تستعيد رواندا في السابع من أبريل من كل عام ذكرى مؤلمة، فقد شهدت البلاد في عام 1994 إبادة استمرت 100 يوم بين أبريل/ نيسان ويوليو/ تموز من ذلك العام، وقُتل أكثر من 800 ألف مدني معظمهم من عرقية التوتسي، بالإضافة إلى بعض من عرقية الهوتو المعتدلين كما فرّ ما يصل إلى مليوني رواندي من البلاد أثناء الإبادة الجماعية أو بعدها مباشرة.
جعلت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 7 أبريل يومًا دوليًا للتأمل في الإبادة الجماعية التي ارتكبت عام 1994 ضد التوتسي في رواندا والتي مثلت لحظة تاريخية دمّغت بالدم في سجل الصراع العرقي في تلك البلاد التي تقع في وسط شرق إفريقيا، وتتوسط جمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا وتنزانيا وبوروندي.
تنافس عرقي
وتعد الهوتو والتوتسي من المجموعات العرقية الرئيسية في البلاد، حيث يمثل الهوتو أكثر من أربعة أخماس السكان، فيما يمثل التوتسي حوالي سبع إجمالي السكان، بحسب موسوعة “بريتانيكا”. كما تمثل مجموعة التوا العرقية أقل من 1% من السكان. وتتحدث المجموعات الثلاث اللغة الرواندية “الكينيارواندا”.
وتاريخيًا، لم يكن الهوتو والتوتسي سواسية ولم يسُد الانسجام على خطّ علاقتهم، بل مارس التوتسي هيمنةً اجتماعية واقتصادية وسياسية على الهوتو، الذين كانوا في المقام الأول مزارعين. وقد أتاح نظام علاقات الراعي بالتابع “بوهاكي”، أو “عقد الماشية” عشيرة التوتسي الطبقات العليا في النظام الاجتماعي.
وطوال القرن التاسع عشر، وسّعت عشيرة التوتسي المعروفة باسم “نيينجينيا” نفوذها من خلال الغزو وتقديم الحماية مقابل الجزية.
الاستعمار يعمق تفوق التوتسي
وخلال الحقبة الاستعمارية الألمانية، التي بدأت عام 1898 واستمرت حتى عام 1916، ومن خلال حكم غير مباشر تعززت هيمنة الطبقة الحاكمة التوتسية ونظامها.
ولم يختلف الأمر عندما وُضعت رواندا تحت إدارة بلجيكا التي سيطرت عليها بعد الحرب العالمية الأولى وأدارتها بشكل غير مباشر، تحت وصاية عصبة الأمم.
يتواصل الكشف عن مقابر جماعية تعود للإبادة في رواندا- غيتي
وفي أواخر خمسينيات القرن الماضي، ازدادت التوترات في رواندا. وكانت الحركة السياسية للهوتو، التي استفادت من حكم الأغلبية، تكتسب زخمًا.
“ثورة فلاحي الهوتو”
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 1959، وقعت اشتباكات عنيفة قُتل فيها مئات التوتسي وشُرد الآلاف وأُجبروا على الفرار إلى الدول المجاورة.
مثّلت تلك الحادثة شرارة ما يُسمى “ثورة فلاحي الهوتو” أو “الثورة الاجتماعية” التي استمرت من عام 1959 إلى عام 1961، والتي أنهت هيمنة التوتسي في رواندا وأوصلت جماعة الهوتو إلى السلطة ولكنها فاقمت من التوترات العرقية في البلد الإفريقي، وفق الأمم المتحدة.
وبعد استقلال رواندا بحلول عام 1962، انطلقت جولة جديدة من الصراع العرقي. فمن هربوا من العنف إلى تنزانيا وزائير، ومعظمهم من التوتسي، أرادوا استعادة موقع “العشيرة” الأسبق في رواندا وشنوا هجمات على أهداف تابعة للهوتو.
لكنهم لم يعرفوا أن هجماتهم ستطلق موجات عنف انتقامية وستوقع المزيد من الضحايا في صفوف عشيرتهم وستدفع بموجة نزوح جديدة إلى خارج رواندا.
مئات آلاف اللاجئين
وبحسب الأمم المتحدة، فقد بلغ عدد الروانديين اللاجئين في بوروندي وأوغندا وزائير وتنزانيا وغيرها من الدول، حوالي 480 ألف رواندي بحلول نهاية ثمانينيات القرن العشرين.
طالب اللاجئون بحق العودة إلى بلدهم، لكن رئيس رواندا آنذاك جوفينال هابياريمانا “اعتبر أن الضغوط السكانية هائلة وأن الفرص الاقتصادية محدودة للغاية لاستيعاب أعداد كبيرة من لاجئي التوتسي”.
لم ترض الإجابة الروانديين من التوتسي وقد أسس المنفيون منهم في أوغندا الجبهة الوطنية الرواندية في العاصمة كامبالا في عام 1988.
كان الهدف من تلك الحركة السياسية والعسكرية ضمان عودة الروانديين المنفيين إلى وطنهم وإصلاح الحكومة الرواندية بما يوفر تقاسم السلطة السياسية.
انضم بعض الهوتو إلى صفوف الجبهة الوطنية الرواندية، لكن الأغلبية وخاصةً من يشغلون مناصب قيادية، كانوا من اللاجئين التوتسي.
هجوم الجبهة الوطنية الرواندية
في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 1990، وانطلاقًا من أوغندا، شنّت الجبهة الوطنية الرواندية هجومًا كبيرًا على رواندا بمشاركة 7000 مقاتل.
أدّى الهجوم إلى تشريد الآلاف، وعمدت الحكومة الرواندية إلى ممارسة سياسة مُوجّهة عمدًا، أفضت إلى اعتبار جميع المنتمين إلى التوتسي داخل البلاد متواطئين مع الجبهة الوطنية الرواندية، فيما اعتبر المعارضون من الهوتو خونة، مما فاقم المشاكل العرقية.
وفي أغسطس/ آب 1993، ومع توقيع اتفاقيات أروشا للسلام بفضل جهود منظمة الوحدة الإفريقية وحكومات المنطقة ظُنّ أن الراية البيضاء رُفعت بين الحكومة التي يسيطر عليها الهوتو والجبهة الوطنية الرواندية المعارضة.
صورة من مركز تذكاري للإبادة التي استمرت 100 يوم في رواندا- غيتي
وأنشأ مجلس الأمن في أكتوبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، بعثة الأمم المتحدة لمساعدة رواندا (يونامير) بتفويض يشمل حفظ السلام والمساعدة الإنسانية والدعم العام لعملية السلام.
لكن اتفاق أروشا لم يجد طرقه إلى التنفيذ فيما تفاقمت انتهاكات حقوق الإنسان وتدهور الوضع الأمني.
وتقول الأمم المتحدة إنه “لاحقًا، أثبتت الأدلة بشكل قاطع أن عناصر متطرفة من أغلبية الهوتو، بينما كانوا يتحدثون عن السلام، كانوا في الواقع يخططون لحملة لإبادة التوتسي والهوتو المعتدلين”.
وبحسب “هيومن رايتس ووتش”، تبنى القادة السياسيون والدعاة الداعمون للرئيس الراوندي جوفينال هابياريمانا أفكارًا خاطئة مهدت للإبادة وهي:
- إن التوتسي غرباء عن رواندا، وليس لهم الحق في العيش فيها؛
- وإنه على الرغم من ثورة عام 1959، ظل التوتسي يتمتعون بمكانة أعلى وثروة أكبر من الهوتو، وكانوا مسؤولين بطريقة ما عن استمرار فقر الهوتو؛
- وإن التوتسي شكلوّا خطرًا على الهوتو، الذين كانوا دائماً الضحايا، سواء للقوة العسكرية التوتسية أو لـ”مكر” التوتسي؛ ولذلك كان للهوتو الحق والواجب في الدفاع عن أنفسهم.
حادث الطائرة الرئاسية يطلق المجازر
أشعلت وفاة رئيسي بوروندي سيبريان نتاياميرا، ورواندا جوفينال هابياريمانا في حادث تحطم طائرة ناجم عن هجوم صاروخي في 6 أبريل/ نيسان 1994، شرارة مجازر عنيفة وممنهجة استمرت عدة أسابيع، حيث قُتل أكثر من 800 ألف رجل وامرأة وطفل في ما وُصف بإبادة جماعية. كما اغتُصبت ما بين 150 ألفًا و250 ألف امرأة، وفق الأمم المتحدة. وما زالت المقابر الجماعية تُكتشف في رواندا حتى اليوم.
وبدأ أفراد الحرس الرئاسي بقتل المدنيين التوتسي في منطقة من كيغالي بالقرب من المطار. وبعد أقل من نصف ساعة من تحطم الطائرة، نُصبت حواجز طرق يحرسها عناصر من الهوتو، غالبًا بمساعدة قوات الدرك أو أفراد الجيش، لتحديد هوية التوتسي.
أشعلت وفاة رئيسي بوروندي سيبريان نتاياميرا ورواندا جوفينال هابياريمانا في حادث تحطم طائرة شرارة المجازر- غيتي
في 7 أبريل، بثّت إذاعة وتلفزيون “ليبر دي ميل كولين” (RTLM) بثًا يُنسب تحطم الطائرة إلى الجبهة الوطنية الرواندية وكتيبة من جنود الأمم المتحدة.
وفي اليوم نفسه، اغتيل يعض من قادة الهوتو المعتدلين وهاجم جنود من قوات الحكومة الرواندية منزل رئيسة الوزراء، أغاثي أويلينغيمانا، واغتالوها. وقتلوا عشرة من جنود حفظ السلام البلجيكيين المكلفين بحمايتها، ما دفع بلجيكا لسحب ما تبقى من أفراد قوتها.
وقد حذت دول أخرى حذو بلجيكا ولم يبقَ من قوات الأمم المتحدة الـ2165 جنديًا سوى 270 جنديًا، بحلول 21 أبريل/ نيسان 1994، ما أدى لتفاقم الأزمة الإنسانية وحال دون تمكن الأمم المتحدة من تقديم الاستجابة المطلوبة.
الفرار إلى الكونغو
في 22 يونيو/ حزيران، أذن مجلس الأمن للقوات بقيادة فرنسا بإطلاق مهمة إنسانية. أنقذت هذه المهمة مئات المدنيين في جنوب غرب رواندا، ويُقال إنها سمحت أيضًا للجنود والمسؤولين وأفراد متورطين في الإبادة الجماعية بالفرار من رواندا عبر المناطق الخاضعة لسيطرتهم، وفق موقع الأمم المتحدة.
وفي مناطق أخرى، استمرت أعمال القتل حتى 4 يوليو/ تموز 1994، عندما سيطرت الجبهة الوطنية الرواندية عسكريًا على كامل أراضي رواندا.
فرّ مسؤولون حكوميون وجنود شاركوا في الإبادة الجماعية إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، المعروفة آنذاك باسم زائير، آخذين معهم نحو مليون ونصف مليون مدني، معظمهم من الهوتو الذين أُبلغوا بأن الجبهة الوطنية الرواندية ستقتلهم.
ومات الآلاف بسبب الأمراض المنقولة بالمياه. كما استخدم جنود الحكومة الرواندية السابقون هذه المعسكرات لإعادة التسلح وشن غزوات على رواندا.
كانت هذه الهجمات أحد العوامل التي أدت إلى الحرب بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية التي اندلعت عام 1996.
محاكم غاكاكا
وفي نهاية عام 1996، بدأت الحكومة الرواندية محاكمات الإبادة الجماعية التي طال انتظارها بسبب الدمار الذي لحق بالبنية التحتية وبالمحاكم والسجون ولفقدان البلاد معظم كوادرها القضائية.
كان أكثر من 100 ألف مشتبه في جرائم الإبادة الجماعية ينتظرون محاكمتهم بحلول عام 2000. وبعد عامين بدأت الحكومة بتطبيق نظام المحاكم الأهلية، المعروف باسم “غاكاكا” بهدف معالجة التراكم الهائل للقضايا، وفق منظمة العفو الدولية.
وانتخبت المجتمعات المحلية قضاةً للنظر في محاكمات المشتبه بهم في جرائم الإبادة الجماعية المتهمين بجميع الجرائم باستثناء التخطيط للإبادة الجماعية أو الاغتصاب.
صورة من مركز تذكاري للإبادة في رواندا- غيتي
أُفرج مؤقتًا عن المتهمين في محاكم غاكاكا في انتظار المحاكمة، الأمر الذي أثار غضب الناجين الذين اعتبروا أن الإفراج شكل من أشكال العفو.
وتواصل رواندا استخدام نظام المحاكم الأهلية لمحاكمة المتورطين في التخطيط للإبادة الجماعية أو الاغتصاب بموجب قانون العقوبات العادي. ولا تُقدم هذه المحاكم الإفراج المؤقت عن المتهمين في جرائم الإبادة الجماعية.
كما تُصدر محاكم غاكاكا أحكامًا مخففة إذا تاب الشخص وسعى إلى المصالحة مع مجتمعه. وتهدف هذه المحاكم إلى مساعدة المجتمع على المشاركة في عملية العدالة والمصالحة في البلاد.
المحكمة الجنائية الدولية لرواندا
على الصعيد الدولي، أنشأ مجلس الأمن في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 1994 المحكمة الجنائية الدولية لرواندا “لمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن الإبادة الجماعية وغيرها من الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي المرتكبة في أراضي رواندا والدول المجاورة، بين 1 يناير/ كانون الثاني 1994 و31 ديسمبر/ كانون الأول 1994”.
اتخذت المحكمة من تنزانيا مقرًا وكان لها مكاتب في كيغالي، برواندا، فيما تقع دائرة الاستئناف التابعة لها في لاهاي بهولندا.
ووجهت المحكمة لوائح اتهام إلى 93 شخصًا اعتبرتهم مسؤولين عن انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي المرتكبة في رواندا عام 1994. وكان من بين المتهمين مسؤولون عسكريون وحكوميون رفيعو المستوى، وسياسيون، ورجال أعمال، بالإضافة إلى قادة دينيين وميليشيات وإعلاميين. وأدانت المحكمة رئيس الوزراء أثناء الإبادة الجماعية، جان كامباندا، بالسجن المؤبد.
وانتهت مدة ولاية المحكمة الجنائية الدولية لرواندا في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2015.
بول كاغامي وتأزم العلاقات مع فرنسا
وفي أوائل القرن الحادي والعشرين، كانت أحداث عام 1994 لا تزال تُثقل كاهل رواندا. ففي عام 2004، تعرّض الرئيس الرواندي بول كاغامي لانتقادات لاذعة بعد أن سرّبت إحدى الصحف نتائج تقرير، كُلّف بإعداده القاضي الفرنسي جان لوي بروغيير، والذي تضمن مزاعم بأن كاغامي وقادة آخرين في الجبهة الوطنية الرواندية أمروا بالهجوم الصاروخي الذي تسبب في تحطم الطائرة عام 1994 والذي أودى بحياة هابياريمانا وأشعل فتيل الإبادة الجماعية. لكن كاغامي نفى تلك المزاعم بشدة.
قطعت رواندا علاقاتها مع فرنسا في عام 2006 عندما وقّع بروغيير – مدعيًا الاختصاص القضائي لأن أفراد طاقم الطائرة الذين لقوا حتفهم في الحادث كانوا فرنسيين – مذكرات توقيف دولية بحق العديد من المقربين من كاغامي لدورهم المزعوم في الحادث، وطلب محاكمة الرئيس الأوغندي أمام المحكمة الجنائية الدولية لرواندا.
أنكر كاغامي أي علاقة له بتحطم الطائرة، زاعمًا ضلوع الحكومة الفرنسية بتسليح المسؤولين عن الإبادة الجماعية وتقديم المشورة لهم.
زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رواندا في عام 2021- الرئاسة الرواندية
وأنشأت رواندا في عام 2007 لجنة للتحقيق في دور فرنسا في الإبادة الجماعية؛ وقد أشارت النتائج، التي نُشرت عام 2008، إلى تورط أكثر من 30 مسؤولًا عسكريًا وسياسيًا فرنسيًا. استؤنفت العلاقات بين فرنسا وراوندا في عام 2009.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2007، أطلقت الحكومة الرواندية تحقيقًا رسميًا في حادث تحطم الطائرة عام 1994. وقد أشارت نتائج التحقيق، التي نُشرت في يناير/ كانون الثاني 2010، إلى أن جنودًا متطرفين من الهوتو كانوا مسؤولين عن إسقاط الطائرة التي كانت تقل هابياريمانا، بقصد إفشال مفاوضات السلام مع التوتسي، واستخدام الحادث كذريعة لبدء الإبادة الجماعية ضد التوتسي والهوتو المعتدلين.
أقر الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، أول رئيس فرنسي زار كيغالي منذ الإبادة الجماعية، بـ”أخطاء جسيمة” وبـ”نوع من التعامي” من جانب السلطات الفرنسية، كانت لهما “عواقب مأساوية تمامًا”.
وفي عام 2021، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رواندا، وقال من كيغالي: “بوقوفي بجانيكم اليوم بتواضع واحترام، جئت للاعتراف بمسؤولياتنا”، مؤكدًا في الوقت نفسه أن فرنسا “لم تكن شريكة” في الإبادة.
وبعد 31 عامًا على الإبادة، يحي الروانديون ذكرى المجازر المؤلمة كل عام ويتعلّم طلاب المدارس الثانوية عن الإبادة في إطار منهج دراسي خاضع لرقابة مشددة.
وطوى الروانديون الانقسام العرقي إلى حد كبير، حيث لم تعد بطاقات الهوية الرواندية تذكر إن كان الشخص من الهوتو أو التوتسي.