لم يسبق أن فعلها غير صنع الله إبراهيم. كانت الجائزة هي الأرفع عربيًا في مجال الرواية، وبلجنة تحكيم يترأسها الروائي السوداني الطيب صالح، وعضوية عدد من كبار نقّاد الرواية العرب على الإطلاق، وهم سيزا قاسم وعبدالله الغذامي وفريال غزول وفيصل دراج ومحمد برادة ومحمد شاهين ومحمود أمين العالم.
وقد رأى هؤلاء بعد مداولات طويلة أن صنع الله إبراهيم هو الأجدر بتلك الجائزة من بين مرشحين آخرين يعتبرون من أبرز الروائيين العرب، ومنهم إدوارد خرّاط وجمال الغيطاني، لكن صنع الله إبراهيم، بقامته النحيلة، ووجهه الصغير الذي تحتل نظاراته جزءًا كبيرًا منه، لم يكتف برفض الجائزة بل عطف عليه مرافعة هجائية طويلة لحال السياسة العربية والمصرية التي أباحت لإسرائيل اجتياح الأراضي الفلسطينية، وفتحت أبوابها للسفير الإسرائيلي لاحتلال حي كامل في القاهرة كما قال.
كان ذلك في أكتوبر/ تشرين الأول 2003 عندما أعلن الطيب صالح فوز صنع الله بجائزة الرواية العربية في دورتها الثانية، بحضور وزير الثقافة المصري فاروق حسني والأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في مصر جابر عصفور، وعشرات الكتّاب والمثقفين العرب، لكنّ صنع الله حوّل ذلك الحفل الذي أُقيم في دار الأوبرا إلى مسرح كبير، شاء أن يدخل التاريخ على خشبته، بإعلانه رفض الجائزة الذي فاز بها قبله الروائي السعودي عبد الرحمن منيف.
وكان ذلك كمن يُلقي قنبلة في حفل زفاف ويمضي.
وقف صنع الله على خشبة المسرح وقال إنه لم يتوقع هذا التكريم ولم يسع إليه، مشيرًا إلى أن روائيين عربًا آخرين يستحقونها (الجائزة) أكثر منه، وذكر منهم غالب هلسا ومطيع دماج وعبد العزيز مشري وهاني الراهب والطاهر وطار، وإبراهيم الكوني وأهداف سويف ومحمد البساطي وجمال الغيطاني وخيرى شلبي وإدوار الخراط وخيري الذهبي.
رفض صنع الله ابراهيم عام 2003 تسلم جائزة الرواية العربية-فيسبوك
حين رفض جائزة الرواية العربية
قال ذلك قبل أن يعلن اعتذاره لعدم قبول الجائزة “لأنها صادرة عن حكومة تقمع شعبنا وتحمي الفساد وتسمح للسفير الإسرائيلي بالبقاء في حين أن إسرائيل تقتل وتغتصب”.
وأضاف في كلمته التي وزّعها على الحضور: “في هذه اللحظة التي نجتمع فيها هنا، تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وتقتل النساء الحوامل والأطفال وتشرّد الآلاف، وتنفذ بدقة منهجية واضحة إبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه، لكن العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان، وعلى بعد خطوات من هنا يقيم السفير الإسرائيلي في طمأنينة، وعلى بعد خطوات أخرى يحتل السفير الأميركي حيا بأكمله بينما ينتشر جنوده في كل ركن من أركان الوطن الذي كان عربيا”.
ومضى صنع الله قائلًا: “لا يراودني شك في أن كل مصري هنا يدرك حجم الكارثة المحيقة بوطننا، وهي لا تقتصر على التهديد العسكري الإسرائيلي الفعلي لحدودنا الشرقية، ولا على الإملاءات الأميركية وعلى العجز الذي يتبدى في سياسة حكومتنا الخارجية، وإنما تمتد إلى كل مناحي حياتنا”.
هجاء مرير لحال الثقافة المصرية
وفي هجاء مرير لحال بلاده مصر، قال صنع الله: “لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم. لدينا فقط مهرجانات ومؤتمرات وصندوق أكاذيب. لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل. تفشى الفساد والنهب، ومن يعترض يتعرض للامتهان وللضرب والتعذيب. وفي ظل هذا الواقع لا يستطيع الكاتب أن يغمض عينيه أو يصمت، لا يستطيع أن يتخلى عن مسؤوليته”.
كان رفض صنع الله للجائزة يشبهه، ورغم انقسام المثقفين العرب حول موقفه هذا ما بين مؤيد بحماسة ورافض بتطرف ومتهمًا إياه بالسعي لتسجيل المواقف، إلا أن ثمة إجماعًا على المكانة الرفيعة التي يحتلها الروائي المصري القادم من السجون و”اليسار الطهراني”، والذي أنجز عددًا من الروايات تعتبر من بين الأهم في تاريخ الرواية العربية ما بعد نجيب محفوظ.
وهو ما لخّصه بيان اللجنة التي منحته الجائزة وقرأه الطيب صالح، فاللجنة كما قال اختارت رائدًا من رواد التجريب فى الرواية العربية، له لغة خاصة يقتصد فيها إلى درجة التقشف، تخدم كتابته التي كرّسها لفضح القسوة والظلم وجفاف ينابيع الرحمة في قلوب البشر، ونذر نفسه للفن الروائي، ولم يحجم عن دفع الثمن الباهظ الذى يتقاضاه حرّاس معبد الفن، و”هو كما تعلمون معبد مقدس لكنه أيضًا معبد ملعون”.
صنع الله إبراهيم.. اسم غريب ويسار مبكّر
ولد صنع الله في القاهرة عام 1937 عندما كان والده في الستين من العمر. ويروي في أحد الحوارات الصحافية معه قصة اسمه الغريب، قائلًا إن والده قام بصلاة استخارة عند ولادته، ثمّ فتح القرآن ووضع أصابعه على إحدى السور، فكان أن وقع على آية “صُنع الله الذي أتقن كل شيء” فسمّاه صنع الله الذي سبّب له مشكلات كثيرة خاصة في طفولته.
التحق صنع الله بالحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) خلال دراسته الحقوق في الجامعة، من خلال أحد زملائه السودانيين، واُعتقل عندما كان في الثانية والعشرين من عمره، بين عامي (1959 و1964) ضمن حملة شنها نظام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر على الشيوعين واليساريين.
وبعد خروجه من السجن أصدر أول أعماله الأدبية بعنوان “تلك الرائحة”، وهي مجموعة قصصية تضم رواية قصيرة (نوفيلا) بالعنوان نفسه، سرعان ما صودرت.
وفي الفترة نفسها عمل صنع الله في الصحافة (وكالة الأنباء المصرية) عام 1967، قبل أن يغادر مصر إلى ألمانيا الشرقية ويعمل في وكالة الأنباء الألمانية من 1968 حتى 1971، ومن برلين غادر إلى موسكو حيث درس التصوير السينمائي.
وعن تجربته هذه يقول صنع الله في حوار صحافي أجري معه إن “السينما كانت حلم كل الشباب في العالم كله في ذلك الوقت، وكنا متأثرين بالمخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني، كنت وقتها أعمل في ألمانيا الديمقراطية، كنت أعاني من الملل والزهق، ولا أرغب في الاستمرار في هذا البلد، فكرت أين أذهب؟ ليس لدي مكان آخر، فكرت في دراسة السينما في الاتحاد السوفييتي”.
“كان سهلًا أن أحصل على منحة بوساطة حزب التجمع. رفعت السعيد هو الذي ساعدني في الحصول على هذه المنحة، بالإضافة إلى أنه كانت لدي رغبة قديمة، وهي رؤية وطن الاشتراكية العظيم. وأعتبر أنني كنت محظوظًا في الذهاب لموسكو”.
“أتذكر أنني قلت لبهيج نصار، المراسل الصحفي وقتها، وأنا في موسكو: لو حدثت انتخابات حقيقية في هذا البلد فالحزب الشيوعي سيأخذ صفرًا، لأنه كان مثل الاتحاد الاشتراكي عندنا بالضبط، مجموعة من الانتهازيين والوسائط والأصحاب والقرايب، لا يوجد ما كنا نتخيله عن حزب يكافح من أجل شكل اجتماعي مختلف”.
وعاد صنع الله عام 1974 إلى القاهرة من موسكو التي كتب فيها مخطوطة روايته “نجمة أغسطس” قبل أن يتفرغ للكتابة بدءًا منذ عام 1975.
تجربة السجن في “تلك الرائحة”
وتعتبر رواياته “تلك الرائحة” التي صدرت عام 1966 و”نجمة أغسطس” عام 1974 و”اللجنة” عام 1981، والثلاثة من أعماله الروائية المبكرة، سببًا في صنع أسطورته في عالم الأدب، حيث تكرّس فيها أسلوبه القائم على الأجواء الكابوسية (الكافكاوية)، نسبة إلى الروائي التشيكي فرانز كافكا، واستحضار الراهن السياسي أو التاريخي أو الوثائقي بالتوازي مع السرد الأدبي، إضافة إلى السرد المضطرب أحيانًا بما ينسجم وسيكلوجيا أبطاله.
وبالإضافة إلى رواياته هذه كتب صنع الله عدة روايات أخرى، منها “بيروت بيروت”، “ذات”، “شرف”، “وردة” وهي عن ثورة ظفار في سلطنة عُمان، “التلصص”، “العمامة والقبعة”، “القانون الفرنسي”، “الجليد”، “برلين 69″ و”رواية”.
رواية صودرت فور نشرها
ورغم أنها صدرت ضمن مجموعة قصصية بالعنوان نفسه عام 1966 إلا أنه يمكن اعتبار “تلك الرائحة” رواية قصيرة (نوفيلا) وأول أعمال صنع الله إبراهيم الروائية.
صودرت الطبعة الأولى من الرواية بعد صدورها، لكنها صدرت غير كاملة مجدّدًا عام 1969 في القاهرة وفي مجلة “شعر” اللبنانية، كما أعيد نشرها غير كاملة أيضًا عام 1971 في القاهرة، ولم تصدر كاملة إلا عام 1986 بعد عشرين عامًا على نشرها أول مرة.
نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس- موقع “الكاتب” على فيسبوك
كانت “تلك الرائحة” بداية باهرة لكاتب يساري شاب، وفيها أجواء تجربته في السجن بين عامي 1959 و 1964، بعد حملة اعتقالات شُنّت على اليساريين في بلاده.
وساهمت مصادرتها في لفت انتباه الأوساط الثقافية المصرية والعربية لصنع الله إبراهيم، إضافة إلى مقدمة الكتاب التي كتبها القاص المصري الكبير يوسف إدريس، وفيها تحدث إدريس عن “التهامه الرواية في جلسة واحدة” وإحساسه بعد قراءتها أنه أمام موهبة جديدة، لخص في روايته “ليس فترة هامة من حياة بطل القصة إنما فترة أهم من حياة جيل صنع الله” نفسه، معتبرًا “أنها ليست قصة بل صفعة أو صرخة أو آهة منبّهة، قوية، تكاد تثير الهلع”.
كما رأى إدريس أن بطل الرواية “ليس الرجل، وليس الشاب، وليست الاحداث أو العصر” بل “إحساس عام طاغ لا اسم له”.
وقال إنه “شديد الاعتزاز بصنع الله إبراهيم الفنان، وآن الأوان لتقرأه الحركة الفنية والأدبية في كتاب كامل، في قصة من أجمل ما قرأت باللغة العربية خلال السنوات القليلة الماضية”، معتبرًا أن “تلك الرائحة ليست مجرد قصة ولكنها ثورة، وأولها ثورة الفنان على نفسه”.