شيّع اللبنانيون الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بعد حقبة طويلة ارتبطت بالرجل الذي اغتالته إسرائيل في 27 سبتمبر/ أيلول 2024، وشهدت صعود المكوّن الشيعي في البلاد والمنطقة.
ولا يُعرَف ما إذا كان الحزب سيحافظ على نفوذه السابق الذي تمتّع به خلال 32 عامًا كان فيها نصر الله على رأس الحزب، أم أن دورة الصعود والتراجع التي مرّت بها المكوّنات اللبنانية الكبرى ستنسحب على الحزب وما يمثّل.
فبعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري 14 فبراير/شباط 2005 بدأ نفوذ ما سُمي بالسُنية السياسية بالتراجع.
وشكّل الحريري خمس حكومات في البلاد ما بين عامي 1992 و 2004، وارتبطت حقبة ما بعد الحرب الأهلية والإعمار بالرجل الذي لعب دورًا كبيرًا في اتفاق الطائف، الذي كان عنوانًا للنفوذ السعودي في لبنان والمنطقة في تسعينيات القرن الماضي.
وكذلك اغتيل الرئيس اللبناني بشير الجميل في 14 سبتمبر/ أيلول 1982، قبل أن يستلم منصبه، بانفجار قنبلة في مقر حزب الكتائب الذي كان يترأس جناحه العسكري خلال الحرب الأهلية.
وبعد اغتياله تعمّقت أزمة ما تسمى المارونية السياسية وزادت انقساماتها، وانتهت إلى حالة من الوهن السياسي الذي يشبه ما أصيب به لاحقًا المكوّن السُني.
وبينما ارتبط الصعود الماروني بالنفوذ الغربي، والسُني بالسعودي، فقد ارتبط صعود الشيعة السياسية بالتوسع الإيراني في المنطقة، وخصوصًا في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وشكّل حزب الله بقيادة أمينه العام الراحل حسن نصر الله مركز هذا النفوذ ورأس حربته.
أنصار حزب الله يحتجون على تصريحات لنائبة المبعوث الاميركي عن الحزب-غيتي
صعود حزب الله
تأسس حزب الله في ثمانينيات القرن الماضي، وتعود بداياته الجنينية إلى شهور الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 ووصول القوات الإسرائيلية إلى قلب العاصمة بيروت، وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من هناك إلى تونس وبلاد أخرى.
وبينما بدأت مسيرة منظمة التحرير بالتراجع عن المقاومة المسلحة وصولًا إلى اتفاق أوسلو عام 1994، بتأثير من الضربة الإسرائيلية لها وتراجع قوس الخيارات أمامها، بدأت مسيرة حزب الله العسكرية وصعوده حركة مقاومة مسلحة بمرجعية دينية، وتزامن هذا مع تراجع المارونية السياسية وازدياد النفوذين السوري والإيراني.
واستمر حزب الله بالصعود حتى أصبح رقمًا صعبًا في معادلات المنطقة السياسية بأسرها، قبل العدوان الإسرائيلي الأخير المتزامن مع العدوان على قطاع غزة، حيث تكبّد حزب الله أفدح خساراته باغتيال قيادات الصف الأول فيه، وعلى رأسهم أمينه العام الراحل حسن نصر الله.
الخميني في مطار روزي قرب باريس قبل عودته لطهران عام 1979-غيتي
بعودة آية الله الخميني من باريس إلى إيران والثورة التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي عام 1979، استدارت إيران إلى دول المشرق العربي لتوسيع نفوذها، تحت شعار تصدير الثورة، ووجدت في الحركة التي أسسها رجل الدين الشيعي موسى الصدر تحت اسم حركة المحرومين في عام 1974 حليفًا في لبنان.
وخلال الاجتياج الإسرائيلي للبنان عام 1982 بدأت تنشأ داخل حركة أمل تيارات أخرى، وانتهى الأمر بالإعلان عن حزب الله عام 1985.
ومنذ ذلك الوقت نشأت في لبنان ما تسمى الثنائية الشيعية التي تتكوّن من حركة أمل وحزب الله، ونشأ بينهما تقاسم وظيفي رغم الخلافات بينهما، حيث منحت حركة أمل التمثيل السياسي للمكوّن الشيعي بينما احتفظ حزب الله بالميدان والمقاومة المسلحة.
وخلال أمانة حسن نصر الله لحزب الله المديدة (نحو 32 عامًا) حافظ الثنائي على هذه العلاقة التي تثار شكوك حول مدى صمودها بعد اغتيال الرجل.
صورة تعود إلى 2006 لحسن نصر الله ونبيه بري-غيتي
الأمناء العامون لحزب الله
• صبحي الطفيلي (1989- 1991)
• عباس الموسوي (1991- 1992)
• حسن نصر الله (1992- 2024)
• هاشم صفي الدين الذي ترأس الحزب لفترة قصيرة جدًا قبل اغتيال إسرائيل له في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، بعد نحو أسبوع من اغتيال نصر الله
• نعيم قاسم الذي انتخبه الحزب أمينًا عامًا في 29 أكتوبر الماضي، بعد أن كان نائبًا للأمين العام للحزب منذ 1991 حتى تاريخ انتخابه.
يذكَر أن قيادة حزب الله كانت جماعية من عام 1982 إلى عام 1989 ، وأن أمينه العام الأول أُبعد من الحزب أو أُقيل منه لتفرّده بالقرار كما تقول بعض المصادر، وإعلانه العصيان المدني على الحكومة اللبنانية عام 1991 من جانب واحد.
أما الأمناء العامون الثلاثة الذين جاءوا من بعده فقد قتلوا في عمليات اغتيال قامت بها إسرائيل، التي اغتالت الأمين العام الثاني للحزب، عبّاس الموسوي، عام 1992 بعد نحو 9 أشهر فقط من قيادته للحزب، كما اغتالت الأمين العام الثالث حسن نصر الله عام 2024 وبعده هاشم صفي الدين في العام نفسه.
84 طنًا من المتفجرات لاغتيال نصر الله
مساء يوم الجمعة 27 سبتمبر/ أيلول الماضي شنّت إسرائيل سلسلة غارات عنيفة جدًا على حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، وُصفت بأنها الأعنف منذ أكتوبر 2023، وبعدها أعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري أنّ الجيش نفّذ عملية دقيقة جدًا في بيروت، استهدفت المقر المركزي لحزب الله الواقع تحت منازل سكنية كما قال.
موقع اغتيال حسن نصر الله في سبتمبر الماضي-غيتي
وتسبّبت الغارات التي ألقت ما لا يقل عن 80 قنبلة خارقة للتحصينات، زنة الواحدة منها لا تقلّ عن طن واحد، بتسوية ستة مبان في المنطقة بالأرض، وتدمير ثلاثة شوارع، وإحداث حفرة عميقة في الأرض.
وخلال ساعات تواردت الأخبار عن استشهاد الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في الغارات، قبل أن يعلن الحزب في اليوم التالي استشهاده رسميًا.
ويروي يوآف غالانت وزير الأمن الإسرائيلي في حينه أن هيئة الأركان عرضت عليه خطة لاغتيال نصر الله قبل نحو خمسة أيام من تنفيذها، وعندما سأل عن فرص نجاحها قيل له إنها بنسبة 90%، فسأل عن كمية المتفجرات التي ستُسخدم في العملية فقيل له إنها بزنة 40 طنًا، فطلب منهم مضاعفة الكمية لتصل إلى 80 طنًا لضمان أن تكون نسبة النجاح 99%.
ومساء الجمعة (يوم اغتيال نصر الله) وبينما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي في مقر الأمم المتحدة بعد إلقائه خطابًا أمام الجمعية العامة للمنظمة الدولية، بدأت عملية الاغتيال بإلقاء 84 طنًا من المتفجرات على المكان المُستهدف، كما روى غالانت لوسائل إعلام إسرائيلية، موضحًا أنه كانت هناك مخاوف من مغادرة نصر الله في أي لحظة، وأن معلومات وردتهم عن وجوده في المكان لحظة قصفه.
غالانت وقائد القوات الجوية الاسرائيلية في يوم اغتيال نصر الله-غيتي
اعتبر نتنياهو الاغتيال خطوة ضرورية “لتغيير ميزان القوى في المنطقة سنوات” بينما أثيرت أسئلة حول اختراق أمني كبير في صفوف الحلقة الضيقة لنصر الله، وشامل في بقية أجهزته، خاصة بعد تفجيرات أجهزة النداء (البيجر) التي وقعت قبل اغتيال نصر الله بعشرة أيام (17 سبتمبر) والتي أصيب جراءها آلاف من كوادر الحزب، يقدّر عددهم ما بين 2750 شخصًا إلى 5000، في ضربة اُعتبرت صاعقة وغير مسبوقة في تاريخ الحروب في العالم كله.
أبرز الاغتيالات قبل نصر الله
وكانت إسرائيل نفّذت سلسلة اغتيالات داخل الأراضي اللبنانية منذ بدء عدوانها على لبنان في أكتوبر 2023:
• ففي الثاني من يناير/ كانون الثاني 2024، اغتالت إسرائيل القيادي الكبير في حركة المقاومة الإسلامية (حماس) صالح العاروري، في قصف استهدف مكتبًا لحماس في الضاحية الجنوبية لبيروت.
تشييع صالح العاروري القيادي في حماس في بيروت-غيتي
• وفي 30 يوليو/ تموز اغتالت فؤاد شكر، المعروف بالحاج محسن، وهو من أبرز القادة العسكريين للحزب، ومن المقربين لأمينه العام الراحل حسن نصر الله، في غارة استهدفته في حارة حريك.
• وفي 20 سبتمبر/ أيلول اغتالت إسرائيل إبراهيم عقيل قائد وحدة الرضوان في حزب الله، وهي وحدة النخبة في الحزب، في غارة على ما قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري، إنه اجتماع لقادة قوة الرضوان تحت الأرض.
• وفي 27 سبتمبر/ أيلول اغتالت إسرائيل الأمين العام للحزب حسن نصر الله.
• وبعد أقل من أسبوع على اغتيال نصر الله، اغتالت إسرائيل خليفته هاشم صفي الدين في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2024.
وقف إطلاق النار
وبدخول اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 حيز التنفيذ، بدأ اليوم التالي لحزب الله الذي خرج من العدوان أكثر ضعفًا مما كان عليه في حروبه السابقة كلها مع إسرائيل، وبحصيلة فادحة من الخسائر حصوصًا على مستوى قيادات الصف الأول وقادته الميدانيين.
وبعد أقل من أسبوعين سقط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، لتُضاف للحزب ضربة أخرى يتلقاها بخسارة حليفه التي من شأنها قطع الطريق على طرق إمداده بالسلاح من إيران عبر الأراضي السورية، كما أضعفت طهران نفسها التي أخذ نفوذها في التراجع في دول المشرق العربي.
وبتراجع إيران يتقدم النفوذ السعودي والغربي في لبنان حيث تسارعت الخطوات لانتخاب رئيس جديد للبلاد بعد أكثر من عامين من الشغور الرئاسي، وهو ما حدث في 9 يناير/كانون الثاني الماضي بانتخاب مجلس النواب اللبناني قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيسًا للبلاد.
انتخاب جوزاف عون رئيسا للبنان في يناير الماضي-غيتي
حكومة بلا ثلث معطل
وفي 8 فبراير/ شباط شكّل القاضي الدولي نواف سلام حكومة جديدة، بعد تكليفه في 13 يناير/ كانون الثاني بذلك، وهي الحكومة اللبنانية الأولى منذ صعود حزب الله التي لا تضمن للثنائي الشيعي ما كان يسمى بالثلث المعطّل.
كما قد يشهد مقبل الأيام تفكك الثنائية الشيعية نفسها، خاصة إذا سعى قادة حركة أمل للحفاظ على مكتسباتهم والنأي بأنفسهم عن حزب الله، الذي وجد نفسه في حالة إنكار واندفاع غير محسوب في دفاعه عن وجوده ونفوذه السابق، بعدما ظهرت القيادة وكأنها فقدت القدرة على السيطرة على الجمهور، كما حدث بعد الهجوم على آلية اليونيفيل في محيط مطار بيروت، وقبله مسيرة الدراجات النارية في مناطق عدّة، والأمران فعلهما جمهور “حزب الله”، واستكرهما أمينه العام نعيم قاسم.
نبيه بري مستقبلا نائبة المبعوث الأميركي للمنطقة التي هنأت إسرائيل بهزيمة حزب الله-غيتي
لعلها “ليلة السكاكين الطويلة” بدأت تُسنّ، لحزب كان يمتلك مفاتيح السلم والحرب في البلاد، والقدرة على التشكيل والتعطيل متى شاء، ليجد نفسه بعد عدوان إسرائيلي طويل وبالغ العنف أمام مبعوثة أميركية تشكر من القصر الرئاسي في بعبدا إسرائيل على هزيمته، فلا يستطيع فعل أي شيء يذكر لوقف نهايات قد تكون بطيئة ومؤلمة ولكنها متوقعة.