في يوم المعلم… كيليان مورفي ينتصر للمهنة في «ستيف»

بينما يحتفل العالم في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) باليوم العالمي للمعلم، يطل فيلم «ستيف»، أحدث أعمال منصة «نتفليكس»، ليقدّم صورة مختلفة للمعلمين، فلا يرى المشاهد حصصاً مدرسية اعتيادية، بل معلمين يواجهون أقسى الظروف، في إصلاحية بريطانية على وشك الانهيار، عبر شخصية مدير المدرسة والمعلم «ستيف» التي يؤديها الممثل الآيرلندي كيليان مورفي، الحاصل على جائزة الأوسكار عن فيلمه «أوبنهايمر».

تدور الأحداث في عام 1996، داخل مدرسة «ستانتون وود» الإصلاحية التي تستقبل البنين الذين لفظهم المجتمع والنظام التعليمي معاً؛ لذا فالمكان أشبه بملاذ أخير قبل السجن، حيث يجتمع مراهقون ضائعون يتأرجحون بين اللعب الطفولي والعنف المدمّر. وفي يوم واحد فقط، يضع المخرج تيم ميلانتس مهنة التعليم في قلب الدراما، وسط دوامة من الصراخ والضحكات والشجارات، حين يعلم ستيف أن مدرسته على وشك الإغلاق، فيتحول يوم دراسي عادي إلى معركة لإنقاذ المستقبل، ليس للطلاب فقط، بل لمهنة التعليم نفسها.

معلمو المدرسة لحظة استقبال صدمة إغلاق المكان في غضون 6 أشهر (نتفليكس)

معلم ينهار ببطء

يقدم مورفي في شخصية «ستيف» صورة معلم مهزوم من الداخل، وجهه مرهق، عيناه غارقتان في قلق مستمر، وصمته يتكلم أكثر من أي خطاب، حيث يظهر وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة، يتسلل لتناول حبوب مهدئة، ويرشُف الكحول في الخفاء، ثم يعود ليقف أمام طلابه كجدار هشّ، لكنه ما زال قائماً، ويبذل محاولاته لحمايتهم من أنفسهم قبل أي شيء آخر.

وتأتي شخصية «ستيف» مركبة ومليئة بالتناقضات، ففي لحظة هو المعلّم الرحيم الذي يحاول تهدئة الصبيان المشاغبين، وفي لحظة أخرى ينفجر غاضباً في وجه جهات عليا تخلّت عنهم فجأة، ومن هنا يقدّم مورفي شخصية صعبة لمعلم يكاد يسقط لكنه يظل متمسكاً بواجبه.

تشاركه هذه الإحباط، ترايسي أولمان في دور «أماندا»، نائبة المدير، التي تقدم صورة امرأة تعرف حجم الخراب، وتواجهه بحدة مريرة، بينما إميلي واتسون في دور «جيني»، فهي المعالجة النفسية، التي تضيف طبقة من الإنسانية المرهفة، حتى لو كانت محاصرة بواقع أعقد من قدراتها.

الطلاب هم القلب الحقيقي للفيلم، بداية من جاي ليكورغو في دور «شاي»، الطالب الحساس الذي يختبئ خلف جهاز الووكمان، ويمثل صرخة مكتومة لجيل يبحث عن ملاذ، و«جيمي» (لوك آيرس) الذي يتأرجح بين العنف والطفولة، بينما «تارون» (توت نيووت) يواجه اتهامات بالاعتداء على موظف. وكل هؤلاء الفتية ليسوا مجرد شخصيات ثانوية، بل مرايا تكشف هشاشة المجتمع في التعامل معهم.

يقدم الفيلم صراعات قاسية لما يحدث داخل مدرسة إصلاحية ممتلئة بالمشكلات (نتفليكس)

من رواية إلى فيلم

الفيلم يستند إلى رواية «شاي» للكاتب ماكس بورتر، لكنه لم يُنقل بشكل حرفي؛ إذ إن المخرج ميلانتس اختار أن يضع الكاميرا في موقع المراقب الصامت، يلتقط العفوية والفوضى كما هي، حيث قال في مقابلة مع موقع «Tudum» التابع لـ«نتفليكس»: «سألت نفسي: ماذا سأفعل لو قضيت يوماً في تلك المدرسة؟ سأذهب مباشرة إلى الجمال والألم، وأحاور الأولاد… هكذا تحولت الكاميرا إلى عين صامتة، والطاقة الحقيقية صارت عندهم».

ومن هنا يؤكد المخرج أن الفيلم ليس عن الإصلاحية فقط، بل عن صراع الإنسان مع هشاشته، وعن قدرة المعلّم على أن يكون شاهداً وفاعلاً في آن واحد. وكانت طريقة تدريب الممثلين الشبان واحدة من أسرار صدق الفيلم، حيث طلب ميلانتس معسكراً تدريبياً لأسبوعين قبل التصوير، اعتمد على التمارين الجماعية والارتجال، وأحضر الممثلون صوراً شخصية من طفولتهم، وتحدثوا عنها، فاختلطت ذواتهم بالشخصيات التي يؤدونها.

الفيلم ليس مجرد اقتباس لرواية، بل أيضاً جزء من سيرة ميلانتس نفسه، حيث عاد إلى شرائط مصورة من التسعينات، وقت إصابة والده بألزهايمر وفقدانه أخاه، ليجد فيها ثقلاً عاطفياً أراد نقله إلى الشاشة؛ ما جعل الفيلم محمَّلاً بطاقة شخصية، كأن المخرج يستعيد حياته من خلال طلابه، وهو ما أكده في حديثه لموقع «نتفليكس» قائلاً: «كنت أعاني من عسر القراءة، واعتُبرت حالة ضائعة، لكن بفضل معلمين لم يتخلوا عني، أنا هنا اليوم… المعلمون مهمون للغاية، إنهم يبنون مستقبلنا».

يتقاسم المعلم ستيف والطالب شاي مشاعر الإحباط تجاه الأوضاع التعليمية في التسعينات (نتفليكس)

التعليم معركة يومية

يرى المخرج أن الفيلم ليس مجرد دراما عن التعليم، بل هو أيضاً رسالة امتنان إلى معلمين أنقذوا حياته، وبذلك يضع التعليم في قلب معركة وجودية، إذ إن ستيف ليس معلماً مثالياً، بل رجل محطم، ومع ذلك يصر على أن يكون آخر ما يقف بين طلابه والهاوية. كما أن إغلاق المدرسة لا يعني فقط فقدان مؤسسة، بل يعني سقوط حياة الكثيرين في مسار لا عودة منه. ومن هنا، تبدو شخصية ستيف هي صورة لكل معلم مجهول يحارب بصمت في وجه الفوضى.

ما يمنح الفيلم بعداً إضافياً هو توقيت صدوره الذي قد يكون مجرد مصادفة، ففي اليوم الذي يحتفل فيه العالم بالمعلم بالخطابات والاحتفالات الرسمية، يقدّم «ستيف» صورة مضادة عن معلم مرهق، ينهار من الداخل لكنه يظل واقفاً، وربما هذا التزامن غير المقصود يمنح الفيلم قوة رمزية؛ لأنه يذكِّر بأن تكريم المعلم لا يقتصر على الاحتفالات الرمزية، بل على الاعتراف بتضحياته اليومية.

شاركها.
Exit mobile version