حمل محسن مهداوي ابن الضفة الغربية أوراقه وتوجه إلى مكتب الهجرة في وايت ريفر بولاية فيرمونت الأميركية آملا نيل الجنسية التي انتظرها 10 سنوات، لكن ما وجده بانتظاره كان خارج توقعاته وربما خارج المنطق.
لقد كانت المقابلة -التي كانت مقررة لمهداوي مع مكتب الهجرة- الخطوة الأخيرة في طريقه الطويل للحصول على الجنسية، بعد أن امتلك قبل 10 سنوات البطاقة الخضراء التي تعني إقامة شرعية دائمة في الولايات المتحدة.
وراجع الشاب الفلسطيني أوراقه جيدا وتأكد من اكتمالها، وظن أنه حاصل لا محالة على جنسية أكبر دولة في العالم لينهي سنوات من الشتات الذي نكب به الاحتلال الإسرائيلي ملايين من أبناء فلسطين، لكن تبين أنه لم يدرك ما جرى في نهر الهجرة مؤخرا من مياه جديدة وآسنة في آن.
ووصل مهداوي إلى المقر لكنه لم يجد موظفين يراجعون أوراقه ويعتمدون خطوته الأخيرة للحصول على الجنسية، وإنما وجد ما لم يكن في الحسبان.
EXCLUSIVE FOOTAGE: Columbia student and Palestinian Mohsen Madawi was just arrested during a visit to the immigration office here in Colchester, VT. More to follow. Footage by: Christopher Helali pic.twitter.com/I9JvPS2DLn
— Christopher Helali (@ChrisHelali) April 14, 2025
مسلحون يرتدون ملابس مدنية، ووجوههم مغطاة، كانوا بانتظار مهداوي، وسرعان ما قيدوا يديه بالأصفاد، ليتحول إلى معتقل على يد من قالت الأخبار إنهم عملاء لإدارة الهجرة والجمارك.
ولم يخرج مهداوي من المكتب بالجواز الأميركي الذي انتظره طويلا، ولم يعد إلى منزله، وإنما خرج مقيدا إلى سيارة الشرطة التي نقلته من رحابة الآمال إلى ضيق المعتقل، في اللحظة التي كان يظن فيها أن الحياة ربما ابتسمت له أخيرا.
حرية وتمثال
قبل 140 عاما، وصل تمثال الحرية -الذي صممه النحات الفرنسي أوغوست بارتولدي- إلى نيويورك هدية من الجمهورية الفرنسية الثالثة إلى الولايات المتحدة بالذكرى المئوية لاستقلالها، وتم تخزينه في قطع حتى الانتهاء من بناء قاعدة له، ثم افتتحه الرئيس الأميركي غروفر كليفلاند في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1886.
وفي عام 1924 تم تصنيف تمثال الحرية كأثر وطني وتراث قومي للولايات المتحدة، الدولة العظمى التي قامت على أكتاف مهاجرين قدم معظمهم من أوروبا وبقيتهم من مختلف أنحاء العالم.
وتطلق الولايات المتحدة على التمثال اسم “الحرية تنير العالم” وتعتبره رمزا للحرية والديمقراطية، وهو يجسد سيدة على هيئة رومانية باللون الأخضر وقد تحررت من قيود الاستبداد، وتمسك في يدها اليمنى مشعلا يرمز إلى الحرية، وفي يدها اليسرى كتابا نقش عليه بأحرف لاتينية “4 يوليو 1776″ وهو تاريخ إعلان استقلال الولايات المتحدة، وتضع على رأسها تاجا يرمز إلى البحار السبعة أو القارات السبع في العالم.
التمثال والجزيرة التي أقيم عليها وتحمل أيضا نفس الاسم (جزيرة الحرية) باتا مزارا يقصده أكثر من 3 ملايين شخص سنويا، كما أصبح تمثال الحرية فكرة ورمزا للحرية تم استنساخه في عدة بلدان من بينها فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا واليابان.
على قاعدة التمثال تم حفر أبيات للشاعرة الأميركية إيما لازاروس، تقول:
هنا عند بواباتنا التي يغمرها البحر
ستقف امرأة جبارة مع شعلتها
اسمها أم المنفيين، وفي يدها منارة ترحب بالقادمين
وتقول بشفتيها الصامتة هات المتعبين، والفقراء
والجموع التواقة لنسمات الحرية
أرسل هؤلاء المشردين إلي
فأنا أرفع مصباحي بجانب الباب الذهبي
واحد من الجموع
مهداوي كان أحد هؤلاء المنفيين المؤملين في الترحيب والتواقين لنسمات الحرية، ولد في مخيم للاجئين بالضفة الغربية التي احتلتها إسرائيل عام 1967 بعدما احتلت قبلها معظم أراضي فلسطين في النكبة التي لحقت بالعرب عام 1948 عندما فشلت جيوشهم في التصدي للعصابات الصهيونية التي كانت قد تمددت على أرض فلسطين بدعم من قوى عالمية تتقدمها بريطانيا.
وبعد 3 أرباع قرن من الاحتلال الإسرائيلي، بات نصف الفلسطينيين -المقدر عددهم بنحو 15 مليون نسمة- يعيشون في الشتات حول العالم، يحلمون بالعودة إلى وطنهم، ويسعون ما استطاعوا إلى سبل العيش الكريم حتى تأتي ساعة تحقيق الحلم ولو بعد حين.
ويتحدث التقرير الصادر عن الجهاز الفلسطيني للإحصاء -العام الماضي- عن نحو 7.6 ملايين فلسطيني يعيشون في الشتات منهم نحو 6.4 ملايين في الدول العربية.
أما في الولايات المتحدة خصوصا فتذهب معظم التقديرات إلى وجود نحو ربع مليون فلسطيني.
مهداوي كان يريد اللحاق بهؤلاء، والتزم بالمسار القانوني الذي تحدده السلطات، بالتزامن مع مواصلة دراسته في جامعة كولومبيا التي كان يتوقع أن يتخرج منها الشهر المقبل، ثم يواصل الدراسة في مرحلة الماجستير ابتداء من الخريف المقبل.
ولعل هذا الشاب الفلسطيني المهاجر كان يعد الأيام يوما بعد يوم، حتى جاءت الخطوة الأخيرة أو هكذا ظن، قبل الحصول على الجواز الأميركي، لكن الحلم تحول إلى كابوس.
إجراءات ترامب
الأشهر الأخيرة شهدت حدثا فارقا بالنسبة لكل المهاجرين، وهو عودة دونالد ترامب مجددا إلى البيت الأبيض، وما يعنيه ذلك من معاودة “الحرب” التي شنها في ولايته الأولى على المهاجرين، رغم أن هذه الدولة العظمي نشأت وترعرعت على يد مهاجرين.
وقد تمثل التطور الآخر في “حرب” أخرى تشنها الإدارة الأميركية على طلاب الجامعات الذين تظاهروا دعما للحقوق الفلسطينية، والتي تمثلت في إجراءات من قبيل إلغاء الإقامات وسحب التأشيرات، ووصلت إلى حد الاعتقال.
وصرح مسؤولو إدارة ترامب بأن حاملي تأشيرات الطلاب معرضون للترحيل بسبب دعمهم للفلسطينيين وانتقادهم لسلوك إسرائيل في حرب غزة، واصفين أفعالهم بأنها تهديد للسياسة الخارجية الأميركية. بينما وصف منتقدو ترامب هذه الإجراءات بأنها اعتداء على حقوق حرية التعبير بموجب التعديل الأول للدستور الأميركي.
ويقول محامو مهداوي بعد ساعات من اعتقاله إنهم لا يعرفون مكانه، وإنهم قدموا عريضة إلى محكمة اتحادية يطلبون فيها أمرا يمنع الحكومة من إبعاده من الولاية أو من الولايات المتحدة.
وتقول المحامية لونا دروبي في رسالة بالبريد الإلكتروني إن “إدارة ترامب اعتقلت مهداوي للانتقام المباشر منه بسبب دفاعه عن الفلسطينيين وبسبب هويته الفلسطينية. إن اعتقاله محاولة لإسكات أولئك الذين يتحدثون عن الفظائع في غزة. كما أنه غير دستوري”.
وأضافت المحامية: “لقد جاء إلى هذا البلد أملاً في أن تكون لديه الحرية للتحدث عن الفظائع التي شاهدها، لكنه يعاقب على ذلك”.
وجاءت الاستجابة سريعا من القضاء، حيث أمر قاضي المحكمة الجزئية (وليام سيشنز) الرئيسَ ومسؤولين كبارا آخرين بعدم ترحيل مهداوي من الولايات المتحدة أو إخراجه من ولاية فيرمونت، وذلك حسب وكالة رويترز للأنباء التي أشارت إلى أن مسؤوي هيئة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك لم يردوا على طلبها للحصول على معلومات.
لا إنساني
وانضم مشرعون أميركيون إلى انتقاد ما جرى للشاب الفلسطيني، حيث وصف السيناتور بيرني ساندرز وآخرون من وفد فيرمونت في الكونغرس احتجاز مهداوي بأنه “غير أخلاقي ولا إنساني وغير قانوني” قائلين إنه يجب توفير الإجراءات القانونية الواجبة للمقيم القانوني بالولايات المتحدة والإفراج عنه فورا.
وقالوا “دخل مهداوي مكتب الهجرة لما كان يفترض أن يكون الخطوة الأخيرة في إجراءات منحه الجنسية. لكن بدلا من ذلك، ألقي أفراد مسلحون بملابس مدنية ووجوههم مغطاة القبض عليه واقتادوه مكبل اليدين”.
كما حمل السيناتور الديموقراطي كريس فان هولين بشدة على ما قامت به السلطات الأميركية، وقال إن اعتقال الطلبة الأجانب هو منع لأي انتقاد لحكومة بنيامين نتنياهو (في إسرائيل) وهو ما يُمثل انتهاكًا للتعديل الأول للدستور الأميركي.
ووسع فان هولين نطاق انتقاده ليطال خطة ترامب تهجير مليوني فلسطيني من قطاع غزة ووصفها بأنها “دنيئة” كما انتقد وزيرَ الخارجية ماركو روبيو وقال إنه لا يُمارس سياسة خارجية بقدر ما أصبح المسؤول عن إخفاء الطلاب الأجانب في الولايات المتحدة.
وبدورها، وصفت عضو الكونغرس رشيدة طليب (من أصل فلسطيني) ما تعرض له مهداوي بالاختطاف بسبب نشاطه ضد الإبادة الجماعية في غزة.
“The fight for freedom of Palestine and the fight against antisemitism go hand-in-hand because injustice anywhere is a threat to justice everywhere,” says Mohsen Mahdawi, co-president of Columbia’s Palestinian Students Union. https://t.co/xh91MwzdHe pic.twitter.com/CsBehwMWEc
— 60 Minutes (@60Minutes) December 6, 2023
العلاقة مع محمود خليل
وحسب وسائل إعلام أميركية، تتشابه ظروف مهداوي مع مواطنه محمود خليل الطالب بجامعة كولومبيا وأحد المفاوضين الرئيسيين في الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين، والذي احتجز بمنطقة نيويورك في الثامن من مارس/آذار الماضي، ونُقل إلى مركز احتجاز في لويزيانا تمهيدا لترحيله.
وقد أصدر قاضٍ أميركي مختص بالهجرة في لويزيانا حكما يوم الجمعة الماضي بإمكان ترحيل خليل، مما يسمح لإدارة ترامب بمواصلة جهودها لترحيل الطلاب الأجانب المؤيدين للفلسطينيين.
يُشار إلى مهداوي وخليل شاركا في تأسيس اتحاد الطلاب الفلسطينيين في جامعة كولومبيا خريف عام 2023.
واللافت أن مهداوي طالما استخدم لغة هادئة ومعتدلة، مثلما جرى في حديث لبرنامج “60 دقيقة” الشهير على شبكة “سي بي إس” (CBS) خلال ديسمبر/ كانون الأول 2023 عندما سئل عن نشاطه في حرم جامعة كولومبيا وتجربته كفلسطيني.
وقد تحدث مهداوي خلال المقابلة أيضا عما يوصف بـ”معاداة السامية” وقال إن “النضال من أجل حرية فلسطين ومكافحة معاداة السامية متلازمان، لأن الظلم في أي مكان تهديد للعدالة في كل مكان”.