شرق الكونغو: «سلام مؤجل»… وتصعيد «متوسع»

تجسّدت تحركات مكثفة لإحياء مسار السلام في شرق الكونغو الديمقراطية في توقيع اتفاقيات بواشنطن والدوحة، ومثّلت هذه الخطوة بارقة أمل لإنهاء صراع ممتد منذ نحو 3 عقود. ولكن رغم هذه الجهود الدبلوماسية، يظل المشهد المحلي هشّاً، وسط تصعيد مستمر للهجمات المسلحة التي تعرقل أي خطوات حقيقية نحو الاستقرار. هذا المشهد، الذي يترقب مساعي جديدة، يراه خبراء في الشأن الأفريقي، التقتهم «الشرق الأوسط»، مهدداً بالتعقيد وتأجيل فرص الحلّ النهائي بنهاية العام الحالي، في حال لم يتوقف التصعيد الذي تجدد في شرق الكونغو. ويشترط هؤلاء وجود إرادة حقيقية لدى الأطراف المتنازعة للوصول إلى تفاهمات قابلة للتطبيق على الأرض ولا تراوح مكانها وتقود لتعثر جديد سواء لدى «حركة 23 مارس» المدعومة من الجارة رواندا أو الحركات المسلحة الأخرى وسلطات كينشاسا.

“تفيد المصادر أن رواندا والكونغو الديمقراطية اتفقتا على مسوّدة إطار عمل بشأن

توريد المعادن تُعدّ جزءاً من اتفاق السلام الذي أبرم في واشنطن”

تبادل مسارا التصعيد والسلام، في الأزمة الكونغولية، الصعود والتراجع منذ سيطرة متمردي حركة «23 مارس – آذار» بين يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) الماضيين، على مدينتي بوكافو وغوما، أكبر مدينتين في شرق الكونغو، ومناطق تعدين مُربحة في سلسلة هجمات لم تتوقف للآن. وفي المقابل، ترى كينشاسا أن نهب ثرواتها المعدنية هو السبب الرئيسي وراء الصراع المستعر في شرق البلاد بين قواتها والحركة المدعومة من رواندا.

حكومتا الكونغو الديمقراطية ورواندا كانتا قد أعلنتا، في بيان مشترك، يوم 24 سبتمبر (أيلول)، أنهما «اتفقتا على البدء الشهر المقبل في تنفيذ إجراءات أمنية، بموجب اتفاق توسّطت فيه الولايات المتحدة في يونيو (حزيران)، تتضمن تدابير كان يفترض أن تنفذ بحلول 25 سبتمبر (المنصرم)».

وذكرت 3 مصادر مطلعة لوكالة «رويترز»، يوم 25 سبتمبر، أن الدول المعنية اتفقت على إكمال الإجراءات بحلول نهاية العام. إذ ستبدأ عمليات للقضاء على تهديد جماعة «القوات الديمقراطية لتحرير رواندا» المسلحة المتمركزة في الكونغو، وتسهيل انسحاب القوات الحكومية الرواندية، خلال الفترة ما بين 21 و31 أكتوبر (تشرين الأول). ولكن المصادر عينها أعربت عن مخاوف من أن تواجه مشاكل تعطلها مجدداً، في إشارة للتصعيد المسلح الجديد.

اتفاق واشنطن

كان كل من حكومتي الكونغو ورواندا قد وقّعتا اتفاق سلام في واشنطن في 27 يونيو الماضي. وتضمن هذا الاتفاق تعهداً بتنفيذ اتفاقية تعود لعام 2024، وتنصّ على أن ترفع رواندا تدابير دفاعية في غضون 90 يوماً، وانتهت مهلة التسعين يوماً للاتفاقية المبدئية لعام 2024 يوم 25 سبتمبر، من دون تنفيذ ذلك قبل بدء المهلة الجديدة في أكتوبر الحالي.

هذا التعثر ليس الأول منذ صعود مسار السلام للواجهة مع التصعيد المسلح. إذ في 19 يوليو (تموز)، وإكمالاً لاتفاق واشنطن، رعت وزارة الخارجية القطرية «إعلان مبادئ» بين حكومة الكونغو الديمقراطية و«حركة 23 مارس»، يتضمن بدء المفاوضات بين الجانبين في 8 أغسطس (آب)، على أن يصار إلى التوصل لاتفاق نهائي بحلول 18 من الشهر نفسه. غير أن هذا الأمر لم يتحقق، وغداة ذلك قال الناطق باسم وزارة الخارجية القطرية، ماجد الأنصاري، يوم 19 أغسطس، خلال مؤتمر صحافي دوري في الدوحة، إن «الجهود مستمرة وحثيثة رغم كل التعقيدات في أوضاع الكونغو».

تعقيدات كبيرة

يرى محمد تورشين، الخبير المتخصص في الشأن الأفريقي، أن تأجيل إنفاذ السلام في شرق الكونغو يعود إلى «تعقيدات كبيرة جداً، في إقليم كبير غني بالثروات، ويعاني من انقسامات حزبية وإثنية وقبلية، ناهيك من وجود تباينات كبيرة جداً في ضرورة تنفيذ هذا الاتفاق». ويوضح تورشين أن اتفاق وقف إطلاق النار لم يكن فعالاً ومناسباً بالشكل الكافي، إذ وقعت مواجهات زادت هشاشة مسار السلام وتعقيداته على نحو ما نراه حالياً. ولهذا يرى الخبير أن استمرار المواجهات في شرق الكونغو «ينذر بتعثر اتفاق وقف إطلاق النار، ولا سيما أن المعطيات التي استندت إليها المباحثات منذ البداية لم تكن جادة من الطرفين». ويشدد على أن الذهاب إلى مفاوضات لا تضم كل المكوّنات في شرق الكونغو «لن يحقق استقراراً مستداماً، بل سيكون كما هو حاصل الآن اتفاقاً هشّاً قابلاً للانهيار في أي وقت».

أسباب التأجيل المتكرّر

وبشيء من التفصيل، يعرب صالح إسحاق عيسى، المحلل السياسي التشادي المتخصص بالشؤون الأفريقية، عن اعتقاده بأن تأجيل السلام في شرق الكونغو الديمقراطية مرتبط بـ4 عوامل رئيسية، هي:

1- حالة انعدام الثقة بين الحكومة الكونغولية والمجموعات المسلحة، وبخاصة «حركة 23 مارس»، التي تُتهم بالحصول على دعم من رواندا، وهو ما تنفيه كيغالي. ويلفت عيسى إلى أن هذا الاتهام يعرقل أي مفاوضات، إذ تعتبر كينشاسا أنه لا جدوى من الحوار في ظل ما تصفه بالعدوان الإقليمي المقنّع.

2- كثرة الاتفاقات لا تُترجم بالضرورة إلى التزام فعلي، إذ توقَّع الاتفاقيات تحت ضغوط دولية، لكن على الأرض لا توجد آليات كافية لفرض تنفيذها أو لمحاسبة من يخرقها.

3- ثروات المنطقة الغنية بالمعادن النادرة تشكل وقوداً دائماً للصراع، حيث تتصارع القوى المحلية والإقليمية والدولية على النفوذ الاقتصادي، في ظل ضعف سيطرة الدولة المركزية. وهذا ما يجعل الحرب وسيلة لـ«اقتصاد ظل» أكثر من كون المواجهات مجرد نزاع سياسي أو إثني.

4- الضغوط الداخلية في الكونغو تجعل الحكومة أحياناً تُفضّل الحلول العسكرية، أو التصعيد السياسي، لكسب دعم داخلي، بدلاً من الدخول في تنازلات تفاوضية قد تُفهم على أنها ضعف.

الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي (آ ب)

تجدّد التصعيد

المشهد في الكونغو مليء بمواجهات تتجدّد بين وقت وآخر، وتفاقمت في الأشهر الثلاثة الأخيرة. إذ سجّلت جماعة «القوات الديمقراطية المتحالفة»، الموالية لتنظيم «داعش» منذ عام 2019 تحت اسم «ولاية وسط أفريقيا»، أحدث تلك الهجمات قبل أيام، مخلّفة 89 قتيلاً. وتواصلت هجمات الجماعة في مناطق شرق الكونغو مع تصاعد عمليات من حركة «23 مارس» المتمردة، وجماعة «مؤتمر الثورة الشعبية» المسلحة التي أسّسها توماس لوبانغا، وذلك خلال أشهر يوليو وأغسطس وسبتمبر.

كذلك تبادل الجيش الكونغولي و«حركة 23 مارس» الاتهامات، يومي 19 و20 سبتمبر، عبر بيانات رسمية، «بعرقلة» جهود السلام أو «انتهاك» مبادئها. وذكرت الحركة أنها باتت في «وضعية دفاع مشروع عن النفس»، في حين أعلن الجيش احتفاظه «بحق الرد».

وأيضاً اندلعت اشتباكات عنيفة بين الجيش الكونغولي وجماعة «مؤتمر الثورة الشعبية» في أغسطس الماضي، وقال الجيش الكونغو إن الجماعة حاولت شنّ هجمات عدة، وإن جنوده قتلوا 12 من مقاتلي الجماعة في موقعين مختلفين، على مسافة نحو 30 كيلومتراً شمال مدينة بونيا، بأقصى شمال شرقي البلاد.

وجاءت تلك الهجمات بعد 4 أيام من اتّهام الجيش الكونغولي «حركة 23 مارس»، بشنّ هجمات متعددة في شرق الكونغو، شدّد على أنها تنتهك الاتفاقات الموقعة في واشنطن والدوحة، وحذّر أنه يحتفظ بحق الردّ على الاستفزازات.

هذا، وتُعدّ هجمات «حركة 23 مارس» خلال أغسطس امتداداً لأخرى سابقة، وقعت خلال يوليو الماضي، وأسفرت عن مقتل 319 مدنياً، وفق ما أعلن مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك.

ولقد دفع هذا المنحى من «حركة 23 مارس» المدعومة من سلطات رواندا، الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي، للقول على هامش حضوره الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أخيراً، إن اتفاق السلام الذي توسّطت فيه الولايات المتحدة وجرى توقيعه مع رواندا «لم يسهم في تهدئة القتال» في شرق البلاد، متهماً حكومة كيغالي بتنفيذ مناورات لعرقلة الاتفاق.

الاستقرار الكامل مستبعد هذا العام

في ضوء هذه التطورات، يتوقّع الخبير محمد تورشين ألا يشهد شرق الكونغو استقراراً كاملاً هذا العام، لكون المطامع الداخلية والخارجية كفيلة بتعطيل مساري واشنطن والدوحة الجادين، بحثاً عن مصالح لا يمكن تجاوزها بين ليلة وضحاها.

ولا يتوقّع محمد تورشين أثراً فورياً من دون التنبه للأزمات والمخاوف والمطالبات الداخلية في شرق الكونغو، ولذا يدعو إلى مصالحة جامعة شاملة تسرّع الوصول إلى استقرار مستدام، وليست اتفاقات هشة.

أما المحلل السياسي التشادي، صالح إسحاق عيسى، فيعتقد أن حلّ كينشاسا الأزمة مع «حركة 23 مارس» قد يشكّل خطوة مهمة مؤقتة نحو التهدئة، «لكنه لن يكون نهاية للعنف».

ويضيف أن الحركة المتمردة «رغم قوتها ونفوذها العسكري والسياسي ليست سوى واحدة من عشرات الجماعات المسلحة التي تنشط في الإقليم، ولكل منها أسبابها وأهدافها وتحالفاتها، بعضها إثني، وبعضها سياسي، وبعضها اقتصادي يتعلق بالموارد الطبيعية». وينبّه عيسى إلى أنه «ما لم يكن هناك اتفاق إقليمي حقيقي، وضغط دولي جاد، ومقاربة شاملة تأخذ في الاعتبار جميع الفاعلين المحليين والإقليميين ونزع السلاح، والمصالحة الوطنية، والعدالة الانتقالية، وإعادة دمج المقاتلين، وحل جذور التهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فإن تحقيق سلام دائم سيظل بعيد المنال».

مسار المصالح

من ناحية ثانية، تفيد المصادر أن رواندا والكونغو الديمقراطية اتفقتا على مسوّدة إطار عمل بشأن توريد المعادن، تُعد جزءاً من اتفاق السلام الذي أبرم في واشنطن، يونيو الماضي، بهدف جذب استثمارات غربية بمليارات الدولارات إلى منطقة غنية بالمعادن كالذهب والكوبالت والنحاس والليثيوم. غير أن أحدها رجّح أن تعقد الكونغو ورواندا اجتماعاً قريباً لوضع اللمسات النهائية على إطار العمل الذي تناقش مسودته حالياً بين وكالات مانحة وقطاعات اقتصادية بالبلدين، وسيوقّعه رئيسا الدولتين لاحقاً.

وبهذا الشأن، يرجح تورشين أن يزداد التنافس الدولي من الصين والولايات المتحدة بشأن الاستحواذ على ثروات الكونغو، ضمن أي مسارات تعاون مستقبلية، دون أن يكون لها أثر فوري على مسار السلام. بينما يرى عيسى

أن المؤشرات الميدانية لا توحي بتحولات حاسمة قبل نهاية العام، بل إن التصعيد مستمر، والجبهات تتوسّع، والمواقف تتصلب، مرجحاً أن يدخل عام 2026، وما زالت دوامة العنف مستمرة، إلا إذا حدث اختراق سياسي مفاجئ.

شاركها.
Exit mobile version