بدأ الرئيس الأميركي دونالد ترمب ولايته الرئاسية قبل موعدها الرسمي في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، فما إن أعلن عن فوزه بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني حتى بدأ بتشكيل فريقه، والإعلان عن خططه التي قال إنه سيبدأ بتنفيذها فور وصوله إلى البيت الأبيض.
ملف واحد وحسب لم يتركه ترمب ينتظر أداءه اليمين الدستورية رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، وهو ملف الشرق الأوسط.
قام ترمب بثلاث خطوات حاسمة قبل توليه الرئاسة، أولها الإعلان عن اختيار سفير بلاده لدى إسرائيل، ومبعوثه إلى الشرق الأوسط، والثانية تهديده بأن الشرق الأوسط قد يواجه “جحيمًا” إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس قبل وصوله إلى البيت الأبيض، والثالثة انخراط مبعوثه إلى المنطقة بثقل ونشاط لافت في مفاوضات الدوحة، بالغة التعقيد.
وقف النار قبل “جحيم” ترمب
وقبل خمسة أيام من أداء ترمب القسم الرئاسي، وتحديدًا في 15 يناير/كانون الثاني، أعلنت دولة قطر التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس، على أن يدخل حيز التنفيذ في 19 من الشهر نفسه، أي قبل أداء ترمب اليمين الدستورية.
كان الاتفاق الذي تأخر طويلًا ثمرة تعاون نادر، ويكاد يكون غير مسبوق بين الإدارتين الأميركيتين المنصرفة (إدارة بايدن) والحالية (إدارة ترمب)، بالإضافة إلى جهود الوسيطين القطري والمصري.
كان ترمب قبل ذلك متلهفًا عندما أرسل مبعوثه ستيف ويتكوف لمشاركة بريت ماكغورك، مبعوث الرئيس جو بايدن، في الجهود المكثفة التي كانت تجري في الدوحة للتوصل إلى اتفاق، حيث ظل ويتكوف هناك خلال آخر 96 ساعة من المفاوضات التي أفضت إلى إعلان الاتفاق بالفعل.
عودة مئات آلاف النازحين الغزيين الى منازلهم في شمالي قطاع غزة-غيتي
وفور الإعلان عن الاتفاق سارع ترمب، إلى الإعلان عن أنه هو صاحب الفضل في التوصل إليه، واصفًا إياه بالملحمي، ولم يكتف ترمب بذلك بل قال إنه سيستفيد من زخم الاتفاق لتوسيع الاتفاقيات الإبراهيمية، التي أُبرمت خلال ولايته الأولى بين إسرائيل وعدد من الدول العربية.
وبإعلانه هذا يمكن فهم خطواته الثلاث السابقة التي كانت تمهّد الطريق لاستئناف مشروعه الأكبر في المنطقة، وهو إدماج إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط بتطبيع دولها مع إسرائيل، من دون انتظار أو ربما اكتراث بمسار السلام الإسرائيلي -الفلسطيني.
فمن هما مبعوثه إلى المنطقة وسفيره إلى إسرائيل؟
ستيفن يتكوف.. اليهودي مطوّر العقارات
ولد ستيفن ويتكوف المبعوث الأميركي إلى منطقة الشرق الأوسط، لعائلة يهودية أميركية في نيويورك عام 1957، وحصل على الدكتوراه في القانون من جامعة هوفسترا، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
وويتكوف رجل أعمال ومطوّر عقاري، تعرف إلى ترمب في أحد مكاتب المحاماة العقارية الذي كان ترمب أحد عملائه في منتصف الثمانينيات، وأصبح من أصدقائه المقربين منذ ذلك الوقت، وأحد شركائه في ممارسة لعبة الغولف.
ستيف ويتكوف صديق ترمب الشخصي ومبعوثه الى الشرق الاوسط-غيتي
ترأس ويتكوف مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة ويتكوف، التي أسسها عام 1997، حيث قام بتمويل وإعادة تموضع وبناء أكثر من 70 عقارًا في مناطق الأعمال الرئيسية في الولايات المتحدة وفي الخارج.
ولا يُعرف عن ويتكوف إلمامًا حقيقيًا بقضايا الشرق الأوسط أو انخراطًا فعّالًا في الشؤون الدولية من قبل، وإن كانت له علاقات مع إسرائيل وشراكات وعلاقات عمل مع بعض دول المنطقة.
عمل ويتكوف بنشاط منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 على حشد مجتمع رجال الأعمال اليهودي لصالح ترمب، خاصة بعد أن أوقف الرئيس السابق جو بايدن شحن أسلحة تزن 2000 رطل إلى إسرائيل، وساهم مع مانحين يهود كبار لصالح المرشح الجمهوري في مايو/ أيار الماضي.
مايك هاكابي.. لا وجود لما يسمى الضفة الغربية
يعتبر السفير الأميركي لدى إسرائيل، مايك هاكابي، من أشد مؤيدي تل أبيب. وصفه ترمب في بيان ترشيحه بأنه “يعشق إسرائيل وشعب إسرائيل، وشعب إسرائيل يبادله العشق”. وقال: “سيعمل مايك بلا هوادة من أجل عودة السلام الى الشرق الأوسط”.
وهاكابي هو الحاكم السابق لولاية أركسنو، وخاض مرتين الانتخابات التمهيدية لنيل ترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية، إحداهما في 2016 في مواجهة ترامب. الا أنه سارع الى دعم الأخير بعد خروجه من المنافسة.
مايك هاكابي السفير الأميركي لدى اسرائيل -غيتي
تعتبر علاقة هاكابي بإسرائيل تاريخية، وهو يتردد إليها منذ عام 1973. وسبق له أن صرّح لشبكة سي أن أن الأميركية أنه “لا وجود لما يسمّى الضفة الغربية، بل يهودا والسامرة. لا توجد مستوطنات، بل مجتمعات، هي أحياء، مدن. لا وجود لشيء اسمه احتلال”.
كما زار في ديسمبر/ كانون الأول 2023 كيبوتس كفار عزة في جنوب إسرائيل، حيث قُتل العديد من الإسرائيليين في هجوم طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول في العام ذاته، وقال هاكابي: “أردت أن أكون هنا لأقول إنني أقف الى جانب إسرائيل. أقف الى جانب الشعب اليهودي”.
السعودية.. الجائزة الكبرى؟
هل ثمة علاقة مباشرة بين اختيار ترمب لويتكوف وهاكابي وملف تطبيع العلاقات المعلّق بين إسرائيل والسعودية؟
على شاكلة ترمب، فإن قادة الشرق الأوسط الشبان يفضّلون التعامل مع رجال الأعمال، ومع الساسة القادمين من الشركات الكبرى، حيث تمتاز العلاقات معهم بالحيوية والابتعاد عن بيروقراطية الأداء السياسي الكلاسيكي الذي يتسم بالتعقيد، والتوجه مباشرة نحو الهدف وإنجاز الحلول والصفقات، وترك التفاصيل والقضايا العالقة للمختصين.
ومعلوم أن ويتكوف رجل أعمال ومقرّب من ترمب، ما يمنحه جاذبية إضافية.
علاقة مميزة بين الرئيس الاميركي وولي العهد السعودي-غيتي
كانت الرياض الوجهة الأولى لويتكوف بصفته الجديدة مبعوثًا إلى المنطقة، وسبقت زيارته استقبال واشنطن لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (الثلاثاء)، الذي سيكون أول زعيم أجنبي يستقبله ترمب في البيت الأبيض في مستهل ولايته الثانية، والأمر لا علاقة له بالصدفة.
أحيطت زيارة ويتكوف للرياض بتكتم شديد، لكن وسائل إعلام أميركية أشارت إلى أن ملف التطبيع مع إسرائيل كان على طاولة مباحثات المبعوث الأميركي مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إضافة إلى ملفات أخرى، لكن تكتم الرياض لم يعد يعني قبولها ما عُرض أو قد يُعرض عليها، فالسعودية عام 2025 ليست نفسها عام 2016 عندما باشر ترمب ولايته الأولى.
لم تعد هناك أزمة انتقال حكم في السعودية تحتاج إلى غطاء أميركي، كما أن قضية اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في تركيا أصبحت وراء الجميع، بمن فيهم أنقرة نفسها التي أصبحت تتمتع بعلاقات وثيقة مع الرياض.
وبخصوص الملف الأهم سعوديًا، وهو إيران، فقد أعاد البلدان علاقاتهما الدبلوماسية بوساطة صينية في مارس/آذار 2023، ولم تعد طهران بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان وفرار الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد تؤرق السعودية، أو تشكلّ تهديدًا لها تضطر معه لقبول الاشتراطات الأميركية على إطلاقها.
رفض التهجير والتمسك بالدولة الفلسطينية
أرسلت السعودية التي احتفظت لنفسها بموقف رافض لأي علاقات مع إسرائيل دون ضمان مسار مواز يفضي إلى دولة فلسطينية مستقلة طيلة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وزير خارجيتها إلى القاهرة للاجتماع بأربعة من نظرائه العرب (وزراء خارجية مصر والأردن وقطر والإمارات) بالإضافة إلى أمين سرّ اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حسن الشيخ.
وزير الخارجية السعودي في اجتماع القاهرة الوزاري الذي أعلن رفضه تهجير الفلسطينيين-غيتي
وفي ذلك الاجتماع أكّد الوزراء المجتمعون رفضهم المساس بحقوق الفلسطينيين “من خلال الأنشطة الاستيطانية، أو الطرد وهدم المنازل، أو ضمّ الأرض”، أو من خلال “التهجير أو تشجيع نقل أو اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم بأي صورة من الصور أو تحت أي ظروف ومبررات”، كما أكّدوا على ما وصفوه “الدور المهم والمقدّر للولايات المتحدة في إنجاز” اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، و”التطلع للعمل مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لتحقيق السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط، وفقاً لحل الدولتين”.
ماذا يعني ذلك؟ رفض مقترح ترمب القائم على ترحيل الغزّيين إلى الأردن ومصر، والدعوة الضمنية لربط مسار الاتفاقيات الإبراهيمية باتفاق إسرائيلي- فلسطيني يفضي إلى دولة فلسطينية.
فما هي الاتفاقيات الإبراهيمية التي تسعى إدارة ترمب لتوسيعها، وقصر تنفيذها على ما يسمى الحل الاقتصادي لا السياسي فيما يتعلق بالفلسطينيين؟
الاتفاقيات الإبراهيمية
تقوم فكرة هذه الاتفاقيات على فك الارتباط بين القضية الفلسطينية والدول العربية، وعدم ربط العلاقات مع إسرائيل بأي تقدم في مسار الحل السياسي للقضية الفلسطينية، أو اشتراط قيام دولة فلسطينية قبل عقد أي اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وهو ما عبّر عنه نتنياهو في أعقاب إبرام اتفاقيتي السلام مع الإمارات والبحرين عام 2020، بالقول إن السلام في هذه الحالة مقابل السلام وليس الأرض (فلسطين) على الإطلاق، وجاء تسلسل عقد هذه الاتفاقيات على النحو التالي:
* في 13 أغسطس/ آب 2020 توصلت دولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل إلى اتفاق سلام بينهما، وبعد أقل من شهر، في 11 سبتمبر/ أيلول 2020 أُعلن عن توصل البحرين وإسرائيل لاتفاق مماثل، وتم توقيع هاتين الاتفاقيتين في البيت الأبيض في 15 سبتمبر/ أيلول 2020.
توقيع اتفاقيات ابراهام في البيت الابيض عام 2020-غيتي
* في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، أعلن البيت الأبيض أن السودان وإسرائيل اتفقا على تطبيع العلاقات بينهما.
وكان الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترمب قد رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، قبل أيام من الاعلان.
كما سبق الاتفاق لقاء في أوغندا في فبراير/شباط 2020 بين كل من رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والذي أُعلن بعده أن الجانبين اتفقا على تطبيع العلاقات.
* وفي 10 ديسمبر/كانون الأول 2020، رعت الولايات المتحدة اتفاق تطبيع بين المغرب وإسرائيل، تزامن مع اعتراف واشنطن بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.
إعادة تموضع إقليمي
بدخول وقف إطلاق النار في قطاع غزة حيز التنفيذ في 19 يناير/ كانون الثاني الماضي تكشّف حجم الدمار الكبير الذي لحق بالقطاع، وكان تقرير للأمم المتحدة صدر في مايو/ أيار أظهر أن إعادة بناء المنازل المدمرة في قطاع غزة قد تستمر حتى عام 2040 على الأقل.
وبحسب المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيفن ويتكوف فإن إعادة إعمار قطاع غزة ربما تستغرق من عشرة أعوام إلى 15 عامًا، وهو ما يوفر الفرصة لترمب وفريقه لتسويق الحل الاقتصادي (صفقة القرن)، وهو ما بدأ به بالدعوة لترحيل سكان من غزة إلى الخارج (الأردن ومصر ودول أخرى).
القمة العربية في بيروت عام 2002 تبنت مبادة سعودية للسلام مع اسرائيل-غيتي
ورغم أن مآل مقترح ترمب لن يختلف عن مصير مقترحات سابقة شبيهة له إلا أن مقاومته لا يجب أن تقتصر على رفضه فقط بل الضغط باتجاه بديله، وهو الحل السياسي، أو ما يعرف باليوم التالي على الحرب من وجهة نظر الفلسطينيين ودول المنطقة، وربط أي اتفاق قد تُقدم عليه السعودية مع إسرائيل بالاعتراف بدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967، وهو الذي ما زالت تصر عليه السعودية حتى الآن.
ولعلّ ذلك يوجب إعادة تموضع عربية بالتنسيق مع الفلسطينيين لتكون المرحلة الأولى من الحل داخل قطاع غزة، وضمن مقترح شامل ومحدّد زمنيًا ينتهي باعتراف إسرائيل بالدولة الفلسطينية، وهو ما يعني سعوديًا استبدال الاتفاقيات الإبراهيمية بالمبادرة العربية للسلام التي اقترحتها الرياض نفسها في القمة العربية التي عقدت في بيروت عام 2002.