وقفت الشابة ناتاشا كرم بصمت على «مسرح المدينة» في بيروت، تقدّم عرضاً وحيداً لمسرحية «وحدنا تحت الشمس نمشي». حرَّكت اليدين فقط وظلّت تُعيد حركاتٍ متكرّرةً توحي برتابة المصير. كانت دوّامةً في أنثى. وطوال العرض، أبدت حاجة إلى تحطيم القيد وإطلاق الصرخة الكبرى. وظلّت تُنازع بما يُشبه تعذُّر المخاض وورطة العجز. لأكثر من ساعة، قدّمت الفنانة بملامح غامضة الانتقالَ من واقع العالم المُعذَّب إلى خلاص الفرد المنشود.
راح رأسها يعلو مع تصاعد الإيقاع النغمي وسيطرته على المسرح. كانت الشابة جسداً مُلقى في حيِّزه الضئيل؛ ومع مَدِّ هذا الحِمْل الصلب (الجسد) بالحركة، أُعلن خوض مسار الشفاء. التجاوُب مع الموسيقى (علي حوت)، شكَّل الخطوة الأولى نحو الخلاص الإنساني. كلّما حلَّ الصخب، انتفض الجسد واختبر كثافة وجوده. حدث ذلك في الظلام، وضوءٌ يتيمٌ مُلقى على الفنانة في قوقعتها. يداها تخرقان العتمة بتشكُّل حركات إرادية غير مفهومة دلَّت على شيء واحد فقط هو إمكان المحاولة. يمين، يسار؛ ثم يمين ويسار، وهكذا في حلقة من تراقُص اليدين إلى ما بدا أنه بلا نهاية. ولمّا تحرّك الرأس، أبدى استعداداً لمواجهة تلك اليدين الغائرتين في حركتهما الغامضة. نهاية المرحلة الأولى من الشقاء.
العرض من إخراج يارا الخوري؛ وهي صانعة مسرح وشاعرة، تسعى إلى إنتاج فنّ يمدّ الجسور بين الشخصي والجماعي، ويقدّر الأصالة والتواضع في العملية الإبداعية. وطوال مدّته، مرَّ على تشرُّب النفس البشرية شعورَ الاحتجاز والخطر، وصراعها الوجودي منذ الأزل لبلوغ الأمان والحرّية. إنه عرض لليلة واحدة، يُخبر عن المنفى الداخلي وتراكُم الإحساس بالانسلاخ، كأنه يكتُب وصية تُفتَح مرة واحدة لتُقرأ مرة واحدة. تُعزِّز سينوغرافيا مارا إنجة الانغماس في الجوّ القاتم. فأعمالها واقعة في الحدّ الفاصل بين التركيب الفنّي والأداء الحيّ. لا تحضُر جدران المصحّة العقلية ولا ما يُشكّلها على مستوى الديكور، لكنّ تتجلّى نفسياً، ويمكن إدراكُها بلا سُلطة الحواس. حياةٌ على هيئة حبسٍ، ولا فارق أكان المرء طليقاً في الهواء أو مربوطاً في سرير حديديّ. روحه هي الحرّة أو الأسيرة.
تُحافظ ناتاشا كرم على وجه متقلِّص جليدي. والفنانة تتنقّل بين الحركة والصورة والكلمة والصوت بكونها وسائط تطرح من خلالها أسئلتها حول ذاتها ومحيطها. لكنّ الكلمة في هذا العرض صامتة. والصوت موسيقيٌّ فحسب، مع تنهيدات اختناق غير مسموعة. النغمات تتصاعد وتُبدِّل إيقاعاتها، أسوةً بتغيُّر الحالة النفسية والعبور المُشرق من الانكماش إلى الانفلاش. يحدُث ذلك والفنانة ترقص فقط. وقد لا تستعين بالجسد كلّه، وإنما بيدين أو رأس أو جَرّ القدم نحو اكتمال الخطوة المقبلة. وهذا الاكتمال يخرج من صميم القماش الطاغي. فاللباس الخانق على جسدٍ مُثقَل، يُعمّق حالة الذنب وتلبُّد الكآبة. وهو ذنبٌ حيال الجدوى الإنساني على أرض تعنّ بعذاباتها وتتخبّط بانطفاء العدالة. وذنبٌ حيال ما يمكن فعله ولا يتحقّق، وما لا يمكن فعله ويُكثّف العجز واللامبالاة.
قدَرُ الشرنقة التحوُّل إلى فراشة؛ تقول المسرحية التي أجرت بحوثها باميلا الهاشم، فيما تولّى هادي إبراهيم التوثيق الإبداعي. مخاض، وعَصْرٌ، وصراخ لا يُسمع، يختزله وجه الفنانة غريب الأطوار. فقط حركة تعبيرية تحتمل مجموعة إسقاطات ما دامت تُمثّل اضطراب المسار الإنساني نحو السعادة. وما اهتزاز البدن مثل صعقة كهرباء سوى بلوغ المحاولة الأخيرة أقصاها. تحلُّ لحظة الشفاء بالتحام الجسد بروحه المُستَعادة. ولا تعود الخطوة «زحفاً» على طريقة سعي الأطفال إلى إثبات وجودهم في عالم متردّد، وإنما مشهدية راقصة مُكتملة، على وَقْع الإيقاع المُحرِّك وصخب الآلة.
إنه انتقال من الشيء إلى ضدّه، وإنقاذٌ يحدُث قبل فوات الأوان. فالوهم والإخفاق والعقاب والفراغ والقسوة، تتراجع أمام الوعي بالكينونة وإرادة إفلات الأغلال. والإفلات هذا يتجسّد بتخلُّص الأحشاء من أحمال على هيئة دوامة من الأقمشة المعقّدة الدالّة على تراكُم الانكسار. التخلّي عن طبقات القماش، يُحرّر الفنانة من وحشية الغرق ليتحقّق الارتماء المُشتهى في النور.
«وحدنا تحت الشمس نمشي»، مسرحية عن تحوُّل الغموض إلى فَهْم، وتحرّر المعنى من المفردات. بإمكان الحركة الدلالة على المصائر، فيتولّى الغَمْزُ فعلَ المحاكاة. ناتاشا كرم، بتركيز اهتمامها على التقاطُع بين العالم الإنساني والعالم الطبيعي، وعلى الجمال الكامن في تفاصيل الحياة اليومية، تُظهر علاقة جدلية بين العتمة والضوء. صقيعها يليه شعاع، فتنضج مراحل الوعي الإنساني.
الغموض محفوف بالأسئلة، وارتباك تفسير ما يجري على المسرح مُحرِّضٌ على الانتظار. فالعرض يتمهّل في فَلْش أوراقه ويتعمّد خيار النار الهادئة. مساحته عريضة بوسع المعنى خلف الحركة. بعضُ لغز العالم تُفكّكه أنثى تتمايل في خفايا الصمت.