في مقابلة خاصة مع التلفزيون العربي، يكشف المتحدث السابق باسم الخارجية السورية، جهاد مقدسي، العديد من الأسرار التي اكتنفت أداء النظام السابق خلال السنة الأولى من الثورة السورية عام 2011.
فقد استدعاه بشار الأسد من لندن إلى دمشق، وأسند إليه مهمة تقديم سردية النظام للثورة وأحداثها للمؤسسات الدولية والرأي العام الدولي، غير أن مقدسي الحاصل على الدكتوراه في الدرسات الإعلامية من بريطانيا سرعان ما اكتشف أن مهمته لتسويق النظام تتناقض مع مبادئه الأخلاقية وطبيعة عمله، فانشقّ عنه في أواخر عام 2012.
وفي عام 2014 انضم مقدسي إلى منصّة القاهرة المعارضة للنظام، واكتشف أن المعارضة دخلت فيما سمّاه السيرك السياسي، وأن المعادلات الدولية تطيل من عمر النظام الذي كان يستغلها لشراء الوقت لا البحث عن حلول سياسية للأوضاع في البلاد، فآثر الانسحاب من منصة القاهرة بعد عامين من الانخراط فيها، وابتعد عن الأضواء والعمل السياسي منذ ذلك الوقت، وأقام وأسرته في الولايات المتحدة الأميركية.
جهاد مقدسي.. في رواية أخرى
يكشف مقدسي في حوار أجراه معه الزميل أنس رزق في برنامج “وفي رواية أخرى” للمرة الأولى كواليس الصراعات السياسية في النظام السابق، ودوره الذي ثار لغط كبير حوله فيما اعتبره معارضون تسويقًا لرواية النظام لمجزرة الحولة التي ارتكبها النظام في مايو/أيار عام 2012، ويقول مقدسي إن تلك المجزرة شكلت الانعطافة الحاسمة في عمله مع النظام، ودفعته للانشقاق عنه.
كما يكشف مقدسي كواليس إصدار البيان الشهير الذي اعترفت فيه الحكومة السورية لأول مرة بحيازة أسلحة كيميائية وجرثومية، وكيف أن وزير الخارجية آنذاك وليد المعلم بادر إلى ذلك مما أغضب الرئيس السوري بشار الأسد الذي قرّعه بشدة وقاطعه لنحو عشرين يومًا.
وليد المعلم وزير الخارجية السوري خلال السنوات الاولى للثورة-غيتي
ويقول مقدسي إن مبادرة المعلم كانت لطمأنة الولايات المتحدة إلى أن دمشق لا تعتزم استخدام هذه الأسلحة، وتريد التأكد من عدم وقوعها في أيدي مجموعات مسلحة.
كما يتطرق مقدسي إلى دور لونا الشبل، مستشارة الرئيس السوري التي قتلت في حادث سير تردد أنه مدبر في يوليو/تموز عام 2024، وفي توريط وزير الخارجية بعرض فيديو لأحداث وقعت في طرابلس باعتبارها وقعت في الأراضي السورية، ما شكك في مصداقية المعلم.
يستذكر جهاد مقدسي أول لقاء له مع بشار الأسد، فيقول إن الأخير استدعاه في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2011 من لندن، حيث كان يعمل ناطقًا باسم السفارة السورية هناك، وأخبره أنه كان يعتزم الاستعانة به منذ سنتين لكنه لم “يقدر على ذلك”
وفي الحوار نتعرّف إلى آراء الأسد في بعض رجالات نظامه، ومنهم المعلم ونائبه في ذلك الوقت فيصل مقداد.
ويقول مقدسي الذي اختفى عن المشهد السياسي منذ عام 2016، إنه أصدر آنذاك بيانًا أعلن فيه ابتعاده عن العمل السياسي والشان العام، بعد تجربته في منصة القاهرة، وهاجر إلى الولايات المتحدة لاستعادة حياته الخاصة، وكان قبل ذلك قد أقام لفترة قصيرة في الإمارات العربية المتحدة.
عمل مقدسي في الولايات المتحدة مديرًا لإدارة المخاطر والمنشآت والأرصدة في مؤسسة غير ربحية تعنى بالتربية والتعليم، ويصف نفسه بمرتدي القبعتين، الثانية منهما هي عمله في مكتب محاماة كبير في واشنطن متخصّص بالعقوبات الأميركية، وينحصر عمله في إدارة العلاقات مع العملاء القادمين من دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا.
منصة القاهرة سيرك سياسي
وفي معرض تفسيره لترك العمل السياسي والشان العام يقول مقدسي إنه كان نوعًا من الشجاعة الشخصية منه تركه العمل مع نظام بشار الأسد عندما أدرك أن المنظومة السياسية للأسد وصلت إلى حائط مسدود، وكذلك عندما ترك منصة القاهرة التي أنشئت عام 2014، عندما اكتشف أن مؤتمرات جنيف الخاصة بسوريا كانت تعقد بينما كانت المعارضة والدول الراعية وحلفاء الشعب السوري، يعرفون أن نظام بشار الأسد لن يقدم تنازلات، ما جعل مقدسي يشعر أن الوضع أصبح شبيهًا بالسيرك السياسي.
وفد المعارضة السورية الى مؤتمر جنيف 2014-غيتي
ويقول مقدسي إن المعارضة كانت موحدة عام 2014، وكان هناك وفد واحد يمثلها قبل أن تتعدد وتصبح معارضات، ويشدد على أنّ النظام لم يكن في وارد تقديم تنازلات بل إن هدفه كان إعادة السوريين إلى الحظيرة التي كانت موجودة قبل عام 2011.
زمن المنصات انتهى
يرفض جهاد مقدسي تحميل المعارضة مسؤولية بقاء النظام، موضحًا أنّه كان هناك عدم وعي بطبيعة هذا النظام وقراءة خاطئة له، وأن السوريين لن يصلوا إلى أي مكان بتعدد المنصات التي يلفت إلى أن دورها انتهى فعليًا مع هروب بشار الأسد، ووصول قوات ما باتت تعرف بالإدارة السورية الجديدة إلى العاصمة دمشق في ديسمبر من العام الماضي.
ويقول إن النظام كان يرفض الشراكة والحل السياسي الذي سيفضي إلى رحيله، وإن من المعيب الحديث الآن عن منصة في القاهرة أو موسكو، حيث يجب أن تكون هناك منصة دمشق فقط.
ويوضح مقدسي أن كل ذلك أصبح من الماضي، وأن اوراق المعارضة أصبحت حاليًا من الماضي، وأن الأكثر أهمية هو روح التغيير والانتقال السياسي في سوريا، وأنه من المعيب أن يذهب أي سوري إلى السفارات الأجنبية الآن، خصوصًا أن العهد الجديد في البلاد يعلن انفتاحه على الجميع، وأنه سيشكل جسمًا سياسيًا انتقاليًا جديدًا خلال ثلاثة أشهر يضم الجميع.
استدعاء الأسد
في سياق حديثه إلى التلفزيون العربي، يستذكر جهاد مقدسي أول لقاء له مع بشار الأسد، فيقول إن الأخير استدعاه في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2011 من لندن، حيث كان يعمل ناطقًا باسم السفارة السورية هناك، وأخبره أنه كان يعتزم الاستعانة به منذ سنتين لكنه لم “يقدر على ذلك”.
الأسد استدعى مقدسي لإنشاء سردية للنظام-غيتي
ويمضي مقدسي في رواية لقائه الأول بالأسد، ويقول إنه مازح رئيس النظام السابق بالقول إنه أمر غير مطمئن عندما يكون “لا يمون الرئيس” على إحضاره، وإن الأسد أجابه أنه كانت هناك معارضة في وزارة الخارجية لقدوم مقدسي مسؤولًا عن الإعلام فيها، واصفًا الوزارة بأنها كلاسيكية الطابع، مثل القلعة الستالينية، لا وجود لناطق إعلامي فيها وبياناتها تصدر استنادًا إلى مصدر سياسي يرفض الكشف عن اسمه، وهو أمر مضحك كما يشدد مقدسي.
ويستطرد مقدسي قائلًا إن الأسد أخبره عن اعتزامه البدء بحوار في البلاد، ويريده أن يكون جزءًا منه، وأن يعمل على إنشاء سردية للصراع الدائر فيها، “فالعالم تسأل ماذا يحدث في سوريا وأنت ستقوم بقيادة هذه السردية ليعرف العالم بالجهود التي نبذلها لحل الوضع سياسيًا”، بحسب ما ينقل مقدسي عن الأسد.
يقول مقدسي إن بشار الأسد أخبره أنه قرّع وليد المعلم كتلميذ في الابتدائية، ويكشف أنه وصف فيصل مقداد، في أحد اللقاءات، بأنه غير قابل للتطوّر، وأرفق ذلك بوصف غير لائق له
ويضيف أنه أكد لرئيس النظام السابق ضرورة أن تتوفر لديه المعلومة، خصوصًا أن الدائرة المعنية بالإعلام في الخارجية السورية كانت مجرد أرشيف للبرقيات الصحافية التي ترسلها السفارات السورية في العالم إلى الخارجية.
ويقول مقدسي إن الاسد أخبره أنه سيكون جزءًا من صناعة المعلومة ولن ينتظر مجيئها متأخرة إليه، وبالفعل عيّنه لاحقًا في اللجنة الأمنية التي شكلتها وزارة الخارجية، وكانت تتكون من فيصل مقداد نائب وزير الخارجية آنذاك، وعلي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني، ولونا الشبل المستشارة الإعلامية في القصر الجمهوري، ومسؤولون في الأمن العسكري.
الأسد يشتم فيصل مقداد
ويشدد مقدسي على أنه كان ناطقًا باسم الحكومة السورية وليس الخارجية فقط، وأن مرجعيته كانت رئيس النظام السابق الذي كان يلتقيه مرتين في الشهر، ويتصل به هاتفيًا بشكل أكبر، ويتلقى منه التعليمات في الشؤون الكبيرة والصغيرة، وهو ما أتاح له معرفة رأي بشار في عدد من مسؤولي الخارجية السورية.
فيصل مقداد كان يصف ثوار درعا بالأوغاد بحسب مقدسي-غيتي
ويقول مقدسي إن بشار الأسد وصف فيصل مقداد، نائب وزير الخارجية السوري وليد المعلم آنذاك، بأنه غير قابل للتطوّر، وأرفق ذلك بوصف غير لائق له.
ويسرد مقدسي حكاية تتعلق بأداء المقداد خلال أحداث درعا، وكيف أنه كان يصف أهاليها بالأوغاد رغم أنه يتحدر من المنطقة نفسها، في اجتماعات اللجنة الأمنية.
ويقول مقدسي إن أعضاء اللجنة الأمنية وبينهم ضباط كبار في الجيش، كانوا يستغربون أوصاف مقداد لأهالي درعا، وأن لواء رفيعًا في الجيش انتحى بمقدسي جانبًا بعد أحد الاجتماعات وقال له: “هل تصدّقه (مقداد)؟”.
مجزرة الحولة وتحوّلات مقدسي
وردًا على اتهامه بتسويغ مجزرة الحولة في مؤتمر صحافي عقده في أعقاب المجزرة في مايو/ أيار عام 2012، ينفي مقدسي ذلك، ويقول إن وزير الخارجية وليد المعلم استدعاه آنذاك بعد أن زوده ببرقية عسكرية، تتكون من نحو سطرين تنفي تورط النظام بارتكابها وتتهم المعارضة بالقيام بذلك، وطلب منه عقد مؤتمر صحافي حول الأمر.
مجرزة الحولة من أوائل مجازر النظام السوري وقضى فيها أكثر من 100 سوري-غيتي
ويقول مقدسي إنه رفض في البداية، قائلًا إن هذه مهمة الجيش ووزارة الدفاع وليس الخارجية السورية، وإن ما سيقوم به نوع من الافلام الهزلية وسيكون كمن يفسر الماء بالماء، لكن المعلم أصر على أن يعقد مقدسي مؤتمرًا صحافيًا، ما اضطر مقدسي إلى طلب اللقاء مع رئيس النظام السابق، وأخبره أن الأفضل أن تصدر الحكومة بيانًا صحافيًا، فمن شأن المؤتمر الصحافي إحراج الحكومة وإرباك روايتها، خصوصًا أنه لا توجد معطيات كافية تؤكد أن المعارضة ارتكبت المجزرة.
كل هذه الدراما
ويضيف مقدسي إنه أخبر الأسد مازحًا أن من غير المنطقي أن بلدًا فيها كل هذه الدراما لا تستطيع أن تفبرك أو تدبّر أمرها في موضوع كهذا إلا بمؤتمر صحافي قد يحرجها.
مقدسي في المؤتمر الصحافي عن مجزرة الحولة-غيتي
لكن الأسد طلب منه أن يعقد المؤتمر، فقال له إنه لا يستطيع من دون توافر المعلومات الكافية، فأخبره الأسد أنه سيرسل إليه الضابط المسؤول عن المنطقة ليضعه في صورة الموقف.
ويقول مقدسي إنه لم يصدّق سردية النظام حول المجزرة، وسعى للحيلولة دون عقد المؤتمر الصحافي، وإنه قال لزوجته في ذلك اليوم إنه لم يعد يشعر بالأمان على حياته وأسرته، وإن المجزرة كانت نقطة التحول الكبرى في موقفه.
المعلّم يفبرك بيانًا باسم الأسد
وبشأن بيانه الشهير عن حيازة النظام أسلحة كيميائة وجرثومية في 23 يوليو/ تموز عام 2012 يقول مقدسي إن المعلم أخبره أن هذا توجيه من الرئيس، بناء على طلب روسي لطمأنة الأميركيين بأن هذه الأسلحة لن تقع في أيدي جماعات إرهابية.
ويوضح مقدسي أن المعلم أملى عليه صيغة البيان الذي يعترف بوجود هذه الأسلحة لدى النظام، وأنه لن يستخدمها إلا في حالة التعرض لعدوان خارجي، وأنها في أماكن آمنة ومحروسة جيدًا.
ويقول مقدسي إنه أصر على أن يتضمن تعبير “إن وجدت” هذه الأسلحة، ويضيف أن الأسد اتصل به بعد صدور البيان غاضبًا، نافيًا أن يكون قد أوعز للمعلم بإصداره.
ويقول مقدسي إن الأسد أخبره أنه قرع المعلم كتلميذ في الابتدائية، ويضيف أن بشار قاطع وزير خارجيته لنحو عشرين يومًا آنذاك.
المزيد من المستور الذي يكشفه جهاد مقدسي عن تجربته في نظام بشار الأسد، في الجزء الأول من المقابلة معه ضمن برنامج “وفي رواية أخرى”، التي أدارها الزميل أنس أزرق. فماذا يقول عن رأيه بنظام الأسد المنهار والمعارضة، وماذا عن كواليس المواجهة مع وليد المعلم وتوبيخ بشار الأسد لوزير خارجيته؟