على مدى عقود من الاستغلال الاقتصادي، كانت الشركة الأميركية متعدّدة الجنسيات “United Fruit Company” المعروفة الآن باسم “Chiquita Brands International”، تُسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي والإنتاج في غواتيمالا بمساعدة الحكم الاستبدادي الفاسد.
لكن في الأربعينيات من القرن العشرين، هدّدت الثورة الديمقراطية والدعوات المطالبة بالعدالة بتقويض نفوذ شركة “يونايتد فروت”. لذلك، استفادت الشركة من علاقاتها القوية داخل البيت الأبيض، لتصوير الحكومة الغواتيمالية الجديدة على أنّها إدارة شيوعية خطيرة.
ونتيجة لذلك، أطلقت وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إي” عملية “PBSuccess”، في انقلاب كاسح دمّر الديمقراطية في غواتيمالا، ونصّب ديكتاتورًا، وأشعل فتيل حرب أهلية استمرت لعقود من الزمن وإبادة جماعية لشعب المايا الأصليين.
وفي حين انتهت الحرب الأهلية في غواتيمالا باتفاق سلام، لا تزال البلاد تكافح من أجل التأقلم مع آثار تلك الحقبة الوحشية، خصوصًا مع وجود مئات الآلاف من السكان الأصليين القتلى.
أما بالنسبة لشركة “United Fruit”، فقد تمّ تغيير علامتها التجارية عام 1984، إلى “Chiquita Brands International”، بينما لا تزال الشركة تبيع الموز في جميع أنحاء العالم، وتُعتبر الموزّع الرائد للموز في الولايات المتحدة.
السيطرة على 42% من أراضي غواتيمالا
في النصف الأول من القرن العشرين، كان الموز هو المُنتج الوحيد الذي تعتمد عليه غواتيمالا وهو ما أكسبها لقب “جمهورية الموز”، وهو مصطلح مُهين إلى حدّ بعيد، ينطبق غالبًا على البلدان الفقيرة التي تعتمد اقتصاداتها على محصول واحد (وفي حالة غواتيمالا، هو: الموز). وعادة ما يحكم هذه البلدان أيضًا سياسيون فاسدون.
وهيمنت شركة “United Fruit” على زراعة الموز، حيث كانت تسيطر على 42% من أراضي غواتيمالا، وأكثر من ثلثي صادراتها، وحتى أنظمة الهاتف والتلغراف. وبفضل علاقاتها مع خورخي أوبيكو رئيس غواتيمالا الدكتاتور، لم تُواجه الشركة اعتراضات تُذكَر على الرشاوى المنتشرة على نطاق واسع، والأجور الضئيلة، وانتهاكات العمل.
ولكن في يونيو/ حزيران 1944، بدا أن المد والجزر قد تغير. وبعد أكثر من عقد من الزمن في السلطة، أجبرت ثورة غواتيمالا أوبيكو على الاستقالة.
قُتل خلال الإبادة الجماعية في غواتيمالا حوالي 200 ألف شخص معظمهم من سكان المايا- allthatsinteresting.com
أول انتخابات شرعية في تاريخ البلاد
وفي أعقاب الثورة، أجرت غواتيمالا أول انتخابات شرعية في تاريخ البلاد، حيث انتخبت على الفور الإصلاحيين الليبراليين الذين وعدوا بإدخال حد أدنى للأجور، وبناء 6000 مدرسة، وإقرار حقّ اقتراع شبه عالمي.
بحلول عام 1951، ومع انتخاب العقيد السابق جاكوبو أربينز، بدأت غواتيمالا تتطلّع إلى هدف أكبر يتمثّل في استعادة السيطرة على اقتصادها.
وراقبت شركة “United Fruit” الثورة الديمقراطية بحذر، مدركة التهديد الواضح الذي يُشكّله السكان ردًا على ممارساتها التجارية الاستغلالية.
وتحوّل الحذر إلى إنذار عندما أصدرت إدارة أربينز “المرسوم رقم 900″، والذي ينصّ على إعادة توزيع الأراضي على أكثر من 100 ألف أسرة غواتيمالية، بهدف نقل الأراضي غير المُستغلّة التي يملكها كبار أصحاب الأملاك إلى المزارعين الذين لا يملكون أرضًا.
وحينها، كانت شركة “يونايتد فروت” تمتلك حوالي نصف مساحة البلاد، أي الكثير من الأراضي المستهدفة في المرسوم.
دعمت “سي آي إيه” الضابط العسكري السابق كارلوس كاستيلو أرماس-allthatsinteresting.com
ودفعت الحكومة ثمن كل فدان استولت عليه، باستخدام التقييمات التي أدرجها أصحاب العقارات في إقراراتهم الضريبية السابقة. لكنّ الشركة كانت تُقلّل من قيمة ممتلكاتها بشكل تدريجي لتجنّب الضرائب. وعلى هذا النحو بحلول نهاية عام 1952، كانت إدارة أربينز قد استصلحت 40% من أراضي الشركة بتكلفة قليلة.
تشويه صورة حكومة غواتيمالا
لكنّ الشركة تحرّكت بسرعة حيث طلبت دعم الحكومة الأميركية لوقف الإدارة الغواتيمالية الجديدة.
وفي خمسينيات القرن العشرين أي في السنوات الأولى للحرب الباردة، بدأت شركة “يونايتد فروت” إستراتيجية صوّرت غواتيمالا عدوًا شيوعيًا في الصحافة الأميركية.
وكان وزير الخارجية الأميركي آنذاك جون فوستر دالاس محاميًا سابقًا للشركة. أما شقيقه ألين دالاس مدير وكالة الاستخبارات المركزية، فكان عضوًا سابقًا في مجلس إدارة الشركة. بدوره، كان مدير العلاقات العامة في الشركة إد ويتمان، متزوجًا من آن ويتمان، السكرتيرة الشخصية للرئيس دوايت أيزنهاور.
لم تكن الشركة مضطرة للضغط بقوة على الإدارة الأميركية آنذاك، فقد كان أيزنهاور حريصًا على أن يُظهر للعالم أوراق اعتماده المناهضة للشيوعية.
عملية “PBSuccess”
وبموجب أوامر أيزنهاور، بدأت وكالة الاستخبارات المركزية في التخطيط لعملية “PBSuccess” في أغسطس/ آب 1953؛ وكان الهدف المُعلن للعملية: “إزالة خطر حكومة غواتيمالا الحالية التي يسيطر عليها الشيوعيون سرًا”.
ولتحقيق هذا الهدف، قامت “سي آي إيه” بتجنيد ضابط عسكري سابق ساخط من أربينز يدعى كارلوس كاستيلو أرماس. حشد أرماس المشاعر المناهضة للحكومة وقام بتجميع جيش من بضع مئات من الرجال، تمّ تزويدهم ودعمهم بالمعدات والمعلومات الاستخباراتية في إطار عملية “PBSuccess”.
في 18 يونيو/ حزيران 1954، هاجم أرماس ورجاله بدعم لوجستي أميركي، حيث أطلقت”سي آي إيه” حملة دعائية، لتحذير الجمهور الغواتيمالي وأربينز من حدوث غزو كبير، مع إنشاء محطة إذاعية سرية شوّشت على موجات الأثير الغواتيمالية وإغراقها برسائل مبالغ فيها إلى حد كبير.
تم استئجار طيارين أميركيين ماهرين لقصف الحصون والنقاط الإستراتيجية الأخرى في مدينة غواتيمالا. واستخدمت “سي آي إيه” جواسيس داخل الجيش والحكومة الغواتيمالية لتقويض سلطة الرئيس أربينز، وإحباط معنويات مؤيديه، وعرقلة الجهود المبذولة لمواجهة أرماس.
نجحت الحرب النفسية التي شنّتها وكالة الاستخبارات المركزية، فسيطر الذعر على العاصمة وبدأ أنصار أربينز يفقدون ثقتهم. وعندما حاول إنشاء ميليشيا خاصة به، لم يحضر سوى بضع مئات من المدنيين.
وبعد 9 أيام من بدء العملية، استقال أربينز، وطلب اللجوء في السفارة المكسيكية ثمّ فرّ من البلاد.
ووصف دالاس الانقلاب بأنّه انتصار “للديمقراطية” على الشيوعية.
التداعيات البائسة لعملية “PBSuccess”
لكن سرعان ما ألقى أرماس القبض على عدة آلاف من زعماء المعارضة ووصفهم بالشيوعيين، كما ألغى الدستور الديمقراطي لعام 1945. وتمّ تفكيك الإصلاحات التقدمية مثل النقابات العمالية.
وبطبيعة الحال، رحّب بعودة شركة “يونايتد فروت” إلى العمل في البلاد.
وكان لهذا النظام الجديد آثار عميقة على غواتيمالا على مدار السنوات الـ30 التالية. وبين عامي 1960 و 1996، عاشت البلاد حربًا أهلية، حيث قاتل المتمردون اليساريون الذين يتمتعون بدرجة كبيرة من الدعم الشعبي ضد القوات الحكومية المزوّدة بالأسلحة الأميركية.
وكانت أكبر هذه الجماعات المتمرّدة هي “جيش الفقراء” والتي ضمّت ما يصل إلى 270 ألف عضو في وقت ما، معظمهم من عرقية المايا.
هاجم أرماس ورجاله بدعم لوجستي أميركي قصر الرئاسة في غواتيمالا- allthatsinteresting.com
وفي محاولة للقضاء على المعارضة، بدأ النظام سياسة “الأرض المحروقة” ضد معارضيه، حيث قام بسجن وإبادة عرقية المايا بشكل منهجي.
وخلصت لجنة التوضيح التاريخي (CEH) التي ترعاها الأمم المتحدة عام 1999، إلى أنّ تدريب الولايات المتحدة للضباط على تقنيات مكافحة التمرد “كان له تأثير كبير على انتهاكات حقوق الإنسان أثناء المواجهة المسلّحة”.
واليوم، تُعرف هذه الفترة من التطهير العرقي باسم “الإبادة الجماعية في غواتيمالا” أو “المحرقة الصامتة” التي قُتل فيها حوالي 200 ألف شخص، معظمهم من سكان المايا الأصليين.
وتمّ إخفاء الوثائق المتعلقة بعملية “PBSuccess” لعقود من الزمن، ولكن تمّ رفع السرية عنها في السنوات الأخيرة. وفي هذه العملية، أصبح تاريخ الولايات المتحدة الطويل والبغيض في التدخّل في البلدان النامية واضحًا على نحو متزايد.