من بعيد، تبدو الانتخابات العامة التي أُجريت أخيراً في العراق علامة إضافية على رسوخ تقاليد تداول السلطة، لكنها عن قرب لا تتعدى تنافساً بين مؤثرين في السياسة والمال على تدوير السلطة، بينما لا تمثل لعبة اختيار الأسماء المنشودة سوى واجهة تنافس أكثر تعقيداً.
في ندوة للمعهد الملكي البريطاني «تشاتام هاوس»، الأربعاء، ظهر عباس راضي وهو الرجل الذي بات يُوصف بـ«حافظ أسرار» تحالف «الإطار التنسيقي»، منشغلاً بزيادة منسوب التشويق الذي يطغى على الرأي العام بخصوص مرشحي رئاسة الحكومة. لوح بملف برتقالي كان يحمله طوال الأسبوع الماضي، إذ يضم أسماء قيادات شيعية قد تتولى إحداها منصب رئيس الحكومة.
قال راضي: «هناك تسعة مرشحين وسنعرف النهائي الأسبوع المقبل». وفي وسائل الإعلام المحلية أُعيد نشر الأسماء مراراً، وبطرق وتسلسلات مختلفة، لكن الجديد بحسب راضي هو استبعاد مرشحين طلبوا الترشيح عبر الهاتف، «قلنا لهم هذه مسألة محصورة بالقيادات».
المرشحون التسعة
على مدار ساعتين كان راضي، وهو «الأمين العام» للتحالف الشيعي، يعزز الانطباع لمتحدثين آخرين في الندوة، مثل هوشيار زيباري وزير الخارجية العراقي الأسبق، وفيكتوريا تايلور، المساعدة السابقة لوزير الخارجية الأميركي لشؤون العراق وإيران، بأن الأجندة السياسية الجديدة للعراق في منطقة ملتهبة ستبقى سراً أيضاً. قال إن فريقاً يحمل اسم «إدارة المخاطر» أعد برنامج الحكومة سيراعي عموماً «المصلحة العراقية»، والتوازن بين اللاعبين الإقليميين.
وأوحى راضي بأن الفاعلين الشيعة الذين فازوا في الانتخابات الأخيرة منشغلون في المفاضلة بين الأسماء التسعة، والبحث عن أيهم أقرب للتوازن بين القبول المحلي والدولي.
تقول مصادر خاصة، لـ«الشرق الأوسط»، إن الانشغال الحقيقي للقوى الشيعية ينصب حالياً ليس على الأسماء، بل على تشكيل حكومة تضمن مشاركة «آمنة» لجماعات مسلحة تصنفها الولايات المتحدة إرهابية، فازت بعدد وازن من المقاعد في البرلمان الجديد.
لذا، تبدو مسألة الاسم المحفوظ في الملف الأصفر محاولة لكسب الوقت، وفسح المجال أمام ضبط التمثيل الفصائلي في المؤسسات التنفيذية دون مشكلات مع الأميركيين مستقبلاً. تقول مصادر، إن الحكومة لن ترى النور قبل ضمان هذا الأمر.
لا ولاية للسوداني
أنهت فيكتوريا تايلور جولة في العراق، بوصفها خبيرة تستفيد من منصبها السابق ما بين يوليو (تموز) 2023 ويونيو (حزيران) 2025. لقد أجرت في بغداد وأربيل ودهوك، جولة اجتماعات مع مجموعة متنوعة من القادة، بعضهم من «الإطار التنسيقي»، ومن أحزاب سنية، وبالطبع «أصدقاؤها الكرد أيضاً».
كان لافتاً بالنسبة لها، أنها «سمعت إجماعاً حقيقياً داخل النخبة الشيعية حول كيفية اختيار رئيس الوزراء المقبل، وما الرؤية لهذا الرئيس»، لكن «الشخص الوحيد الذي ربما لم يكن جزءاً من هذا الإجماع هو رئيس الوزراء محمد شياع السوداني».
على عكس متحدثين شيعة من أحزاب مثل «الحكمة» التي يقودها عمار الحكيم، فإن تايلور «سمعت من الجميع اتفاقاً واسعاً بأنه لن تكون هناك ولاية ثانية، وأن الإطار التنسيقي كان يشعر بقوة أن رئيس الوزراء لا ينبغي أن تكون له ولاية ثانية، وأنه لا ينبغي أن يمتلك حزباً سياسياً خاصاً به، وأن عليه أساساً أن يُقدّم تعهداً والتزاماً بأنه لن يشكّل حزباً سياسياً».
رغم ذلك، حاول عباس راضي تغيير هذه المقاربة إلى أن «الإطار التنسيقي» لا يشترط على رئيس الحكومة عدم تشكيل حزب سياسي، بل عدم استغلاله لموارد الدولة انتخابياً.
مع أن الحياة السياسية في العراق قائمة على الأدوار التي يقوم بها الأفراد وليس الأجندات السياسية وتفاعل المجموعات أو الأحزاب، لكن «الإطار التنسيقي» يخوض حوارات قد تكون غير واقعية عن «رئيس وزراء يجلس على كرسي متحرك، يُجرى التحكم به عن بُعد»، وهناك لجنة تنظر في مرشحين مناسبين.
كان واضحاً للدبلوماسية الأميركية أن «دور رئيس الوزراء في هذا التصور هو أن يكون منفّذاً لسياسات الإطار التنسيقي، وليس مطوّراً لتلك السياسات. كانت الرؤية لرئيس وزراء مدير عام».
وقالت تايلور: «أعتقد أن الإطار التنسيقي ربما كان يعتقد أن الشخص الذي اختاروه في البداية، وتقصد السوداني، هو الشخص نفسه الذي يبحثون عنه اليوم، لكن بالطبع هذا ليس ما حدث في النهاية».

مسار معقد
لوح راضي بالملف الأصفر مرة أخرى، وقال إنه «لم يبح بكل الأسرار بعد». بالنسبة لرئيس الوزراء المنتظر فإنه «يجب أن يحترم القبول الوطني، بحيث لا يكون شخصاً مسيئاً أو مستفزاً للكرد والسنة والجهات الأخرى، وأن يحقق المصلحة الدولية بمعنى أنه لا ينبغي أن تكون له مشكلات مع المجتمع الدولي».
يضيف راضي: «لسنا مع فرض شروط تأتي من الخارج، بل هي معادلة أن يكون رئيس الوزراء فعالاً ولديه رؤية للتعاون الخارجي، وألا يكون عدائياً للبيئة الدولية».
من وجهة نظره، فإن العملية التي يراقبها راضي عن قرب داخل مطبخ الإطار التنسيقي ستكون سريعة، لكن المعلومات تفيد بأن تشكيل الحكومة الحالية يمر بمسار معقد وطويل نسبياً.
لكن مصادر خاصة تقول إن «على القوى الشيعية، أولاً، أن تجد حلاً لتكييف وضع الفصائل المعاقبة أميركياً داخل الحكومة الجديدة؛ حتى تضمن مشاركتها من دون عواقب». وتضيف: «بعد ذلك، تأتي الخطوات اللاحقة، تمرير المرشح والصفقة على اللاعبين الآخرين، النجف، والتيار الصدري، وإيران، قبل اكتشاف ردود الفعل الأخرى».

دورة حياة «العصائب»
لكن «السؤال الكبير»، من وجهة نظر فيكتوريا تايلور، هو مدى استعداد الولايات المتحدة لفرض شرط بأن الجماعات المرتبطة بهذه التنظيمات لن تكون جزءاً من عملية تشكيل الحكومة.
تميل الدبلوماسية الأميركية إلى الاعتقاد أن «عصائب أهل الحق، التي حققت نتائج ممتازة في الانتخابات، هي الجماعة التي تمثل المشكلة الكبرى في هذا السياق»، لكنها تعترف بأنه «من الصعب على الإطار التنسيقي استبعاد حزب لديه هذا المستوى من النجاح وما يزال مؤثراً سياسياً».
لم تكن تايلور متأكدة إلى أي «مدى ستكون الولايات المتحدة مستعدة لفرض مثل هذا الشرط على عملية تشكيل الحكومة»، لكن مصادر موثوقة تشير إلى أن «المفاوضين داخل الإطار التنسيقي الذين لا يرغبون بالتخلص أبداً من قيس الخزعلي ويقدمون له خدمات سياسية تساعده على التحول من زعيم ميليشيا إلى رئيس حزب سياسي، يعملون بجد على إنضاج صيغ تجنب العصائب مفاجآت ترمب».
تقول المصادر إن «الصيغة الأكثر ترجيحاً بالنسبة لوضع العصائب هي توكيل حصصهم في الحكومة إلى أشخاص مستقلين يعملون لدى الحركة مقاولين»، هذه العملية بالنسبة للخزعلي ليست جديدة عليه، لكنها تغطي ما تبقى من الفترة الانتقالية التي يحتاج إليها لإكمال دورة التحول من ميليشيا إلى شيء آخر. يقول مقربون منه إنه يفكر الآن «بانتخابات 2030، إذ ستكتمل دورة حياة الفصيل بوصفه حزباً مكتمل النمو».

برلمان الفصائل المسلحة
«لقد رأيتُ هذا الفيلم من قبل»، يقول وزير الخارجية الأسبق هوشيار زيباري ليخالف توقعات عباس راضي المتفائلة عن «سرعة العملية». بالنسبة للرجل فإن «الكثير من التقلبات تأتي في الطريق، وهناك مفاجآت».
تبدو مطالب الكرد مكررة؛ «الموازنة، قانون النفط والغاز، إصلاح قانون الانتخابات، حكومة اتحادية جديدة مستندة إلى الدستور». وعن قضايا أخرى مثل «تطبيع الوضع في قضاء سنجار (شمال غربي الموصل)، ملف المفقودين، والمناطق المتنازع عليها»، يمكن أن تذهب إلى لجان ثنائية.
ويأمل زيباري تشكيل «حكومة جيدة، مقبولة، ببرنامج عملي، كي يتمكّن العراق من تجاوز هذه الصعوبات». لكنه لا يرى المسار سهلاً. يقول إنه «أكثر تعقيداً بكثير، لأننا نعيش في منطقة تشهد تصعيداً إقليمياً متزايداً، والعراق جزء من هذا».
يقول زيباري: «الولايات المتحدة سترسل وفوداً رفيعة المستوى إلى العراق قريباً، وكذلك إلى إقليم كردستان. بالتأكيد، هم لا يريدون الانخراط مباشرة في تشكيل الحكومة، فهذا شأن عراقي بحت، لكن رأيهم يظل مهماً للجميع، دون أن ننسى رأي إيران أيضاً».
ويرصد زيباري «إشارات تحذيرية في هذه الانتخابات، إذ يتخوف بعض الأصدقاء (إشارة إلى الأميركيين) من تركيبة البرلمان الجديد».
بالفعل، حققت الكتل الشيعية عموماً طفرة نسبية في عدد المقاعد، إلكن فصائل مسلحة مثل «كتائب حزب الله» و«عصائب أهل الحق» و«منظمة بدر» ضاعفت تمثيلها التشريعي إلى أكثر من 50 مقعداً.
الحال، أن فيكتوريا تايلور سمعت في بغداد «اعترافاً أوسع من أي وقت مضى بأن رئيس الوزراء المقبل سيحتاج لاتخاذ خطوات أكثر حسماً تجاه الفصائل». وترى أن «القادة الشيعة لا يزالون يأخذون في الاعتبار العلاقة بالولايات المتحدة».
ثنائية الحشد والفصائل
تتوقع الدبلوماسية الأميركية «وجود فهم لخطوط واشنطن الحمراء، ورغبة في اختيار مرشح يكون مقبولاً لكل من الولايات المتحدة وإيران، وقادراً على تنفيذ سياسة خارجية توازن بين هاتين القوتين».
لكن الاهتمام بمسألة سلاح الفصائل، فهو من وجهة نظر تايلور «يعود إلى الضغط الذي مارسته إدارة ترمب منذ توليها السلطة، والذي جعل هذه القضية حاضرة بقوة في الوعي العراقي العام، بعدّها أمراً سيحتاج لمعالجة من قبل الحكومة المقبلة ورئيس الوزراء المقبل».
مع ذلك، لم تسمع تايلور «أي توضيح واضح لكيفية معالجة ذلك، وكيف سيجري التمييز بين الحشد الشعبي ككل، وتلك الفصائل داخله التي تُوصف بأنها ميليشيات خارجة عن القانون، والتي صنفتها الولايات المتحدة جماعات إرهابية»، لكنها مسألة ستكون أولوية كبرى في الفترة المقبلة.

