طرحت تركيا نفسها كأحد أبرز اللاعبين على الأرض في سوريا مع سقوط نظام بشار الأسد وتولي الإدارة الجديدة برئاسة أحمد الشرع.
اعتمدت تركيا على الرصيد الذي راكمته منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، حيث دعمت المعارضة السورية السياسية والمسلحة، ودفعتها التطورات إلى التدخل العسكري المباشر عبر 3 عمليات عسكرية، بين عامي 2016 و2019 استهدفت بالأساس وحدات حماية الشعب الكردية، التي تشكّل العمود الفقري لـ«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، وجزئياً تنظيم «داعش» الإرهابي؛ بهدف تأمين حدودها الجنوبية وإنشاء منطقة آمنة تستوعب اللاجئين الذين تدفقوا عليها.
ومع سقوط نظام بشار الأسد تعزّز الوجود التركي متجاوزاً البعد العسكري إلى السياسي، بما يخدم استراتيجية تقوم على الوجود في مناطق النفوذ القديم للدولة العثمانية؛ ولذلك سارعت لتأخذ مكانها في مقدمة القوى التي تتدافع لملء الفراغ بعد سقوط الأسد.
خطوات استباقية
كانت تركيا أول دولة ترسل رئيس مخابراتها، إبراهيم كالين، كأرفع مسؤول يزور دمشق بعد أيام قليلة من سقوط الأسد، كما كانت أول دولة قاطعت النظام السابق تعيد فتح سفارتها في دمشق، ثم قنصليتها في حلب، وكانت الدولة الثانية بعد السعودية في أول جولة خارجية للرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، والدولة الوحيدة التي زارها مرتين في أقل من 3 أشهر، حيث كانت زيارته الأخيرة في 11 أبريل (نيسان) الماضي لحضور منتدى أنطاليا الدبلوماسي الرابع في جنوب تركيا.
وسارعت تركيا إلى التنسيق مع حكومة دمشق الجديدة في مختلف المجالات العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية، إلى جانب بحث تلبية احتياجات سوريا من الكهرباء وتأهيل المطارات والطرق والتمهيد لتوقيع اتفاقية تجارية شاملة بين البلدين.
وأسفرت العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا عن ترسيخ مناطق نفوذ، حيث دربت تركيا فصائل مسلحة وتشكلت مجالس إدارية تحت إشرافها، كما لعبت دوراً محورياً في رسم المشهد السياسي السوري عبر مسار آستانة، ما أتاح لها التأثير في القرارات السياسية.
وساهمت الاستثمارات التركية في البنية التحتية والتعليم والصحة في المناطق الخاضعة لسيطرتها والفصائل الموالية لها، في تحسين الظروف المعيشية وبالتالي زيادة قبول السكان المحليين للوجود التركي.
ورغم ما يمكن اعتباره نجاحات «فائقة» لتركيا في سوريا، فإن هناك تحديات تتعلق بتأمين حدودها، وإدارة ملف اللاجئين، والتعامل مع التوترات والقوى الإقليمية والدولية، والاتهامات التي تواجهها سياساتها في سوريا، لا سيما فيما يتعلق بالتدخل لتغيير التركيبة السكانية في بعض المناطق في شمال سوريا.
أهداف رئيسية
وحسب مصادر بالخارجية التركية، فإن «العمود الفقري للسياسة التركية تجاه سوريا هو تحقيق المصالحة الوطنية من خلال حماية وحدة وسلامة أراضي البلاد، وإرساء الأمن والاستقرار في البلاد بتطهيرها من العناصر الإرهابية، وضمان إعادة إعمار سوريا من خلال رفع العقوبات».
ويظل الهاجس الأول والهدف الأكبر لتركيا هو تأمين حدودها، وتحديداً إبعاد وحدات حماية الشعب الكردية، أكبر مكونات «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، التي تعتبرها «تنظيماً إرهابياً»، يشكّل خطراً أمنياً.
وتقول تركيا إن مسؤولية مكافحة العناصر الإرهابية والحركات الانفصالية في سوريا تقع على عاتق الإدارة السورية بالدرجة الأولى، وإنها من جانبها وفّرت المساحة اللازمة للسماح بالتغلب على هذه المشاكل على أساس الطريقة التي تفضّلها الإدارة السورية.
وتأمل أنقرة في أن يتم تنفيذ الاتفاق الذي وقّعه الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، مع قائد «قسد»، مظلوم عبدي، القاضي باندماج الأخيرة في مؤسسات الدولة السورية، من أجل تجنُّب عمليات عسكرية جديدة، قد تعرقلها أميركا، بدعوى الاتفاق ذاته.
وأثار مؤتمر «وحدة الصف والموقف الكردي» الذي عقدته القوى الكردية في القامشلي شمال شرقي سوريا، مؤخراً، قلقاً شديداً لدى تركيا بسبب دعوته إلى حكم «لا مركزي» أو «فيدرالي».
وأعلن الرئيس رجب طيب إردوغان أن «مسألة النظام الفيدرالي ليست سوى حلم بعيد المنال، ولا مكان لها في واقع سوريا»، قائلاً: «لن نسمح بفرض أمر واقع في منطقتنا ولا بأي مبادرة تهدد أو تعرض الاستقرار الدائم في سوريا والمنطقة للخطر».
ولفت إلى أن السلطات السورية أعلنت أنها لن تقبل بأي سلطة غير حكومة دمشق أو هيكل مسلح غير الجيش السوري في سوريا، مضيفاً: «هم يواصلون عملهم في هذا الاتجاه، ولدينا نهج مماثل تجاه أمن الحدود».
تمسك بوحدة سوريا
وأعطى وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، رسالة أكثر وضوحاً وتحديداً حول المؤتمر، خلال زيارة للدوحة، الأحد قبل الماضي، قائلاً إن «تركيا ترغب في رؤية دستور وحكومة في سوريا تضمن إعطاء فرص متساوية لجميع المكونات في البلاد».
ولفت إلى الاتفاق الموقّع في مارس (آذار) الماضي بين حكومة دمشق و«قسد»، مؤكداً أن تركيا ستقف في وجه «المجموعات التي تستغل الوضع الحالي في سوريا لتحقيق بعض أهدافها، وتسعى إلى الإضرار بوحدة أراضي سوريا وسيادتها».
وأكد، فيما اعتبر إشارة لحل عسكري حال الضرورة، أن «تنظيم» الوحدات الكردية (أكبر مكونات «قسد») التابع لـ«حزب العمال الكردستاني»، سيخرج من الحسابات في سوريا، سواء بإرادته عبر طرق سلمية، أو «بخلاف ذلك»، كما خرج تنظيم «داعش» الإرهابي من الحسابات.
ورغم وصف إردوغان لفكرة الفيدرالية في سوريا بأنها «مجرد حلم»، فإن هناك جهات فاعلة، وخصوصاً في شمال وشرق سوريا، تواصل الدفع باتجاه الاعتراف الدولي بالأمر الواقع الذي فرضته «قسد» من خلال إدارة ذاتية تعتمد على نموذج الفيدرالية، وهو ما يزيد من قلق تركيا تجاه «سياسة ناعمة» تحول الحلم إلى كابوس.
التعامل مع ملف الأكراد
ويبدو أن تركيا تعتمد، بشكل أساسي، على الإدارة السورية في التصدي لأي خطوات من شأنها تهديد وحدة سوريا، وفي الوقت ذاته ترغب في نجاح اتفاق اندماج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية، لما يحمله من أهمية بالنسبة للجهود المبذولة داخلياً من خلال الاتصالات مع زعيم «حزب العمال الكردستاني»، السجين، عبد الله أوجلان، لحل الحزب وتسليم أسلحته، ما يعني أن تركيا ستتخلص من التهديد الذي يحيط بحدودها الجنوبية في شمال العراق، وبالتبعية في شمال شرقي سوريا، فضلاً عن تحقيق سلامها الداخلي.
وتأمل أنقرة في تخلي واشنطن عن الاستمرار في دعم «وحدات حماية الشعب الكردية – قسد»، بدعوى التحالف معها في الحرب على تنظيم «داعش» الإرهابي، وهو ما لم تعطِ واشنطن أي إشارة إليه حتى رغم الإعلان عن سحب بعض قواتها.
وتراقب تركيا مسألة الانسحاب الأميركي من سوريا، وتسعى إلى دفع الجدول الزمني للانسحاب، وإقناع الولايات المتحدة بقدرة إدارة دمشق، بدعم منها، على التصدي لبقايا تنظيم «داعش» الإرهابي، والسيطرة على السجون التي توجد بها عائلات عناصر التنظيم، والخاضعة لسيطرة «قسد» حتى الآن.
وفي سبيل ذلك، طرحت تركيا فكرة تشكيل «تحالف إقليمي» لمحاربة «داعش»، يضم إلى جانبها عدداً من دول جوار سوريا، هي الأردن، والعراق، ولبنان، إلى جانب سوريا.
وعقد وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء أجهزة المخابرات في الدول الخمس اجتماعاً في العاصمة الأردنية عمان، في 9 مارس الماضي، تم الاتفاق خلاله على إنشاء مركز عمليات مشترك في سوريا، لا تزال المحادثات الفنية بشأنه جارية.
قلق من تمدد إسرائيل
وغير بعيد عن هذا الملف المقلق، يأتي النشاط العسكري الإسرائيلي في سوريا، وخشية تركيا من سيطرة إسرائيل، التي تحظى هجماتها في سوريا بقبول أميركي، على أجواء سوريا من الجنوب إلى الشمال، لا سيما مع ما هو معروف من علاقة قوية بين إسرائيل وأكراد سوريا.
كما تنظر إسرائيل إلى أي دور تركي متقدم في سوريا على أنه تهديد استراتيجي لأمنها؛ لأنه قد يغيّر خريطة النفوذ على الحدود الجنوبية ويؤدي لحضور فصائل تشكّل خطراً عليها.
وكشفت تقارير في الفترة الأخيرة عن سعي تركيا، التي تتمتع بعلاقات جيدة للغاية مع الإدارة السورية الجديدة، إلى توسيع وجودها العسكري في البلاد والحصول على قواعد عسكرية برية وجوية وبحرية.
وعلى الرغم من أن تركيا لم تعلن بشكل رسمي سعيها إلى إقامة قواعد جوية في سوريا، فإن إسرائيل قامت بخطوات استباقية وقصفت قاعدة «تي 4» شرق حمص، أكثر من مرة في مارس الماضي، فضلاً عن قصف مطار حماة العسكري وإخراجه من الخدمة نهائياً.
وأعلن مسؤولون إسرائيليون أن إقامة قاعدة تركية في تدمر بريف حمص الشرقي «خط أحمر».
وتدعم تركيا، سياسياً، الإدارة السورية في مواجهة الهجمات الإسرائيلية المتكررة، سواء عبر مجلس الأمن أو في مختلف المحافل.
وعلى الرغم من حالة الترقب والتنافس، لا ترغب تركيا، وكذلك إسرائيل، في مواجهات عسكرية في سوريا، ويبدو أنهما أقرتا قواعد اشتباك لتجنب أي صدام غير مرغوب فيه، خلال اجتماع فني لوفدين منهما في باكو، عاصمة أذربيجان، في 9 أبريل الماضي، على خلفية التوتر في شرق حمص وحماة.
وجنبت هذه القواعد، حسب تقارير تركية وإسرائيلية، اشتباكاً بين طائرات من الجانبين عندما نفّذت إسرائيل ضربات قرب قصر الرئاسة في دمشق.
وأكد مسؤولون إسرائيليون أن المحادثات الفنية في أذربيجان كانت إيجابية، وأن إسرائيل قد تقبل بقاعدة عسكرية محدودة لتركيا في سوريا.
يبقى أن الحضور التركي في سوريا أظهر تحولاً من الدعم غير المباشر إلى التأثير المباشر في الأحداث والتطورات، انطلاقاً من سعي أنقرة لتحقيق مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، ومع دعم الرئيس الأميركي دونالد ترمب لدور تركي كبير في سوريا، يتوقع أن يكون لأنقرة دوراً حاسماً في تحديد مستقبل سوريا، وربما المنطقة أيضاً.