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مطلع العام المقبل، في خطوة يراها البعض توازناً دبلوماسياً. وتؤكّد المصادر أن المباحثات حول الزيارة بدأت قبل زيارة بوتين بوقت طويل، لكن المواعيد لم تُحدد بعد لارتباط الأمر بتطورات المفاوضات الجارية لإنهاء الحرب.
استياء أميركي وغربي من الهند
مارست واشنطن ضغوطاً متكررة على الهند لتقليص تعاونها في قطاعي الدفاع والطاقة مع روسيا، لكن تحرك إدارة ترمب مؤخراً بفرض رسوم جمركية بنسبة 50 في المائة على الصادرات الهندية، إلى جانب عقوبات على الطاقة الروسية، مثّل محاولة لإعادة تشكيل خيارات نيودلهي.
وعلى الرغم من غياب تعليقات رسمية من ترمب بشأن زيارة بوتين، فإنه كان قد عبّر في سبتمبر (أيلول) ــ خلال قمة جمعت مودي وبوتين والرئيس الصيني شي جينبينغ ــ عن غضبه، مؤكداً أن «الولايات المتحدة فقدت الهند وروسيا لصالح الصين»، وانتقد شراء الهند للنفط الروسي. ويقول محللون إن «الاستياء الأميركي لم يتغيّر».
ويرى اقتصاديون، بينهم محافظ البنك المركزي الهندي السابق راغورام راجان، أن السبب الرئيسي لفرض الرسوم الأميركية لم يكن شراء النفط الروسي، وإنما رد نيودلهي على ادعاء ترمب أنه ساهم في إنهاء النزاع العسكري القصير بين الهند وباكستان في مايو (أيار). وقال راجان إن ما حدث كان بسبب «شخصية الرئيس الأميركي» أكثر من كونه خلافاً موضوعياً.
وكانت الهند قد ردت على ترمب بوضوح آنذاك: «لا توجد وساطة بين الهند وباكستان». وأكّد مودي لاحقاً أن «الهند لم تقبل بالوساطة سابقاً ولن تقبل بها مستقبلاً».
وفي مقال بيومية «إنديان إكسبرس»، رأى وزير الخارجية الهندي الأسبق شيام ساران أن أوروبا «قد لا تكون راضية» عن استقبال بوتين في نيودلهي، لكنها ترى تقارباً أكبر مع الهند بسبب «عدم موثوقية» الولايات المتحدة، وبسبب مخاوف من الصين «الأكثر عدوانية اقتصادياً وسياسياً».
ازدواجية الغرب
تحدث بوتين، في الواقع، عما عدّه «نفاق الغرب»، قائلاً إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يواصلان حتى اليوم استيراد الغاز الطبيعي المسال واليورانيوم الروسي المخصّب.
كما أشار إلى الاستمرار الأميركي في استيراد معادن بلاتينية روسية تُستخدم في السيارات، واليورانيوم، والأسمدة.
وفي مقابلة مع صحيفة «إنديا توداي» (India Today)، انتقد بوتين موقف الرئيس الأميركي من الهند قائلاً: «كيف يفرض عقوبات على الهند لشرائها النفط الروسي بينما الولايات المتحدة نفسها تشتري الوقود النووي من روسيا؟ سأناقش الأمر مع ترمب».
الدلالات الجيوسياسية لزيارة بوتين
لم تكن زيارة بوتين رمزية، بل كانت خطوة محسوبة من موسكو ونيودلهي لإعادة صياغة موقعهما في عالم يزداد ضغطاً أميركياً وتوسعاً صينياً. الزيارة كانت عن النفوذ والبقاء والهامش الدبلوماسي، وعن إعادة تشكيل موازين القوة في أوراسيا والمحيط الهادئ ضمن عالم يتجه نحو تعددية الأقطاب.
يقول سارين: «تسعى روسيا إلى الحفاظ على استقلاليتها الاستراتيجية عبر تجنّب الارتهان للصين، والهند ترفض الانضمام الكامل إلى تحالفات غربية جامدة. في المقابل، تجد الولايات المتحدة صعوبة أكبر في فرض خياراتها على الهند، كما لا تستطيع الصين احتكار ولاء روسيا».
بالنسبة لروسيا، تعمّق علاقاتها مع الهند يعني أنها ليست رهينة للصين. أما الهند، فترى في الترحيب ببوتين تأكيداً لاستقلالية قرارها الخارجي، ولقدرتها على التعامل مع قوى متنافسة دون الخضوع لأي منها.
مستقبل «الرباعية» QUADمع تزايد التوتر بين الهند والولايات المتحدة، يرى محللون أن الرباعية التي تضم الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند «لن تنهار، لكنها فقدت زخمها الاستراتيجي الأصلي». فالهند كانت ستستضيف القمة هذا العام، لكنها تأجّلت بسبب الخلافات الثنائية.
يقول إعلاميون، مثل مانيتش تشيبر، إن الرباعية ستستمر في شكل «رمزي»، لكنها فقدت فاعليتها بوصفها تحالفاً ردعياً ضد الصين. فالولايات المتحدة واليابان وأستراليا تتعاون أمنياً بشكل وثيق، لكن الهند أصبحت، كما يبدو، خارج «طبقات الثقة العميقة».
وبغياب الهند، تفقد الرباعية شرعيتها الآسيوية، وبوجودها تصبح بنية شكلية من دون مضمون، بحسب ما يقول المحللون الهنود.
غياب اتفاقات دفاعية
على الرغم من توقّعات كبيرة سرت بأن تعلن الهند وروسيا، خلال زيارة بوتين، صفقات عسكرية، خاصة في مجال الدفاع الجوي والطائرات، فإن شيئاً لم يعلن بهذا الخصوص.
ركز الجانبان على الشقّ الاقتصادي، ووقّعا «إعلان الشراكة الاستراتيجية الهندية – الروسية حتى 2030»، الذي يشمل:
– تسريع توقيع اتفاق التجارة الحرة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.
– تطوير ممرات بحرية وبرية مثل «الممر الشمالي – الجنوبي».
– تعزيز التعاون التكنولوجي والعلمي.
ويرى محللون أن الحرب في أوكرانيا دفعت الهند لتجنب إغضاب أوروبا أو الولايات المتحدة بإعلان صفقات عسكرية جديدة مع روسيا.
الموقف الصيني
تنظر بكين إلى زيارة بوتين بحذر. فهي تستفيد من ضعف روسيا، لكنها لا تريد علاقة وثيقة بين موسكو ونيودلهي.
ويرى محللون، على غرار سهاسيني هيدر، أن الصين تخشى من تحوّل الهند إلى «عامل توازن» داخل الشراكة الروسية – الصينية، وهذا يعقّد طموحات بكين في أوراسيا.
مودي وترمبوأجرى رئيس الوزراء الهندي يوم الخميس (11 ديسمبر) اتصالاً هاتفياً مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب بحثا قضايا التجارة والعلاقات الثنائية، في خضم مفاوضات جارية بين ممثلين للبلدين بهدف التوصّل إلى اتفاق تجاري طال انتظاره.
وتأتي المكالمة بين مودي وترمب بعد أشهر على انتكاسة جديدة في العلاقات على خلفية فرض سيّد البيت الأبيض، في أغسطس (آب)، رسوماً جمركية بنسبة 50 في المائة على معظم الواردات الهندية، بسبب شراء نيودلهي للنفط الروسي.
وقال مودي إنه أجرى «محادثة ودية جدا وبنّاءة مع الرئيس ترمب»، وذلك بالتزامن مع اختتام نائب الممثل التجاري الأميركي ريك سويتزر زيارة للهند استمرّت يومين، بحسب ما ذكرت وكالة الصحافة الفرنسية. وجاء في منشور لرئيس الوزراء الهندي على منصة إكس: «عرضنا للتقدّم الذي أحرز في علاقاتنا الثنائية وبحثنا في التطورات الإقليمية والدولية»، مشدّداً على أن البلدين «سيواصلان العمل معا من أجل السلام والاستقرار الدوليين».
وقالت الحكومة الهندية في بيان إن مودي وترامب تباحثا أيضا في «توسيع نطاق التعاون في التقنيات الحيوية والطاقة والدفاع والأمن وغيرها من الأولويات».

