قبل 51 عامّا، وبالتحديد يوم الأحد 16 يونيو/حزيران 1974، كان العنوان الرئيسي لصحيفة السفير اللبنانية يتعلق بزيارة الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون إلى دمشق للقاء نظيره السوري حافظ الأسد، وكان العنوان مختصرًا ونصه حرفيًا “استقبال هادئ لنيكسون في دمشق”.
حفلت الصفحة الأولى للصحيفة بعناوين أخرى من بينها “القذافي لعرفات: ندعم وحدتكم التي تجلّت في المجلس الوطني”، وفي الجزء الأيسر في أسفل الصفحة كان ثمة خبر صغير عن الفنّان/الرسّام اللبناني-الفلسطيني بول غيراغوسيان، وعنوانه “حادث مؤسف للفنّان بول غيراغوسيان”، وهو عن تعرّضه (مساء أمس 15 يونيو 1974) لحادث أدى إلى بتر رجله اليُمنى.
وفي تفاصيل الحادث أن غيراغوسيان كان في زيارة إلى بيت أحد أصدقائه (الناقد السينمائي إبراهيم العريس)، ولدى مغادرته وبينما كان خارجًا في المصعد مع أصدقائه عصام محفوظ (شاعر ومسرحي لبناني) وإدغار نجّار ونبيل أبو حمد توقف المصعد فجأة، “وأثناء محاولة بول كسر زجاج المصعد للخروج منه عاد المصعد للعمل ورجله نصفها خارج الزجاج المكسور، وحاول رفاقه إيقاف المصعد ولكن دون جدوى، فبتر الزجاج نصف ساق الفنان، ونُقل إلى مستشفى الجامعة الأميركية حيث أُجريت له عملية ناجحة”.
كان غيراغوسيان (1926 – 1993) في الـ48 من عمره آنذاك، وواحدًا من أبرز فنّاني/ رسّامي العاصمة اللبنانية بيروت في سبعينياتها الذهبية، ناشطًا في حياتها الثقافية ومشتبكًا على طريقته الخاصة مع نزعات التجريب الحادة والخصبة في بيروت التي كانت حاضنة الحداثة في المنطقة العربية.
بول غيراغوسيان.. ابن الهجرتين الأرمينية والفلسطينية
تقاطعت في شخصيته، وفنه بالتالي، تعقيدات التداخل وقرابات المنفى لنفر غير قليل من مثقفي المنطقة الذين وجدوا في لبنان آنذاك وطنًا متخيّلًا، وحاضنة دافئة لإبداعاتهم، مع فارق حاسم أن غيراغوسيان ابن المنفيين الأرميني والفلسطيني، كان مثقلًا بذاكرة الألم الطازج والتهجير بالغ القسوة، اللذين تجلّيا في أعماله الفنية التي تخطت الحدود اللبنانية والعربية، ليصبح واحدًا من فنّاني العالم نفسه.
هذا وسواه جعل غيراغوسيان يقيم في ذاكرتي شعبين أو ثلاثة على الأقل، ويندرج في تجاربهم الفنية وتاريخ فنونهم وصالات عروضهم، وكتبهم التي تؤرخ أو تنقد أو تستحضر روّاد فنهم التشكيلي ومبدعيه الكبار، فهو فنان فلسطيني قدر ما هو لبناني، وفلسطيني ولبناني معًا قدر ما هو أرميني.
ولد غيراغوسيان في القدس لعائلة أرمينية فقيرة فرّت إلى فلسطين عام 1922 مع موجة التهجير الأرمينية الثانية، حين فرّ أرمن كيليكيا وما كانت تسمى الجزيرة السورية العليا (مرعش وأورفة وماردين وكلس وعنتاب) إلى سوريا، ومنها إلى لبنان وفلسطين.
درس غيراغوسيان في طفولته في مدارس دينية داخلية، نظرًا لفقر أسرته الشديد. في البداية التحق بمدرسة راهبات المحبّة في القدس، قبل أن ينتقل إلى دير الآباء الساليزيين في المدينة نفسها.
درس رسم الأيقونات البيزنطية، ومنذ طفولته بدأ رسم البورتريهات في شوارع القدس وحاراتها وأزقتها الضيقة لإعالة أمه “راحيل” وشقيقه الأصغر، بعد وفاة والده عازف الكمان الضرير عندما كان بول في الثالثة عشرة من عمره، وفي الأربعينات درس في “استوديو ياركون للفنون” في يافا.
من القدس إلى برج حمّود
انتقل غيراغوسيان وأسرته عام 1948 إلى لبنان، حيث أقاموا في منطقة “برج حمّود”، وهناك امتهن تدريس الفن في المدارس الأرمينية، إضافة إلى الرسم الذي أكسبه بعض الشهرة.
عام 1956 فاز بالجائزة الأولى في إحدى مسابقات الرسم في مسابقة نظمها المعهد الثقافي الإيطالي، كما فاز بمنحة من الحكومة الإيطالية لدراسة الفن في أكاديمية الفنون الجميلة في فلورنسا، ونال في عام 1962 منحة فرنسية حكومية للدراسة في “لي آتلييه دي ميتر” (محترفات الأساتذة) في مدرسة باريس، وفي العام نفسه أقام أول معرض شخصي له في العاصمة الفرنسية.
حاز بول غيراغوسيان الجنسية اللبنانية في عهد الرئيس فؤاد شهاب، وفي عام 1989 انتقل إلى باريس حتى عام 1991، وهناك عرض أعماله في مقر اليونسكو، كما أقام معرضًا فرديًا في معهد العالم العربي، وكان أول معرض فردي على الإطلاق يُقام لفنان في المعهد، تكريمًا لمسيرة غيراغوسيان الاستثنائية.
من التشكيليين الفلسطينيين الروّاد
وعن تجربة غيراغوسيان كتب الناقد كمال بلاطة أن مولد غيراغوسيان في القدس لعازف كمان أرميني كفيف، وتولي مؤسسات تبشيرية كاثوليكية رعايته منذ بلوغه ثلاث سنوات من العمر، وتجربة الانعزال التي عاشها جرّاء ذلك، وتلقيه التدريب على أيدي رسّامي الايقونات الإيطاليين، عوامل عدة تركت تأثيرًا كبيرًا في فن غيراغوسيان لاحقًا.
وخلص بلاطة إلى أن أعمال غيراغوسيان عكست “صراعًا لا يلين من أجل استحضار مشاهد من سنواته الأولى في القدس، فمن رسوماته الأولى التي صوّرت العلاقات البشرية الحميمة إلى رسوماته التجريدية الأخيرة التي اختصرت تفاصيل الجسد في ضربات حادة بطلاء كثيف، تنبثق أشكال غيراغوسيان من مخزون فن الأيقونات المسيحية، وتذكّرنا سلسلة رسوماته التي تصور أشكالًا واقفة بالأيقونات التي تمجد رسل المسيح”.
كما تعبّر شخصيات غيراغوسيان المتكوِّمة على بعضها البعض، بحسب بلاطة “عن محاولة الفنان الدمج ما بين هويته الأرمينية وتجربته الفلسطينية، وقد استعار موضوعات الهجرة والشتات المتكررة في أعماله من مصادر في الكتاب المقدس، وذلك لكي يعبّر عن عالمه الشخصي: عالم يلتقي فيه الحرمان الفلسطيني بالبؤس الأرميني”.
من الانطباعية إلى التجريد
تأثر غيراغوسيان بالمدرسة الانطباعية في الرسم، وتحديدًا بالفنان الهولندي فان جوخ الذي أخذ منه ضربات فرشاته العنيفة والمضطربة أحيانًا وانتهى إلى التجريد.
بيعت احدى لوحات غيراغوسيان في مزار كريستيز-دبي-دلب ل600 ألف دولار-فيسبوك
وظلت طفولته تشوّش هويته وتعدّدها، من ينابيعه ومصادره التأسيسية، وتجلّت في لوحاته المبكرة التي استلهم فيها حياته وعائلته في القدس ولاحقًا في برج حمود.
إضافة إلى التأثيرات الدينية المتمثلة في الأيقونات البيزنطية التي تجلت في ضربات فرشاته الطولية والأجساد الممدودة في لوحاته والمتراصة، التي ربما كانت تصويرًا لتراكم الأجساد وتراصها وتمدّدها قرب بضعها البعض أو فوق بعضها البعض خلال الهجرات الكبرى، ما يجعل لا وعي الفنان يطفو المرة تلو الأخرى في لوحاته التي ظهرت فيها آلام الهجرتين الأرمينية والفلسطينية.
بيروت ترد التحية
وإضافة إلى ذلك شكّلت الأم واحدة من ثيمات فنان كان يحمل دفتر رسوماته، ويتجوّل في شوارع القدس أو برج حمّود ويتوقف أحيانًا ليرسم أحد العمال أو الجيران الذين يصادفهم.
احدى لوحات غيراغوسيان في القصر الرئاسي اللبناني-الوكالة الوطنية (اللبنانية) للاعلام
كان غيراغوسيان جزءًا أصيلًا من للحركة الثقافية اللبنانية خلال حياته، ولم تقتصر أعماله الفنية على اللوحات بل شملت توظيفة التشكيل في المسرح أيضًا، حيث قدّم تصميمات فنية وديكورات للعديد من المسرحيات التي أخرجها بعض أصدقائه.
ورغم ضياع بعض أعماله هذه خلال الحرب الأهلية اللبنانية، فقد عُرض بعضها قبل أكثر من عشر سنوات (2013) بعد ترميم ما بقي منها، وخصوصًا لوحة كبيرة كانت جزءًا من خلفية مسرحية “إضراب الحرامية” المأخوذة عن نص لأسامة العارف، والتي قدّمها روجيه عساف ونضال الأشقر عام 1971.
غيراغوسيان مع صديقه المسرحي أسامة العارف-موقع غيراغوسيان على فيسبوك
وقد ردّ روجيه عسّاف التحية لصديقه الراحل غيراغوسيان عام 2010 بمسرحية “مدينة المرايا” التي استعاد فيها غيراغوسيان ولوحاته في احتفالية مرهفة لفنان أحب بيروت وأحبته.
وبعد أكثر من ثلاثين عامًا على رحيله، يمكنك أن تجد غيراغوسيان أو أحد أعماله أو الذكريات المرتبطة به في كل مكان في العاصمة اللبنانية، بما فيها القصر الرئاسي، حيث تظهر إحدى لوحاته خلال استقبال الرئيس الجديد جوزيف عون لضيوفه من مسؤولين عرب وأجانب، في إحدى قاعات قصر بعبدا.