احتلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مكانة استثنائية في رصد وتوثيق أحداث الساحل السوري الدامية، التي بدأت الخميس الماضي بهجوم هو الأكبر من نوعه منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، تنفذه جماعات تابعة له على دوريات ونقاط أمنية تابعة للنظام الجديد.
وتميّزت متابعة الشبكة لأحداث الساحل بمصداقية عالية جعلتها مصدرًا موثوقًا لوسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية، في رصد انتهاكات حقوق الإنسان التي رافقت تلك الأحداث، سواء صدرت عن الجماعات المسلحة التابعة للنظام المخلوع أو قوات الأمن الحكومية والجماعات المسلحة المؤيدة لها.
تأسست الشبكة السورية لحقوق الإنسان في يونيو/ حزيران 2011، في أعقاب الثورة الشعبية على نظام بشّار الأسد في مارس/ آذار من العام نفسه، وكان وراء تأسيسها شاب سوري يتحدّر من إحدى عائلات مدينة حماة العريقة.
ونتيجة لعملها الدؤوب وتقاريرها الموثّقة منذ ذلك الوقت، أصبحت الشبكة مصدرًا أساسيًا لكثير من المنظمات الأممية، مثل لجنة التحقيق الدولية والمفوضية السامية لحقوق الإنسان وآلية التحقيق المستقلة، واليونيسيف، ومحكمة العدل الدولية.
توثيق أحداث الساحل
وكانت الشبكة من أوائل المنظمات الحقوقية في سوريا والعالم التي تابعت أحداث الساحل الأخيرة، حيث أصدرت تقريرًا يوثّق هذه الانتهاكات، بعيد وقوعها.
وكما دانت عمليات القتل والتخريب التي ارتكبتها عناصر تابعة للنظام المخلوع، فعلت الأمر نفسه في خصوص ما وصفتها بـ”الانتهاكات الخطيرة” التي وقعت خلال العمليات الأمنية للقوات السورية في محافظتي اللاذقية وطرطوس.
وقال أول تقرير للشبكة السورية عن الأحداث إن “قوات مشتركة تابعة لوزارتي الدفاع والداخلية نفذت (الجمعة 7 مارس الجاري) حملة أمنية واسعة في عشرات القرى بريف اللاذقية وطرطوس وحماة، شملت مداهمات عشوائية للمنازل وإطلاق نار مباشر على الأهالي، موضحةً أن “الحملة تخللتها عمليات إعدام ميداني واسعة بحق شبان ورجال تبلغ أعمارهم 18 عامًا وما فوق، دون تمييز واضح بين المدنيين وغيرهم”.
قوات وزارة الدفاع السورية في جبلة بمحافظة اللاذقية-غيتي
وقال مدير الشبكة فضل عبد الغني للتلفزيون العربي (الجمعة) إن “عصابات موالية لنظام الأسد قتلت 100 من قوات الأمن و15 مدنيًا”، فيما سُجل مقتل قرابة 125 مدنيًا على يد قوات الأمن في أرياف اللاذقية وطرطوس وحماة.
وكشف أن حملات قوات الأمن تخللتها عمليات إعدام ميداني واسعة، مؤكدًا رصد مقتل حوالي 40 مدنيًا في قرية المختارية بريف اللاذقية، أُعدموا جماعيًا في موقع واحد وتُركت جثثهم في المكان.
إعدامات ميدانية طالت مدنيين
وشهدت مدينة بانياس بمحافظة طرطوس، حراكًا مسلحًا من قبل عناصر النظام السابق في 6 مارس/ آذار الجاري، حيث تركز الهجوم على نقاط الأمن الداخلي، خصوصًا في حي القصور ذي الأغلبية العلوية.
وفي اليوم التالي، دخلت المدينة قوات عسكرية تضم عناصر من جنسيات غير سورية، نفذت اشتباكات مع المسلحين وأعمال تخريب ونهب للمحال التجارية والسيارات، كما قامت بتنفيذ إعدامات ميدانية طالت مدنيين داخل منازلهم بشكل عشوائي، وفق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.
وقال عبد الغني إنه تم رصد حالات إعدام ميدانية لعائلات كاملة في حي القصور في بانياس بمحافظة طرطوس، من بينهم أطباء ومهندسون معروفون لدى المجتمع، وليست لهم علاقة بالأحداث.
وشدّد عبد الغني على ضرورة أن تتصرف الدولة السورية كدولة وليست فصيلًا، ووصف ما حدث بأنه “عمليات انتقامية، تحمل صبغة طائفية”، ما يشكّل “تهديدًا للسلم الأهلي”، موضحًا أن أفراد الطائفة العلوية ليسوا كلهم موالين لنظام الأسد، وأن ما يحدث يحشد الطائفة العلوية ويجعلها تصطف خلف “العصابات الإجرامية وضد الدولة”.
سوريون في ساحة المرجة يحتجون على العنف في منطقة الساحل-غيتي
وفي حديثه للتلفزيون العربي لفت عبد الغني إلى أن فصائل المعارضة السورية لم تقتل مدنيًا واحدًا خلال عملية “ردع العدوان” التي أسقطت نظام الأسد، ما انعكس ارتياحًا في صفوف مكونات الشعب السوري، ودفع الكثيرين من ضباط النظام السابق للانشقاق ورمي السلاح.
ويصف عبد الغني عملية ردع العدوان بأنها أكثر انضباطًا مما حدث في منطقة الساحل، حيث كانت عناصر هيئة التحرير الشام وغرفة العمليات أكثر مركزية مما أصبح عليه حالهم لاحقًا، ويردّ ذلك إلى توسع السيطرة في المحافظات والمدن والمناطق، والقيام بعملية إعفاء “غير منطقية” لكل عناصر الشرطة، والاستعانة بعناصر غير مدربة لسد النقص في الكوادر الأمنية.
من هو فضل عبد الغني؟
من هو فضل عبد الغني الذي لعب دورًا كبيرًا في ملاحقة نظام بشّار الأسد حقوقيًا، وواصل مهمته في رصد انتهاكات حقوق الإنسان في العهد الجديد؟
• ولد عبد الغني في مدينة حماة عام 1978 ، لأب من عائلة “الشقفة” عمل محاميًا وتقلّد مناصب حكومية.
• أنهى عبد الغني دراسته الجامعية الأولى في جامعة دمشق، بكالوريوس في الهندسة المدنية/ اختصاص إدارة المشاريع الهندسية.
• غادر سوريا للعمل في الإمارات عام 2006، وبعدها قطر عام 2009.
يصف عبد الغني عملية ردع العدوان بأنها أكثر انضباطًا مما حدث في منطقة الساحل، حيث كانت عناصر هيئة التحرير الشام وغرفة العمليات أكثر مركزية مما أصبح عليه حالهم لاحقًا، ويردّ ذلك إلى توسع السيطرة في المحافظات والمدن والمناطق
• عندما اندلعت الثورة الشعبية على نظام الأسد عام 2011 كان خارج البلاد، فأسس الشبكة السورية لحقوق الإنسان بعد نحو ثلاثة أشهر من اندلاعها.
• حصل عبد الغني على شهادة الماجستير في القانون الدولي (LLM) من جامعة دي مونتفورت في مدينة ليستر بالمملكة المتحدة عام 2020.
• وحاز على الجائزة الفرنسية- الألمانية لحقوق الإنسان عام 2023 لجهوده في مجال حقوق الإنسان.
ولم يُعرف عبد الغني باسم عائلته الصريح لسنوات طويلة خشية تعرّض أفراد أسرته الأقربين لخطر الملاحقة أو الانتقام، وخلال نشاطه في شبكة شام التي أنشئت بعيد الثورة والهيئة العامة للثورة السورية، استخدم اسمًا مستعارًا هو “علي حسن” للأسباب نفسها.
ولد عبد الغني في حماة التي شهدت مجزرة مروعة مطلع الثمانينيات -موقع عبد الغني على فيسبوك
وأصدر عبد الغني مئات التقارير والتحقيقات التي وثّقت انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا في سنوات ما بعد الثورة الشعبية، شملت القتل خارج نطاق القانون، والاعتقال التعسفي، والإخفاء والتهجير القسريين، إضافة إلى استخدام الأسلحة الكيميائية والذخائر العنقودية، وسرقة الأراضي والممتلكات، ونهب المساعدات الإنسانية.
كما أصبح عبد الغني من الأسماء التي تستضيفها وسائل الإعلام بعد سقوط الأسد، والتي تلجأ إليها الهيئات الدولية ووزارات الخارجية في العديد من الدول للتعرف إلى حقيقة ما يجري في بلاده بشكل موثّق.
الشبكة السورية: التأسيس والأهداف
تأسست الشبكة السورية لحقوق الإنسان SNHR عام 2011، بهدف رصد وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، ولحشد الجهود للحدِّ منها، والحفاظ على حقوق الضحايا، وفضح مرتكبي الانتهاكات تمهيدًا لمحاسبتهم، وتوعية المجتمع السوري بحقوقه المدنية والسياسية، ودفع عجلة العدالة الانتقالية، ودعم التغيير الديمقراطي، وتحقيق العدالة والسلام في سوريا.
وللشبكة عدة أقسام رئيسية هي: قسم توثيق الضحايا، وقسم توثيق المعتقلين والمختفين قسريًا، وقسم التقارير والدراسات، وقسم المرأة والطفل، وقسم التواصل الاجتماعي.
تصدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقارير دورية بعضها يومي-غيتي
وتصدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقارير دورية بعضها يومي، عن حالة حقوق الإنسان في سوريا، كما تصدر عبر موقعها الرسمي رسومًا بيانية وخرائط تفاعلية تتناول إحصائيات معينة، أو تحليلاً لواقع انتهاك أو أكثر من الانتهاكات التي تُمارس في سوريا، إضافة إلى عدد من الأخبار اليومية عن انتهاكات حقوق الإنسان.
جهات دولية تعتمد تقارير الشبكة
تشارك الشبكة السورية لحقوق الإنسان البيانات التي توثقها مع الجهات الدولية المختصة بمراقبة حالة حقوق الإنسان في سوريا، وقد اعتمدت عدة وكالات ومنظمات أممية بيانات الشبكة السورية.
وأصبحت بياناتها مصدرًا أساسيًا لهذه المنظمات عن الانتهاكات التي وقعت في سوريا، ومنها المفوضية السامية لحقوق الإنسان ولجنة التحقيق الدولية المستقلة، والآلية الدولية المحايدة والمستقلة، ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، وآلية الرصد والإبلاغ عن الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال في حالات النزاع المسلح بقيادة اليونيسف، إضافة إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، والفريق العامل المعني بالاختفاء القسري التابع للأمم المتحدة، وعدد من المقررين الخواص المعيّنين من قبل مجلس حقوق الإنسان، إضافة إلى مكتب حقوق الإنسان والديمقراطية في الخارجية الأمريكية، ووزارات خارجية الدول التي تُصدر تقارير عن حالة حقوق الإنسان في سوريا.
ويعمل في الشبكة عشرات الباحثين والناشطين المدافعين عن حقوق الإنسان المنتشرين في سوريا ودول الجوار، من بينهم متفرغون ومتطوعون كانوا يعملون سرًا داخل البلاد قبل فرار الرئيس المخلوع بشّار الأسد.
خريطة طريق للمرحلة الانتقالية
والخميس الماضي (6 مارس/آذار) أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقريرًا يعرض رؤيتها لتحقيق التعددية السياسية، وإنشاء هيئة العدالة الانتقالية بعد سقوط نظام الأسد.
ويشدّد التقرير على أن المرحلة الانتقالية تمثل منعطفًا حاسمًا في إعادة تشكيل النظام السياسي، على أسس تضمن التعددية السياسية وتعزّز المشاركة الشعبية في صناعة القرار، مع ضمان احترام حقوق جميع مكونات المجتمع السوري.
ويستعرض التقرير التحديات التي تواجه الانتقال السياسي في سوريا، ومنها ضعف مؤسسات الدولة والتفكك الإداري، وتراجع الثقة بين مكونات المجتمع، والتدخلات الخارجية والمصالح الإقليمية والدولية، والأزمة الاقتصادية والاجتماعية، والانتقال من الشرعية الثورية إلى نظام سياسي تعددي.
ووضع التقرير تصورًا للمرحلة الانتقالية يضمن تحقيق العدالة والمساءلة، وترسيخ مبادئ التشاركية وحقوق الإنسان، وتعزيز التعددية السياسية، من خلال عدة خطوات منها:
• تشكيل هيئة حكم انتقالية برئاسة رئيس الدولة أحمد الشرع تتضمن تمثيلاً أوسع لمختلف القوى السياسية والمجتمعية.
• إصدار إعلان دستوري مؤقت ينظم المرحلة الانتقالية، ويحدّد صلاحيات المؤسسات المختلفة لضمان وضوح المسار السياسي.
• تشكيل حكومة انتقالية تعمل على إعادة بناء مؤسسات الدولة، وإدارة شؤون البلاد خلال الفترة المؤقتة.
• صياغة دستور جديد يعبّر عن تطلعات الشعب السوري، ويضمن الحقوق والحريات الأساسية.
• إجراء انتخابات حرة ونزيهة تكفل مبدأ التداول السلمي للسلطة، وتتيح لجميع السوريين فرصة اختيار ممثليهم بشكل ديمقراطي.
الرئيس الشرع في مؤتمر الحوار الوطني في فبراير الماضي-غيتي
وأكد التقرير على ضرورة الانتقال من الشرعية الثورية إلى التعددية السياسية وفق نهج مدروس قائم على إعادة هيكلة الدولة، وضمان مشاركة فاعلة لمختلف القوى الوطنية، وترسيخ أسس الحكم الرشيد.
وشدّد التقرير على أن هيئة الحكم الانتقالية يجب أن تتمتع بصلاحيات واضحة ومحددة، لمنع إعادة تمركز السلطات، وأن يتم تشكيلها ضمن جدول زمني محدّد يوازن بين سرعة التنفيذ وفعالية المشاورات السياسية.
وأكد التقرير أنَّ المجتمع الدولي يمكن أن يلعب دوراً داعماً دون تدخل مباشر، عبر تقديم المساعدة الفنية واللوجستية لتعزيز نجاح المرحلة الانتقالية.