الذكاء الاصطناعي: موجة عارمة تُعيد صياغة قواعد القوة والثروة… والبقاء
يشهد العالم منعطفاً غير مسبوق. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل موجة عارمة تُعيد صياغة قواعد القوة والثروة والبقاء، كما كتب سكوت كولثر(*).
أحلام في طريقها للاندثار
أحلام الشركات باتت في حالة تقلب؛ فالأنظمة التي اعتدنا الوثوق بها -مثل الشهادات الجامعية، والتدرج الوظيفي، والمسارات التقليدية نحو النجاح- تخضع لتغيّرات متسارعة. إذ يُحدث الذكاء الاصطناعي ثورةً في مختلف الصناعات، ويحوّل العديد من الوظائف المكتبية إلى خوارزميات، في حين يُعاد تعريف قيمة العمل البشري أمام أعيننا. أما العمال الذين طالما جرى تهميشهم -كاللحامين، والكهربائيين، والبنّائين- فقد أصبحوا اليوم في صدارة الطلب، مع تزايد الحاجة إلى مهاراتهم بشكل غير مسبوق. وهذا ليس توقعاً للمستقبل، بل واقع يحدث الآن.
سباق التسلح بالذكاء الاصطناعي: مشروع مانهاتن الجديد
يُعدّ الذكاء الاصطناعي أداةً غير مسبوقة للإبداع، وقوةً دافعةً للتدمير في آنٍ واحد، إذ يُعيد تشكيل الاقتصادات والحكومات والقوى العاملة بسرعة فائقة.
ووفقاً لبينغ شياو، الرئيس التنفيذي لشركة «G42»، فإن «الذكاء الاصطناعي هو التكنولوجيا المُحددة لعصرنا؛ أداةٌ أساسيةٌ ستعيد تشكيل الاقتصادات والمجتمعات، تماماً كما فعلت الكهرباء في الماضي».
ويُعيد الذكاء الاصطناعي ضبط عمل الصناعات بوتيرة لا تُصدق. في الوقت نفسه، تزداد قيمة الوظائف التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي الوصول إليها -مثل عمال البناء، والكهربائيين، واللحامين، والميكانيكيين المذكورين سابقاً- أكثر من أي وقت مضى.
الذكاء الاصطناعي «الهدّام»
في عام 2019، كانت شهادة ماجستير إدارة الأعمال من جامعة مرموقة تُعادل الفوز في اليانصيب المهني، أما اليوم فإن الخوارزميات المُدعمة بالذكاء الاصطناعي تُدير الشؤون المالية والعمليات والاستشارات، بشكل أسرع وأرخص… ومن دون صرف رواتب.
وأدّى إطلاق شركات «أوبن إيه آب» و«ديب مايند» و«أنثروبيك» لنماذج ذكاء اصطناعي مطورة إلى إعاقة استخدام العاملين التقليديين ذوي المعرفة، إذ تُؤتمت البنوك عمل موظفيها.
وقد أشار ديفيد سولومون، الرئيس التنفيذي لشركة «غولدمان ساكس» في قمة سيسكو للذكاء الاصطناعي في بالو ألتو هذا العام، إلى أن الذكاء الاصطناعي قادر على صياغة 95 في المائة من وثيقة «إس1» (S1) (التي تصف كل أوضاع الشركة المالية) لتقديمها للاكتتاب العام لأول مرة.
بطالة خريجي «هارفارد»
يُشير تقرير حديث إلى أن 23 في المائة من خريجي كلية هارفارد للأعمال لعام 2024 ما زالوا عاطلين عن العمل، بعد 3 أشهر من تخرجهم. كما أن أكثر من 4 ملايين فرد من الجيل «زد» من الشباب في الولايات المتحدة حالياً عاطلون عن العمل أو غير مسجلين في الجامعة، ولا يلتحقون بالتعليم أو العمل أو التدريب، وهم يعطون الأولوية للوظائف التي تُحقق مطامحهم الذاتية خارج نطاق الشهادات التقليدية.
«الجيل (زد) (Generation Z) هو المجموعة الديموغرافية التي تلي (جيل الألفية) وتسبق جيل (ألفا). ويستخدم الباحثون ووسائل الإعلام منتصف التسعينات إلى أواخرها بداية سنوات ميلاد لهذا الجيل، وأوائل عام 2010 سنوات ميلاد نهائية- (ويكيبيديا)».
وظائف صامدة أمام الذكاء الاصطناعي
في الوقت نفسه، يحدث أمر غير متوقع في الجانب الآخر من سوق العمل، إذ لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القضاء عليها مثل إصلاح أنبوب مياه معطل، أو تركيب ألواح شمسية، أو بناء ناطحة سحاب؛ لذا فإن العمال الذين يُحددون ملامح الصناعة لا يختفون، بل يتطورون.
في القرن التاسع عشر، شكَّل عمال المحركات البخارية نمو الاقتصادات. وفي القرن العشرين، كان عمال مصافي النفط هم وقود العالم الحديث، أما في القرن الحادي والعشرين، فسيكون عمال صيانة الذكاء الاصطناعي، وفنيو الروبوتات، والحرفيون المهرة هم من يقاومون الأتمتة.
وقد أضحت وظائف العمالة الماهرة -التي كانت تُعدّ في السابق «وظائف احتياطية»- مطلوبة بشدة الآن، ويتجاوز متوسط راتب الكهربائي في المدن الأميركية الكبرى رواتب بعض حاملي الشهادات الجامعية.
وفي عصر يُجرد فيه الذكاء الاصطناعي الوظائف المعرفية إلى نقاط بيانات، قد تصبح القدرة على البناء والإصلاح مادياً هي العملة الجديدة للنجاح.
الذكاء الاصطناعي: سباق عالمي
ويتسابق العالم للسيطرة على الذكاء الاصطناعي، تماماً كما حدث في سباق الأسلحة النووية في القرن الماضي، لكن هذه الحرب لا تُخاض بالقنابل، بل بالبيانات، وقوة الحوسبة، والأتمتة الذكية.
وتضخّ الدول وشركات التكنولوجيا الكبرى وغيرها من المؤسسات العملاقة تريليونات الدولارات في تطوير الذكاء الاصطناعي الوكيلي؛ وهو جيل جديد من الذكاء الاصطناعي قادر على تنفيذ المهام بشكل مستقل. ومع ذلك، ورغم هيمنة هؤلاء الوكلاء على سير العمل سيظل دور البشر محورياً؛ إذ لا يزال الذكاء الاصطناعي بحاجة إلى الإشراف، والصيانة، والتوجيه المستمر.
ويُعبّر جنسن هوانغ، الرئيس التنفيذي لشركة «إنفيديا»، عن ذلك بأفضل صورة: «لا يُمكن لأي ذكاء اصطناعي أن يحلّ محلّ وظيفة بنسبة 100 في المائة، لكنّ العديد منها يُمكن أن يحلّ محلّ 80 في المائة مما نقوم به… نحن -حرفياً- في بداية ثورة صناعية جديدة».
وسائل التواصل الاجتماعي وانهيار حلم الشركات
يرفض بعض من جيلي «زد» و«جيل الألفية» العمل في الشركات. لقد أعادت وسائل التواصل الاجتماعي تشكيل مفهوم العمل. لماذا العمل في المكاتب في حين يُمكنك كسب عيشك من خلال تصوير تجديد المنازل على «يوتيوب»؟ لماذا تحصل على ماجستير إدارة أعمال في حين يمكنك الحصول على مهنة مربحة تُعلّم الناس كيفية استخدام «تيك توك»؟ لماذا تعمل من التاسعة صباحاً حتى الخامسة مساءً في حين الشخصية الإعلامية التلفزيونية كايلي جينر بنت إمبراطورية بمليارات الدولارات من «إنستغرام»؟
«جيل الألفية، أو جيل (واي) (Y Millennials) هو مصطلح مستخدم لوصف الفئات السكانية التي تتكون من الأشخاص الذين ولدوا في الفترة ما بين 1981 و1996 (ويكيبيديا)».
في الوقت نفسه، على وشك أن ترث هذه الأجيال مبلغاً غير مسبوق قدره 100 تريليون دولار من جيل طفرة المواليد؛ الجيل الأكثر ثراءً في التاريخ. لكن هذا ليس مجرد نقل لرأس المال؛ إنه نقل للمعرفة والسيطرة والأولويات.
وهكذا فإن النخبة الجديدة لا تصعد السلم الوظيفي، بل تبني إمبراطورياتها الخاصة.
التسلسل الهرمي الجديد للقوى العاملة: مَن الرابح ومَن الخاسر؟
الذكاء الاصطناعي لا يلغي العمالة، بل يخلق طبقة نخبوية جديدة من العمال المهرة المطلوبين لإدارة الأتمتة وصيانتها. وفي حين أن الذكاء الاصطناعي يقضي على الوظائف، فإن المسار طويل المدى واضح:
– ستظهر صناعات جديدة.
– سيدرب الوكلاء والأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، البشر.
– ستصبح صيانة الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والإشراف على الأتمتة مجالات حيوية.
يُثبت التاريخ أن كل تقنية ثورية تُحدث نقلة نوعية تُتيح فرصاً جديدة، وتتجاوز أجور بعض الوظائف التقنية رواتب الموظفين الإداريين. ولن يكون الرابحون الحقيقيون من ثورة الذكاء الاصطناعي المستشارين في مجالس الإدارة، بل سيكون العمال الذين يُحافظون على تشغيل الآلات.
وقال إيلون ماسك ذات مرة: «سيجعل الذكاء الاصطناعي الوظائف بلا معنى».
تصحيح: قد يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى فقدان قيمة شهادتك الجامعية، لكن المستقبل ملكٌ لمن يستطيعون فعل ما لا يستطيعه الذكاء الاصطناعي.
* رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للنمو في شركة «INVNT»، مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».
